
كيف تترجم؟! إعداد محمد حسن يوسف
Levels of Language Analysis
بتحديد الاستراتيجية التي يتبعها المترجم، نكون قد نجحنا في تحديد منهج واضح يسير المترجم على هديه، حتى يبدأ في الترجمة بالفعل. ولنفترض الآن أننا أعطينا المترجم رسالة ليقوم بترجمتها، وواجهت هذا المترجم صعوبة في فهم معنى كلمة ما. فما هي الخطوات التي ينبغي عليه إتباعها للتوصل إلى أدق معنى لهذه الكلمة؟ وعلى سبيل المثال، ففي العبارة:
This table is out of place.
ما هو المعنى الدقيق لكلمة table
؟ هل تعني منضدة أو جدول أو مائدة المفاوضات ... الخ؟
هناك أربعة معاني يجب على المترجم أن يبحث عنها بالترتيب. وهذه المعاني هي:
1- المعنى المعجمي Lexical Meaning:
فيجب على المترجم أن يبدأ بالبحث عن الكلمة في القاموس اللغوي، سواء كان آحادي اللغة أو ثنائي اللغة، للمساعدة في فهم معناها. على أن نلاحظ أن الكلمة المفردة دائما تكون على معنيين: معنى لغوي linguistic meaning
، ومعنى اصطلاحي technical meaning
. وعلى سبيل المثال، فإن كلمة interpretation
تعني التفسير لغويا أو التأويل دينيا، وكلمة commentator
تعني معلق لغويا أو مفسر دينيا ... وهكذا. وقد لا يكون القاموس هو المصدر الوحيد الجدير بالاعتماد عليه كحل أخير أو أفضل، حيث يكون على المترجم تخمين عدة معاني محتملة. ويشمل ذلك المعنى الذي يقصده المؤلف وتأويله الخاص للكلمة أو العبارة، بالإضافة إلى تعريف القاموس للكلمة. وإذا لم يستطع المترجم تحديد المعنى الدقيق المراد من هذه الكلمة، يبدأ بالبحث في المعنى التالي:
2- المعنى النصي Textual Meaning:
وهذا يعني أن على المترجم الاستعانة بالقواميس الثنائية اللغة المتخصصة في المجالات المختلفة، كالقواميس الطبية أو الهندسية أو الاقتصادية ... الخ. ذلك أن معنى الكلمة بمفردها قد يختلف عنه إذا وُضعت في سياق معين، أي إذا سبقتها أو تلتها كلمة معينة. وعلى سبيل المثال، فإن كلمة pure
تعني " نقي " أو " صافٍ ". ولكن هذه الكلمة قد يختلف معناها إذا تلتها كلمات أخرى – كما يلي:
لغة فصحى
pure language
pure man
رجل سليم الطوية – رجل نقي السريرة
رياضيات بحتة
pure mathematics
علوم تجريدية
pure sciences
ماء عذب
pure water
ذهب خالص أو حر
pure gold
مصري أبا عن جد
pure Egyptian
ملائكة أبرار أو أطهار
pure angels
وكذلك كلمة contain
تعني " يحتوي " أو " يتضمن ". ولكن معناها يختلف إذا وردت في نصوص معينة – مثل:
يحتوي أزمة
to contain a crisis
يتفادى عدو
to contain an enemy
يكتم المشاعر
to contain feelings
يتجنب التورط
to contain involvement
يتحاشى أفعال
to contain acts
وأيضا كلمة harsh
تعني " خشن " أو " قاسٍ ". ويختلف معناها في النصوص الأخرى كما يلي:
لغة فظة
harsh language
كلمات نابية
harsh words
ملابس خشنة / رثة
harsh clothes
رجل غليظ القلب
harsh man
وهكذا. وبالطريقة العكسية، فإن معنى كلمة واسع يختلف حسب السياق المذكور فيه الكلام كما يلي:
واسع النطاق
far-reaching
واسع الأفق
broad-minded
واسع الانتشار
wide-spread
واسع المعرفة
knowledgeable
واسع الصدر
patient – forbearance
واسع الرحمة
merciful
وكذلك كلمة يخفض:
يخفض الصوت
to lower pause / muffle
يخفض قيمة العملة
to devalue currency
يخفض سعر الفائدة
to moderate interest rate
to curtail government spending
يخفض الإنفاق الحكومي
يخفض التضخم
to curb inflation
فإذا لم يستطع المترجم كذلك تحديد المعنى المراد من الكلمة، يبدأ بالبحث في:
3- المعنى السياقي Contextual Meaning:
وهو المعنى الذي يمكن استخلاصه من سياق الكلام، ذلك أنه في بعض الأحيان قد تكون هناك كلمات لها معنى محدد، ولكن هذا المعنى يتغير كلية لوجود هذه الكلمات داخل سياق معين. وعلى سبيل المثال، فإن:
تستضيف الولايات المتحدة بطولة كأس العالم لكرة القدم في يونيه القادم.
