إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 11-30-2009, 09:23 PM
  #1
وليد الجد
 الصورة الرمزية وليد الجد
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
الدولة: مصر / الزقازيق
المشاركات: 496
افتراضي مدى حجية وسائل الإثبات المعاصرة في القضاء الإسلامي

مدى حجية وسائل الإثبات المعاصرة
في القضاء الإسلامي
الدكتور فخري خليل أبو صفية
جامعة اليرموك إربد- الأردن
المقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على معلم الناس الخير سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن سار على دربه إلى يوم الدين وبعد:
تهدف هذه الدراسة إلى بيان أهمية القضاء الإسلامي وأنه لا يمكن الاستغناء عن إقامته في أي عصر، كما تبين الدراسة أهمية الوسائل الشرعية لإثبات الحقوق أمام القاضي، لأنها من أهم ما يحتاج القاضي إلى معرفته، لأنه لا بد له وهو يحكم في خصومات الناس المعروضة عليه من أن يكون قضاؤه مثالاً للعدل والنزاهة التي يقوم عليها القضاء في الإسلام، حتى يحقق الأمن والطمأنينة بين أفراد المجتمع المسلم. ولا يتأتى ذلك إلا أن يتحقق علمه بوقائع الدعوى وحكم الله فيها.

ومن هذه الوسائل المعاصرة وموقف القضاء الإسلامي منها من حيث حجيتها، حيث ستتعرض هذه الدراسة للبصمات، والتحاليل المخبرية، والتعرف على المجرم عن طريق الكلب البوليسي، والصور بأنواعها والتسجيل الصوتي وغيرها من الوسائل الحديثة، لإظهار عظمة القضاء الإسلامي وصلاحه لكل عصر في تشريعاته الخالدة. وسيقتصر حديثنا هنا عن وسائل الإثبات المعاصرة في القضاء الإسلامي وذلك في مبحثين:

الأول: مذاهب العلماء في العمل بالقرائن كوسائل إثبات للحقوق.

الثاني: مدى حجية وسائل الإثبات المعاصرة في القضاء الإسلامي.

المبحث الأول: مذاهب العلماء في العمل بالقرائن كوسائل إثبات للحقوق.

إن القضاء ركن من أركان النظام السياسي في الإسلام، وهو عنوان حضارة ورقي للأمة، لأن أساسه العدل بين الناس، يتحقق عن طريقه نصفة المظلوم وإيصال الحقوق إلى أصحابها ومنع الظالم من ظلمه، وفصل الخصومات بين الناس، وذلك ليعيش الناس في أمان على أعراضهم وأموالهم ونفوسهم، وهذا أهم مقاصد الشريعة الإسلامية.
ولا يتحقق ذلك إلا بإقامة القضاء، ووجود القاضي العادل. ولعظيم منزلته جعله الله من وظائف الرسل، وباشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وعين عليه، إلى أن أصبح ركنا من هذا الدين، فاعتنى به الخلفاء ووضعوا له قواعد وأحكام، ثم كانت عناية الفقهاء به كبيرة خاصة بعد استقلاله عن سلطة الخليفة مع بقائه تحت رقابته وإشرافه، فوضعوا شروطه وأحكامه واختصاصاته وآدابه وذلك لشدة حاجة الناس إليه، فلا انتظام للحياة بدونه.

كما أنه يقع فيه الحسد كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها) رواه البخاري في باب العلم.

ففيه بعثت الرسل وبالقيام به قامت السماوات والأرض. لهذا كانت ولاية القضاء في الإسلام من أخطر الولايات، لأن فيها الحكم على أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم، وقد تهفو النفس للإقبال على منصب القضاء، طمعاً في أمر دنيوي، فيكون بذلك عرضة للظلم والمحاباة، والقضاء أساسه العدل.

يقول ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين عن خطورة القضاء: "ولخطر القضاء جاء في القاضي من الوعيد والتخويف ما لم يأت نظيره في غيره، كما رواه أبو داود الطيالسي من حديث عائشة رضي الله عنها: أنها ذكر عندها القضاء فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة، فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين أثنين في ثمرة قط".

وفي السنن من حديث ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، القضاة ثلاثة: اثنين في النار وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى بين الناس بالجهل فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار فهو في النار".

