اتشرف بان اشارك باحدى كتابات استاذى الدكتور / محمد البلتاجى (رائد المصرفية الاسلامية ) والمقدمة الى الندوة الاقتصادية الاولى التى ستعقد فى 21/1/2009 بالرياض تحت عنوان (الازمة المالية العالمية الاسباب ومقترحات الحل ) بمقر الملحقية الثقافية بالرياض والمشاركة كما هى بدون ادنى تدخل منى .
بسم الله الرحمن الرحيم
البدائل في الاقتصاد الإسلامي
أولا - تحليل لأزمة الأسواق المالية العالمية :
تعصف توابع أزمة الرهن العقاري بالأسواق المالية العالمية والإقليمية والمحلية علي حد سواء ، وإذا أردنا سريعا تحليل أسباب تلك الأزمة نجد أنها بدأت وفق آراء الكثير من المحللين نتيجة توقف المدينين ( المقترضين ) من البنوك الأمريكية عن السداد نتيجة فقد الآلاف لوظائفهم وعدم قدرتهم علي سداد أقساط العقارات التي تم اقتراض ثمنها من تلك البنوك في الموعد المحدد ( قرض بفائدة ) ، ثم تلي ذلك قيام تلك البنوك بتحويل تلك المديونيات المتعلقة بالعقارات إلي سندات ( بيع الديون ) بأسعار فائدة حيث تم بيعها إلي مستثمرين ، وقام بعض المستثمرين بالإقتراض من البنوك بضمان تلك السندات ( خلق نقود ) بضعف قيمتها ( قروض علي ديون ) ، ثم قامت تلك البنوك بالتأمين علي تلك السندات والقروض لدي شركات التأمين التقليدية ( التأمين التجاري عن طريق شراء المخاطر ) ، وعندما توقف المدينين عن السداد توقفت حلقة القروض بفائدة ( الاقتصاد المالي وليس الاقتصاد الحقيقي ) بالكامل وأفلست شركات التأمين نتيجة سداد قيمة التأمين علي السندات وتوقفت البنوك عن سداد أرصدة الودائع لعدم توافر السيولة النقدية نتيجة خلق النقود ومنح قروض بفائدة بقيمة اكبر من رصيد الودائع المتاح لدي تلك البنوك والذي يتم بموافقة البنوك المركزية .
ومن هنا بدأت سلسلة توقف البنوك عن السداد وما أعقب ذلك من إفلاس العديد من المؤسسات المالية وعلي راسهم رابع أكبر البنوك الأمريكية " ليمان براذرز " مما سبب الذعر في السوق المالي الأمريكي وبدا المستثمرون في بيع الأوراق المالية بأي سعر مما أدي إلي إنزلاق البورصات الأمريكية في خسائر تقدر يوميا بالمليارات ، وأدي ذلك إلي تدخل سريع من الحكومة الأمريكية باتخاذ العديد من الإجراءات منها خفض سعر الفائدة ومنع البيع علي الهامش ( بيع ما لا تملك ) وضخ أكثر من 700 مليار دولار فيما يسمي بخطة الإنقاذ ، وعلي الرغم من ذلك فقد صرح وزير الخزانة الأمريكي بأن هذه الإجراءات لن تمنع الكثير من البنوك والشركات من الإفلاس وخاصة الشركات التي تعتمد علي تمويل من البنوك نتيجة عدم قدرة تلك البنوك علي توفير السيولة النقدية لتمويل الاحتياجات المالية لتلك الشركات .
وانتقلت تلك الأزمة إلي الأسواق الأوربية نتيجة قيام البريطانية وألمانية وغيرها بشراء سندات الرهن العقاري من البنوك الأمريكية إضافة إلي الإقراض بضمان السندات بقيمة أكبر من القيمة الأسمية لتلك السندات والتي لا يوجد لها تغطية لتنال البنوك الأوربية نصيبها من أزمة الأسواق المالية الأمريكية وتتحول إلي أزمة مالية عالمية تذكرنا بما حدث في ثلاثنيات القرن الماضي مع الكساد العظيم عام 1929 م .