نجد أن كلمة " تستضيف " يختلف معناها في هذا السياق عن الضيافة تماما، وإنما تعني هنا أن البطولة ستقام على أراضي الولايات المتحدة. ولذلك فإن الجملة السابقة تترجم إلى:
The football world cup will be held at USA in coming June.
ويمكن بحث هذه القضية بشكل أوسع من خلال تحليل النص العربي التالي، الذي ترجمه Nahmad
إلى الإنجليزية في كتابه From Arabic Press
:
النص العربي:
وذكر وزير الزراعة بأنه يضع النهضة بمستوى الزراعة في البلاد نصب عينيه. وأنه لن يدخر جهدا أن يجعل على قدر الإمكان في متناول المزارعين أحدث النتائج التي توصل إليها العلم الحديث باستخدام الوسائل الميكانيكية لغرض واحد هو تيسير وإنشاء زراعة عصرية حديثة ومنظمة.
الترجمة:
The Minister of Agriculture stated that he would keep before him the raising of the standard of agriculture in the country, and that he would spare no effort to place, as far as possible, the most recent innovations achieved by modern science within reach of the farmers, through the employment of mechanical aids, with one aim in view and that was the facilitating and building up of an up-to-date well-organized agriculture.
وبالنظر نظرة فاحصة للنص العربي، نجد أن المترجم في بعض الأحيان قام بإعطاء أكثر من مرادف في ترجمته لإحدى الكلمات الموجودة بالنص العربي. كذلك فإنه يحاول إضفاء لمسة جمالية على ترجمته عن طريق حذف بعض الكلمات أو التعبيرات، أو إضافة تعبيرات معينة بغرض التوضيح. ويمكن استخلاص النقاط التالية:
أولا: يعطي القاموس ( عربي – إنجليزي ) أكثر من كلمة يمكن استخدامها كمقابل لكلمة زراعة ( من زرع )، مثل farming
وagriculture
. واستخدم المترجم كلتا الكلمتين في ترجمته للدلالة على نفس الشيء: ففي العنوان استخدم الأولى، بينما استخدم الثانية في سياق النص. ولكن حينما أراد ترجمة الكلمة المشتقة ( مزارعين )، فقد فضل اشتقاقها من الكلمة الأولى، حيث استخدم كلمة farmers
.
ثانيا: في النص العربي، يمكن ترجمة كلمة ذكر بما يقابلها في الإنجليزية، مثل mentioned
أو said
. ولكن يفضل المترجم استخدام كلمة أخرى أقوى في الدلالة، وهي كلمة stated
. ويعطي هذا المقابل دلالة أقوى في النص الإنجليزي باعتبار أن الحديث للوزير.