أما عن أهمية طرق إثبات الحقوق، أو الوسائل الشرعية لإثبات الحقوق أمام القاضي، فتظهر من خلال خطورة منصبه، والقاضي الذي بيده أرواح وأموال وأعراض الناس ليحكم فيها، فإنه لا يتمكن من الفصل في النزاع بين الناس بدون لجوئه لطرق إثبات الحقوق.
كما أنها من أهم ما يحتاج القاضي إلى معرفته، لأنه لا بد له وهو يحكم في خصومات الناس المعروضة عليه، من أن يكون قضاؤه مثالاً للعدل والنزاهة التي يقوم عليها القضاء في الإسلام، حتى يتحقق الأمن والطمأنينة بين أفراد المجتمع المسلم، ولا يتأتى ذلك إلا بعد أن يتحقق علمه بوقائع الدعوى وحكم الله فيها.
والعلم بوقائع الدعوى إما أن يكون بالمشاهدة أو بالوصول إليها عن طريق التواتر، الذي يصل إليه بضيق وحرج بسبب ضياع كثير من الحقوق. لذلك أجاز الشارع قبول الحجة الظنية بعد أخذ الحيطة.

واكتفى في العلم بوقائع الدعوى أن يكون عن طريق إقرار المدعى عليه، أو سماع الشهود العدول مع احتمال كذب المقر وكذب الشهود، لكن المعتاد ألا يكذب الإنسان على نفسه بحق يلزمه، كما أن المعتاد أن الشهود العدول لا يكذبون.
وأما علمه بحكم الله، فهو أن يكون معرفته بالنصوص القطعية من القرآن أو السنة النبوية، أو ما اجمع عليه العلماء وإلا فيكون عن طريق الاجتهاد.
وطرق الإثبات أمام القاضي على أنواع كثيرة، منها ما اتفق عليه العلماء، ومنها ما اختلف فيه، وطرق الإثبات هي: أي حجة تؤيد الدعوى ويصل بها القاضي إلى الحق.

وقد أوصلها ابن القيم إلى ست وعشرين طريقاً، واستدل عليها بما ورد من قرآن أو سنة، أو آثار عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما أن الدعوى تعتبر مقدمة ضرورية لإيجاد حادثة يتوارد عليها واحد من هذه الطرق أمام القاضي. وحقيقة الدعوى في عرف الفقهاء: قول مقبول عند القاضي يقصد به قائله طلب حق معلوم قبل غيره حال المنازعة، أو دفعه عن حق نفسه. ويقول ابن قدامه في تعريفها: الدعوى في الشرع إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شي في يد غيره أو في ذمته.

مع العلم أن القضاء الحديث لم يعرف إلا ثلاث حجج تثبت الحقوق وهي الإقرار والبينة والنكول عن الحلف، وهذا ما ذكره محمد سلام مدكور في كتابه القضاء في الإسلام حيث يقول:
وكانت لائحة المحاكم الشرعية سنة (1897) هي أول ما نصت على طرق الإثبات فقد تضمنت مادتها (24) أن الحجج ثلاث: الإقرار والبينة والنكول عن الحلف.

ولم يذكر اليمين لأنها توجه رجاء النكول، ولم يذكر القسامة لأن المحاكم الشرعية وقت صدور هذه اللائحة كانت قد سلب من ولايتها الفصل في الدماء.
ولم تنص على علم القاضي لاستقرار المتأخرين على عدم اعتباره دليلاً لفساد الزمان.
ولم تعتبر القرينة أيضاً لوجود خلاف في اعتبارها، وفي سنة (1931) صدر قانون (78) الخاص بالمحاكم الشرعية، وجاء في المادة (124) أن الأدلة الشرعية هي ما يدل على الحق ويظهره من إقرار وشهادة ونكول عن الحلف وقرينة قاطعة. فزادت القرينة القاطعة. وإذا كانت الأدلة وردت في المادة على سبيل الحصر فانه يوجد بجوارها الاعتماد على الأوراق وان لم تكن مشتملة على إقرار وكذا معاينة القاضي لمحل النزاع.