ولم تسلم البورصات العربية من تلك الأزمة مع الذعر الذي دب في جميع الأسواق المالية العالمية حيث تأثرت بشدة بورصات دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والتي إنخفضت مؤشرات بورصاتها بصورة لم يسبق لها مثيل علي الرغم من الإجراءات التي اتخذت من قبل المسئولين بتلك الدول وإعلانها عن ضمان ودائع العملاء كاملة وخفض اسعار الفائدة وعدم السماح بإفلاس أي بنك ، ولكن كل ذلك لم يبعث بالطمأنينة إلي نفوس المستثمرين ولم يؤت ثمارة بعد .
ثانيا - تلخيص اسباب الأزمة المالية العالمية :
ويمكن تلخيص اسباب الأزمة المالية العالمية والتي تعصف بأسواق المال بما فيها من بنوك دولية وشركات ومؤسسات تأمين دولية في العناصر التالية ( القروض بفائدة ، بيع الديون ، خلق النقود ، إصدار سندات بفائدة ، التأمين التجاري القائم علي شراء المخاطر ، البيع علي الهامش .
ثالثا - البدائل في الاقتصاد الإسلامي :
وكل ما سبق من المحرمات في الشريعة الإسلامية والتي تم النص عليها في " فقه المعاملات " والذي يستمد الاقتصاد الإسلامي منه مقوماته ، حيث يعتمد الاقتصاد الإسلامي علي العديد من الآليات والقواعد المستمدة من الشريعة الإسلامية والتي تحفظ للمال مكانته وتوجهه للاستخدام الأمثل من حيث وظيفتة الاساسية علي اعتبار أنه وسيلة للتبادل وليس سعلة تباع وتشتري .
ويتضمن الاقتصاد الإسلامي العديد من القواعد الاقتصادية والمالية التي تعد بديلا للاقتصاد الراسمالي الذي ثبت فشلة وذلك وفقا لأراء العديد من الخبراء الاقتصاديين ولمقولة رئيس الوزراء الفرنسي ساركوزي حيث قال " إن النظام الاقتصادي العالمي الذي تتزعمة أمريكا والقائم علي اقتصاد السوق لم يعد قادرا علي احتواء التغيرات التي تطرأ علي الاقتصاد العالمي ، وإن النظام الرأسمالي الذي تتمسك به أمريكا بات معرضا للانهيار ، وإن من واجب العالم أن يبحث عن نظام اقتصادي جديد مستقر ، يؤمن وجود علاقات اقتصادية سليمة وعادلة بين دول العالم " ، ويحضرني في تلك المناسبة ما قالة منذ سنوات الأمين العام السابق للأمم المتحد كوفي أنان حيث قال " أن افضل طريقة لتمويل الدول النامية هي المشاركة وليس القرض " .
ويمكن القول أن الاقتصاد الإسلامي قد أوجد البدائل لتلك الأسباب التي أدت إلي العصف بالأسواق المالية العالمية وبإثبات فشل النظام الراسمالي في إدارة إقتصاديات العالم كما ثبت سابقا فشل النظام الإشتركي والذي إنتهي في أيام معدودات .
فما هي تلك البدائل التي قدمها الاقتصاد الإسلامي ، في البداية يتعامل الاقتصاد الإسلامي مع النقود علي أنها وسيلة للتبادل وليست سلعة تباع وتشتري حيث قال عمر بن الخطاب رضي الله عنة " النقود رؤوس أموال وجدت ليتجر بها لا فيها " فالنقود هي وسيط للتبادل ومعيار لتقويم السلع والخدمات وليست سلعة تباع وتشتري ، والنقود لا تلد نقودا ، كما أن التمويل في الشريعة الإسلامية يعتمد علي " صيغ للتمويل " مثل المرابحة والمشاركة والاستصناع والتأجير وليس القروض بفائدة حيث أن محل العقود التمويلية هي سلع وبضائع وأصول وليس بيع نقد بنقد مع زيادة فائدة ، وتلك العقود التمويلية لا تعتمد في احتساب الربحية علي أسعار الفائدة وإنما تعتمد علي" هامش للربحية " مع مشاركة العميل للربح أو الخسارة ، كما يمنع الاقتصاد الإسلامي بيع الدين وهو من اهم اسباب الأزمة العالمية حيث نهي رسول الله صلي الله علية وسلم عن " بيع الكالئ بالكالئ " أي بيع الدين بالدين ، حيث يعد الدين نقودا ، والنقود لاتباع إلا نقد بنقد يدا بيد حيث " لا تباع النقود مؤجلة " ، كما أن من اهم مبادي الاقتصاد الإسلامي عدم بيع ما لاتملك " ما يسمي البيع علي الهامش " والذي يعد من أهم أسباب الأزمة المالية العالمية " ، حيث نهي رسول الله صلي الله علية وسلم عن بيع ما لا نملك حيث قال لحكيم ابن حزام " لا تبع ما لاتملك " .