ثالثا: في النص العربي، تعني كلمة " بلاد " ( جمع كلمة بلد ) جميع المدن الكبيرة والصغيرة والقرى الموجودة في بلد المتحدث. أما في الترجمة، استخدم المترجم كلمة country
بصيغة المفرد كمقابل لها، وهي تعطي نفس المعنى لحد ما. وهدف المترجم وراء ذلك هو تحقيق نوع من البساطة في توصيل المعنى.
رابعا: في النص العربي، تعني كلمة النتائج أي من results
أو outcomes
. ولكن المترجم استخدم كلمة مختلفة تماما في ترجمته، وهي كلمة innovations
، التي تعد أفضل كلمة تتناسب مع المعنى السياقي الذي وردت فيه الكلمة العربية. ومن الواضح أن المترجم بمحاولته هذه يحاول الارتقاء بالنص العربي، وذلك من خلال استخدام تأويله الخاص لمعنى الكلمات، ومن ثم اختيار مقابل أفضل في النص المترجم.
خامسا: في الترجمة، نجد أن كلمة in view
ليس لها ما يقابلها في النص العربي. ولكن المترجم يضيف هذه العبارة إلى النص المترجم بهدف توضيح المعنى المقصود من العبارة المستخدمة في النص العربي ( لغرض واحد ). ونجد أن من الواضح هنا أيضا أن المترجم يحاول الارتقاء بالنص المترجم.
سادسا: في النص المترجم، تقف كلمة up-to-date
كترجمة لكلمتين مختلفتين ولكن لهما نفس المعنى، وهما " عصرية حديثة ". ومن الواضح أن المترجم فضّل جمع معنى هاتين الكلمتين في كلمة واحدة، وذلك بهدف تقليل الإطناب redundancy
.
وإذا لم نستطع التوصل إلى المعنى المراد بعد ذلك، نلجأ أخيرا إلى:
3- المعنى الإيحائي Suggestive Meaning:
وهو المعنى الذي توحي به الكلمات في الجملة. فمثلا في الجملة:
On seeing the ghost, they stood motionless.
توحي كلمة motionless
بعدم الحركة. وتستخدم اللغة العربية عدة تعبيرات لهذا الموقف، مثل وقفت على رؤوسهم الطير، أو تسمروا في أماكنهم، أو تجمدت أوصالهم. وبالطبع فإن انتقاء أحد هذه التعبيرات يتوقف على الحس الأدبي. وهكذا تترجم الجملة السابقة إلى:
وقفوا بلا حراك لدى رؤيتهم للشبح
كذلك فإن جملة مثل:
توحي بأن الفتاة على قدر كبير من الجمال. ولكن عند الترجمة إلى اللغة الإنجليزية، لا نستطيع نقل هذا المفهوم كما هو، ذلك أن القمر في البيئة الإنجليزية ليس له نفس الإيحاء الذي يتميز به في لغة العرب. ولذلك يجب البحث عن مقابل الجمال في اللغة الإنجليزية، وليكن مثلا: Snow White
. وبذلك يمكن ترجمة الجملة إلى:
The girl is as fair as Snow White.
وكذلك لو قلنا:
The girl is as white as snow.
لا نستطيع أن نترجمها بالقول: هذه فتاة بيضاء كالثلج، فمفهوم الثلج في البيئة العربية غير مفهوم الثلج في البيئة الغربية. وقد يُفهم من الجملة السابقة أن هذا التشبيه للذم وليس للمدح. ولذلك فمن الأفضل القول:
وهذا التحليل ينقلنا خطوة إلى الأمام، حيث نخلص مما سبق إلى أن عملية الترجمة تُعنى في واقع الأمر بالبحث عن معادل أو مكافئ للنص الأصلي وليس إيجاد مقابل شكلي له.
لا يمكن لأية مناقشة لمبادئ الترجمة ومناهجها أن تعطينا معالجة لقضية الترجمة بمعزل عن المترجم نفسه. وبما أن المترجم يعتبر العنصر البؤري في عملية الترجمة، فإن دوره يعد محوريا بالنسبة للمبادئ والمناهج الأساسية في عملية الترجمة، ذلك أن المترجم نفسه يعتبر جزءا من البيئة الثقافية التي يعيش فيها.
وإذا أردنا من المترجم إنتاج رسالة مقبولة – رغم ما يجده من صعوبات ونكران للجميل – فلابد أن يكون ملما إلماما شاملا بخصائص اللغة المصدر، ولابد أن يسيطر في نفس الوقت على أدوات اللغة المنقول إليها. فهو لا يستطيع حتما أن يكافئ بين الكلمات مقتصرا على القاموس، بل لابد له أن يُحدث بالمعنى الحقيقي صيغة لغوية جديدة، لكي ينقل المفهوم الذي تعبر عنه اللغة المصدر. أي يجب أن يكون ضليعا well-versed
في كل من اللغتين اللتين يتعامل معهما.
وهناك بعض المتطلبات الأساسية التي يجب توافرها في المترجم. وأول هذه المتطلبات – كما سبق القول – هو وجوب معرفته التامة باللغة المصدر. فلا يكفي أن يكون المترجم قادرا على فهم " المغزى العام " للمعنى أو أن يكون ماهرا في استشارة القواميس ( فهو سيفعل ذلك حتى في أحسن الأحوال ). وإنما عليه بالإضافة إلى ذلك فهم الجوانب الدقيقة والحساسة للمعنى، والقيم الانفعالية السلوكية الهامة للكلمات، والخصائص الأسلوبية التي تحدد " نكهة وإحساس " الرسالة.
كما يجب عليه أن يكون ضليعا بالقواعد الحاكمة للغة المنقول إليها، وليس للمترجم بديل عن ذلك. ولعل أغلب الأخطاء المتعددة والخطيرة التي يقع فيها المترجمون تنشأ أساسا من افتقارهم للمعرفة الشاملة باللغة المنقول إليها.
وبالإضافة إلى ذلك، على المترجم أن يكون لديه معرفة خاصة بالموضوع الذي يترجمه. فيمكن مثلا أن يكون المترجم على علم جيد باللغة بوجه عام، ولكنه يجهل الكثير عن موضوعات مثل الفيزياء النووية أو الكيمياء العضوية. ففي هذه الحالة، لا تعتبر المعرفة العامة باللغة وافية كخلفية وكتجربة لترجمة المواد التقنية في مثل هذه الفروع. وبتعبير آخر، يجب على المترجم – بالإضافة إلى كونه ضليعا بقواعد وسلوك اللغتين المصدر والمنقول إليها – أن يكون على إطلاع شامل بمادة الموضوع الذي يترجمه.
وحتى مع توافر المعرفة التقنية الضرورية لدى المترجم، فلن يعتبر كفؤا ما لم يتوافر لديه بالإضافة إلى ذلك الرغبة النفسية الحقيقية. إذ يجب أن تتوافر لدى المترجم موهبة المحاكاة والقدرة على أداء دور المؤلف وتقمص سلوكه وكلامه ووسائله بأقصى درجة من الاحتمال.
وفي ذلك، يورد Justin O'Brien
رأيه في هذه القضية، فيقول: " على المترجم ألا يترجم أبدا أي شيء لا يثير إعجابه. فيجب أن تتواجد ألفة بين المترجم وبين ما يترجمه بقدر الإمكان ".
على أن المعرفة الشاملة باللغتين المصدر والمنقول إليها وبمادة الموضوع الذي يُترجم والرغبة النفسية الحقيقية لا تضمن الحصول على ترجمة فعالة في الواقع ما لم يتمتع المترجم بالإضافة إلى كل ما سبق بوجود حس أدبي literary taste
لديه. فيقول Nabocov
" لكي يكون للمترجم التأثير الكامل فيجب أن يتمتع في النهاية بقدر من الموهبة تتساوى مع قدر الموهبة التي يتمتع بها المؤلف الذي يختاره ".