كما منع الاقتصاد الإسلامي بيع المخاطر والتي يقوم عليها التأمين التجاري حيث أوجد " التأمين التعاوني" وفق نظام التكافل وليس بيع المخاطر ، كما أن المصارف الإسلامية والتي تعد التطبيق العملي للاقتصاد الإسلامي " لا تقوم بخلق النقود " وبمعني مصرفي لا تقوم بمنح تمويل للمتعاملين إلا في حدود الودائع الاستثمارية الموجودة لديها حيث يتم التأكد من استخدام المال في الغرض المخصص له ولا يمنح تمويل بدون وجود تمويل حقيقي له ، وهو ما يسمي " بالاقتصاد الحقيقي " ، وبذلك يتعادل العرض من النقود مع السلع والمنتجات في السوق الاقتصادي ، والبديل الأخير لأسباب الأزمة أن الاقتصاد الإسلامي لا يتعامل مع السندات بفائدة وإنما يتعامل من خلال " صكوك الاستثمار " والتي يتم إصدارها مقابل اصول ثابتة ومعاملات حقيقة وليست وهمية .
رابعا : المقترحات العشر لمواجهة الأزمة :
تناولنا فيما سبق بالتحليل أسباب وتطور أزمة الرهن العقاري والتي ما زالت تعصف بالأسواق المالية العالمية والإقليمية علي الرغم من اتخاذ الدول للعديد من الإجرءات للحد من نتائج وتوابع تلك الأزمة ، وفيما يلي بعض المقترحات التي تعتمد في غالبيتها علي مبادئ الاقتصاد الإسلامي والتي قد تساهم في مواجهة تلك الأزمة :
1 – استمرار الدول في " ضخ السيولة النقدية " بالأسواق المالية وذلك لمقابلة السحوبات النقدية من المودعين ، وتوفير السيولة النقدية للمصانع والشركات والتي تحتاج إلي تمويل من البنوك لتمويل عملياتها الإنتاجية ، وهو ما قامت به العديد من الدول .
2 – قيام الحكومات بإعلان " ضمان الودائع " للمودعين بحيث تحافظ علي الثقة بالجهاز المصرفي والذي يشكل عصب الاقتصاد القومي للدول ، وهو ما قامت به أيضا العديد من الدول .
3 – إلزام الحكومات للبنوك " بالتوقف عن بيع الديون " وهو محرم بالشريعة الإسلامية حيث نهي رسول الله صلي الله علية وسلم عن " بيع الكالئ بالكالئ " أي بيع الدين بالدين ، كما يجب " منع جدولة الديون " حيث يتم زيادة المدة مقابل زيادة الفائدة وهو محرم في الشريعة الإسلامية حيث أن النقود لا تلد نقودا.
4 – إلزام الحكومات للبنوك " بالتوقف عن البيع علي الهامش " وهو أحد أدوات المشتقات المالية والتي انتشرت في الآونة الأخيرة وهو محرم بالشريعة الإسلامية حيث نهي رسول الله صلي الله علية وسلم عن بيع ما لا نملك حيث قال " لا تبع ما لاتملك " ، وهي أولي الخطوات التي اتخذتها الحكومة الأمريكية في بداية الأزمة عندما أعلن الرئيس الأمريكي عن منع البيع علي الهامش .
5 – إلزام الحكومات للبنوك " بالتوقف عن خلق النقود " حيث تقوم البنوك بالإقراض بضعف ما لديها من ودائع ، مع منع الإقراض مقابل السندات ، واستخدام " صكوك الاستثمار " كأدة مالية لتمويل الحكومات والشركات الكبري بديلة عن السندات بفائدة .