وليس هناك مترجم يستطيع تجنب درجة معينة من التأثير الشخصي في عمله. فيتأثر المترجم باعتناق آراء المؤلف أو بالرسالة أو يتأثر بافتقاره لمثل هذا الاعتناق، وذلك أثناء تفسيره للرسالة المكتوبة باللغة المصدر وفي انتقائه للكلمات والصيغ النحوية المطابقة وفي اختياره للمكافئات الأسلوبية. ومن المفهوم تماما أن المعاني السلوكية التي يستخدمها المؤلف تؤثر في قيم المترجم المماثلة وتتأثر بها، ولا يمكن أن يكون الناتج بأية حالة هو نفس قيم المؤلف بالضبط.
ويتحتم على المترجم ألا يضم انطباعاته الخاصة إلى الرسالة، أو يحرّفها لتناسب تطلعاته الفكرية والانفعالية. ولابد له أن يبذل كل جهد ممكن لتقليل أي تدخل من جانبه لا يتناغم مع قصد وفحوى المؤلف الأصلي والرسالة الأصلية وذلك إلى أدنى حد ممكن.
ولا تحدث معظم الحالات المتعلقة بالتبديل غير الملائم للنص الأصلي بناء على رغبة واعية لتحوير الرسالة أو تحريفها، بل تنتج من سمات الشخصية اللاواعية التي تؤثر في عمل المترجم بطرق خفية. وتتضح هذه السمات بشكل كبير حينما يشعر المترجم بالميل إلى تحسين النص الأصلي أو تصحيح الأخطاء الجلية فيه أو الدفاع عن تحبيذ شخصي وذلك بتحريف ما يختاره من كلمات.
وتتناسب مخاطر الذاتية في عملية الترجمة مع مقدار التدخل الانفعالي الممكن من المترجم في الرسالة. ففي نصوص النثر العلمي، يصل هذا التدخل الذاتي إلى أدنى مستوى له. على أن هذا التدخل يصل عادة إلى أعلى مستوياته في حالة النصوص الدينية.
وفي بعض الحالات يؤدي الإحساس الخاص للمترجم بعدم الثقة إلى أن يصبح من الصعب عليه أن يترك الرسالة تتحدث عن نفسها. وفي حالات أخرى، يدفعه الغرور إلى القيام بالترجمة دون استشارة آراء الذين درسوا تلك النصوص دراسة وافية.
وهكذا فإن المترجم الكفء هو الذي يستطيع صقل المهارات أحادية اللغة monolingual skills
اللازمة للقيام بعمله على أكمل وجه، والمتمثلة في مهارات الاستماع listening
والتحدث speaking
والقراءة reading
والكتابة writing
.
ويجب التركيز هنا على الفرق بين المتحدث ثنائي اللغة Bilingual Speaker
والمترجم الكفء Competent Translator
. ويتمثل هذا الفرق في أن الأول يستطيع التعبير عن نفسه بلغتين، بينما الأخير يمكنه التعبير عما يريد أن يقوله الآخرين أو التعبير عن الآخرين بكفاءة. وهو بذلك لا يتدخل في تغيير معنى نص الرسالة المراد ترجمتها، كما أنه يستطيع أن ينحي انفعالاته الشخصية جانبا بقدر المستطاع، وأن يبرز انفعالات المؤلف أو الكاتب الأصلي بطريقة أمينة. وعلى ذلك فمقدرة المترجم الكفء على عملية الترجمة هي مقدرة تحتوي على أكثر من لغة.
وبدون استراتيجية الترجمة التي سبق الحديث عنها، لا يمكن لفرد ما أن يكون مترجما كفؤا. فلا يجب على المترجم أن يكون ملما بالقواعد الحاكمة للغتين اللتين يتعامل فيهما فقط، بل يكون عليه أيضا أن يستطيع النقل إليهما بكفاءة. وفي هذه الحالة، فإذا ما أعطيناه رسالة مكتوبة باللغة المصدر SL
، يكون عليه أن يعطينا ما يعادل هذه الرسالة بالضبط في اللغة المنقول إليها TL
.