6 – العمل علي " منع الممارسات الإحتكارية " لبعض البنوك والشركات من خلال تحميل المدينين بفوائد عالية ، حيث نهي الشرع عن الاحتكار ، وقال رسول الله صلي الله علية وسلم " المحتكر ملعون والجالب مرزوق " .
7 – استخدام " صيغ التمويل الإسلامية " من مرابحات ومشاركات واستصناع بديلا عن القروض بفائدة وهي محرمة بإجماع العلماء ، ومن مميزات التمويل الإسلامي أن محل العقود هي سلع وبضائع وليس نقود وهذا يخلق التوازن في العرض بين السلع والنقود ، كما يساعد التطبيق العملي لصيغ التمويل الإسلامي علي تأكد المصرف من استخدام التمويل في الغرض المخصص له .
8 – استخدام المصارف " لهامش الربحية " بديلا عن اسعار الفائدة ، واستخدام " مبدأ المشاركة في الربح والخسارة " والذي يعد حافزا لجميع الأطراف لنجاح المشروع.
9 – أن تعمل شركات التأمين التقليدية وفق مبدأ " التأمين التعاوني " والبعد عن شراء المخاطر واستخدام منهج التكافل المتوافق مع احكام الشريعة الإسلامية .
10 – زيادة " الرقابة المصرفية " من قبل البنوك المركزية علي المؤسسات المالية بغرض التأكد من الإلتزام بمقررات لجنة بازل والعمل علي تخفيض المخاطر المصرفية والتأكد من تطبيق ضوابط منح التمويل .
وقد يري البعض أن العديد من تلك المقترحات يعتمد علي تدخل الدولة المباشر في حل تلك الأزمة ، هذا الآمر يتفق مع مبادئ المالية العامة بالاقتصاد الإسلامي حيث يشكل تدخل الدولة عاملا هاما في ضبط الأسواق المالية ، حيث أن للدولة دورا هاما في حالة الكساد من خلال القيام بتمويل تنفيذ بعض المشروعات الاستثمارية للعمل علي دوران عجلة الانتاج وقد قام بذلك عم بن الخطاب رضي الله عنه في عام المجاعة ، كما أن لها دورا في حالة التضخم في محاولة كبح والسيطرة علي أسباب التضخم ، حيث لا يمكن ترك مصير اقتصاد الدول للمؤسسات الخاصة وقد ثبت فشل مقولة " دعه يعمل دعه يمر " بلا ضوابط فلابد من وجود ضوابط لتعامل المؤسسات المالية بالأسواق ، ولا يكون معيار الربحية هو المحرك الرئيسي للشركات بل هناك " ضوابط أخلاقية وإجتماعية " يجب الإلتزام بها وهو ما يعتمد علية النظام الاقتصادي الإسلامي من "منع الغرر والغش والتدليس والجهالة وأكل اموال الناس بالباطل " ، حيث أن المحافظة علي المال وتنميتة بالمجتمع واجب ويعد من مقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة وهي " حفظ النفس ، الدين ، العقل ، النسل ، والمال " .
إن تلك المقترحات العشر والتي تعتمد علي مبادئ الاقتصاد الإسلامي هي إجتهاد قد يساهم في الحد من الأزمة والتي كلفت دول العالم خسائر تقدر بمليارات الدولارات وفقد الألاف لوظائفهم ومنازلهم ، ويحضرني في هذا السياق ما قاله " رئيس تحرير مجلة تشالينجز " منذ أيام عن الأزمة المالية حيث قال " أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلي قراءة القرآن لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا لأنه لو حاول القائمون علي مصارفنا إحترام ما ورد في القرآن الكريم من تعاليم وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات وما وصل بنا الحال إلي هذا الوضع المزري لأن النقود لا تلد نقودا" .
ولا يوجد تعليق سوي أن النظام الاقتصادي الإسلامي به العديد من الحلول لتلك المشكلات ولكن تحتاج إلي صياغة وبلورة حتي تكون قابلة للاستخدام .
د/ محمد البلتاجي
خبير في المصرفية الإسلامية
www.bltagi.com