وبذلك فيمكننا استنتاج افتراض Assumption
في غاية الأهمية، ألا وهو أنه لا يشترط أن يكون كل متحدث ثنائي اللغة مترجما كفؤا.
Not any bilingual speaker is a competent translator.
ومجمل القول، تعد مهمة المترجم مهمة في غاية الصعوبة ولا يجني من ورائها الشكر في معظم الأحيان. فحين يرتكب المترجم خطأ بسيطا ينتقده الناس بشدة، وحين ينجح في عمله لا يلقى إلا امتداحا لا يذكر، إذ غالبا ما تسود قناعة لدى الجميع بأن أي شخص يعرف لغتين يكون بإمكانه عمل ما قام به المترجم الذي عانى أشد المعاناة لإنتاج نص مكافئ.
على أنه حتى وإن كان امتداح الآخرين لعمل المترجم من الأمور النادرة، فإن مهمة الترجمة بحد ذاتها تحقق للمترجم الرضاء النفسي الذي يتطلبه. ذلك أن الترجمة الناجحة تتضمن تحديا فكريا من أعقد التحديات التي عرفتها البشرية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحاجة إلى التواصل الواسع والدقيق والفعال في عالمنا المعاصر بين من يتكلمون بلغات مختلفة يعطي للمترجم موقعا استراتيجيا جديدا في غاية الأهمية.
أورد Jakobson
ثلاثة تقسيمات للترجمة، نوردها فيما يلي:
النوع الأول، ويسمى بالترجمة ضمن اللغة الواحدة intralingual translation
. وتعني هذه الترجمة أساسا إعادة صياغة مفردات رسالة ما في إطار نفس اللغة. ووفقا لهذه العملية، يمكن ترجمة الإشارات اللفظية بواسطة إشارات أخرى في نفس اللغة، وهي تعتبر عملية أساسية نحو وضع نظرية وافية للمعنى، مثل عمليات تفسير القرآن الكريم.
النوع الثاني، وهو الترجمة من لغة إلى أخرى interlingual translation
. وتعني هذه الترجمة ترجمة الإشارات اللفظية لإحدى اللغات عن طريق الإشارات اللفظية للغة أخرى. وهذا هو النوع الذي نركز عليه نطاق بحثنا. وما يهم في هذا النوع من الترجمة ليس مجرد معادلة الرموز ( بمعنى مقارنة الكلمات ببعضها ) وحسب، بل تكافؤ رموز كلتا اللغتين وترتيبها. أي يجب معرفة معنى التعبير بأكمله.
النوع الثالث، ويمكن أن نطلق عليه الترجمة من علامة إلى أخرى intersemiotic translation
. وتعني هذه الترجمة نقل رسالة من نوع معين من النظم الرمزية إلى نوع آخر دون أن تصاحبها إشارات لفظية، وبحيث يفهمها الجميع. ففي البحرية الأمريكية على سبيل المثال، يمكن تحويل رسالة لفظية إلى رسالة يتم إبلاغها بالأعلام، عن طريق رفع الأعلام المناسبة.
وفي إطار الترجمة من لغة إلى أخرى interlingual translation
، يمكن التمييز بصفة عامة بين قسمين أساسيين:
1-الترجمة التحريرية Written Translation:
وهي التي تتم كتابة. وعلى الرغم مما يعتبره الكثيرون من أنها أسهل نوعي الترجمة، إذ لا تتقيد بزمن معين يجب أن تتم خلاله، إلا أنها تعد في نفس الوقت من أكثر أنواع الترجمة صعوبة، حيث يجب على المترجم أن يلتزم التزاما دقيقا وتاما بنفس أسلوب النص الأصلي، وإلا تعرض للانتقاد الشديد في حالة الوقوع في خطأ ما.
2-الترجمة الشفهية Oral Interpretation:
وتتركز صعوبتها في أنها تتقيد بزمن معين، وهو الزمن الذي تقال فيه الرسالة الأصلية. إذ يبدأ دور المترجم بعد الانتهاء من إلقاء هذه الرسالة أو أثنائه. ولكنها لا تلتزم بنفس الدقة ومحاولة الالتزام بنفس أسلوب النص الأصلي، بل يكون على المترجم الاكتفاء بنقل فحوى أو محتوى هذه الرسالة فقط.
وتنقسم الترجمة الشفهية إلى عدة أنواع:
أولا: الترجمة المنظورة At-Sight Interpreting:
أو الترجمة بمجرد النظر. وتتم بأن يقرأ المترجم نص الرسالة المكتوبة باللغة المصدر SL
بعينيه، ثم يترجمها في عقله، ليبدأ بعد ذلك في ترجمتها إلى اللغة المنقول إليها TL
بشفتيه.
ثانيا: الترجمة التتبعية Consecutive Interpreting:
وتحدث بأن يكون هناك اجتماعا بين مجموعتين تتحدث كل مجموعة بلغة مختلفة عن لغة المجموعة الأخرى. ويبدأ أحد أفراد المجموعة الأولى في إلقاء رسالة معينة، ثم ينقلها المترجم إلى لغة المجموعة الأخرى لكي ترد عليها المجموعة الأخيرة برسالة أخرى، ثم ينقلها المترجم إلى المجموعة الأولى ... وهكذا.
ومن الصعوبات التي يجب التغلب عليها في الترجمة التتبعية، مشكلة الاستماع ثم الفهم الجيد للنص من منظور اللغة المصدر نفسها. ولذلك فيجب العمل على تنشيط الذاكرة لاسترجاع أكبر قدر ممكن من الرسالة التي تم الاستماع إليها.
ثالثا: الترجمة الفورية Simultaneous Interpreting:
وتحدث في بعض المؤتمرات المحلية أو المؤتمرات الدولية، حيث يكون هناك متحدث أو مجموعة من المتحدثين بلغة أخرى عن لغة الحضور. ويبدأ المتحدث في إلقاء رسالته بلغته المصدر SL
ليقوم المترجم بترجمتها في نفس الوقت إلى لغة الحضور TL
.
وقد تحدثنا فيما سبق عن دور المترجم الذي يلعبه أثناء ممارسته للترجمة التحريرية. ويمكن هنا أن نلقي بعض الضوء على المتطلبات الواجب توافرها في المترجمين الذين يقومون بالترجمة الفورية.
فيجب أن يتصف المترجم الفوري بصفات معينة، من أهمها القدرة على سرعة الرد quick response
والقدرة على التركيز concentration
والتمتع بقدر كبير من هدوء الأعصاب relaxation
والقدرة على الاستمرار في الترجمة لمدة طويلة consistence
بالإضافة إلى الإلمام بحصيلة كبيرة من المفردات اللغوية vocabulary
. ويلاحظ أن حوالي ثلث الترجمة الفورية تعتمد على الثقة بالنفس self-confidence
.
وهناك صعوبات كبيرة تواجه المترجم الفوري، لعل من أهمها في الترجمة من العربية إلى الإنجليزية ما يتمثل في تأخر الصفة على الموصوف، ذلك أنه في اللغة الإنجليزية لابد أن تتقدم الصفة على الموصوف. ومثال ذلك، فالعربية تقول مثلا: الرجل الكبير. والمترجم الفوري لن يستطيع الانتظار حتى يسمع بقية الجملة كلها ثم يبدأ في الترجمة، فهو يقوم بالترجمة أولا بأول.
ومن الصعوبات التي تواجهه أيضا في هذا الصدد، تأخر الفاعل في الجملة الفعلية. فيقال مثلا: لا يلبث أن ينكشف زيفه. ومن المعلوم أن الجملة الإنجليزية تبدأ بالفاعل ... وهكذا.