القرائن في اللغة: جمع قرينة على وزن فعيلة وهي: أمر يدل على شيء أو يشير إليه[1].
ثم كان المراد من القرائن الإمارات والعلامات التي يستدل بها على وجود شيء أو نفيه. كما لو رأينا رجلا مكشوف الرأس وليس ذلك من عاداته، وأخر هارب أمامه بيده عمامة وعلى رأسه عمامة، حكمنا له بالعمامة التي بيد الهارب قطعا وذلك للقرنية الظاهرة التي هي أقوى بكثير من البينة والاعتراف[2].

وعلى هذا فهل تعتبر القرائن من طرق إثبات الحقوق أمام القاضي، وللقاضي أن يأخذ بها أم لا؟ هذا ما سنفصله : يقول ابن القيم في ذلك[3]:

وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك ومعترك صعب فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق، وجرءوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعا أنه حق مطابق للواقع ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع، ولعمر الله أنها لم تناف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأفرطت طائفة أخرى فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله. وكلتا الطائفتين أتت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتبه.

فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه. بل قد بين الله سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده العدل بين عباده . وقيام الناس بالقسط. فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له. وإنما هي عدل الله ورسوله ظهر بهذه الأمارات والعلامات[4].

وكلام ابن القيم هذا يدل على اعتبار القرينة في الشرع وانها الحق. والواقع أن الإسلام اعتبر القرائن ولم يهدرها بدلالة ترتيب الأحكام عليها.

وقد أخذ باعتبار القرائن ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة والقرافي وابن فرحون وابن الجزي من المالكية والزيلعي وابن عابدين من الحنفية.
يقول ابن فرحون: أن من طرق القضاء في المذهب المالكي الأخذ بالقرائن والأمارات الدالة على الرضا وقال بهذا المالكية والحنابلة[5].

ولاعتبار القرائن من وسائل أثبات الحقوق أمام القاضي أدلة من القران والسنة وعمل الحكام مالا حصر له نذكر منها:
1- فقد حبس رسول اللهصلى الله عليه وسلم في تهمة وعاقب في تهمة لمّا ظهرت أمارات الريبة على المتهم.
2- وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الملتقط أن يدفع اللقطة إلى واصفها، "وأمره أن يعرف عفاصها ووعاءها ووكاءها " فجعل وصفه لها قائما مقام البينة، بل ربما يكون وضعها أظهر وأصدق من البينة[6].
3- وفي هذا الأمر ما ذكره أبن القيم رحمه الله من قصة المرأتين مع داود وسليمان عليهما السلام إذ يقول:

ولا ننسى في هذا الموضع نور نبي الله سليمان عليه السلام للمرأتين اللتين ادعتا الولد. فحكم داود عليه السلام للكبرى، فقال سليمان: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فسمحت الكبرى بذلك، وقالت الصغرى لا تفعل رحمك الله هو ابنها. فقضى به للصغرى.

فأي شيء أحسن من اعتبار هذه القرينة الظاهرة، فاستدل برضا الكبرى وأنها قصدت الاسترواح إلى التأسي بمساواة الصغرى في فقد ولدها. وأن شفقة الصغرى عليه. وامتناعها من الرضا بذلك دل على أنها أمه، وأن الحامل لها على الامتناع من الدعوى ما قام بقلبها من الرحمة والشفقة التي وضعها الله في قلب الأم. فقويت هذه القرينة عنده حتى قدمها على إقرارها. فإنه حكم به لها من قولها هو ابنها.

وهذا هو الحق فإن الإقرار إذا كان لعلة اطلع عليها الحاكم لم يلتفت إليه أبدا.
1- ومن ذلك أيضا: قول الشاهد الذي ذكر الله تعالى شهادته ولم ينكرها عليه، بل لم يعبه، بل حكاها مقررا لها فقال تعالى: ﴿واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم، قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها أن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم﴾[7]. فتوصل بقد القميص إلى تمييز الصادق منهما من الكاذب[8].
2- وشاهد آخر على ذلك في قصة يوسف عليه السلام في قوله تعالى: ﴿وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون﴾[9].

يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الإمارات والأخذ بها في مسائل من الفقه كالقسامة وغيرها.

وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام استدل على كذبهم بما رآه من سلامة القميص وعدم تمزقه، حتى روى أنه قال لهم: متى كان هذا الذئب حكيما يأكل يوسف ولا يخرق القميص؟[10].
3- ومن الأدلة أيضا ما ذكره ابن القيم بقوله: وهل يشك أحد رأى قتيلا يتشحط في دمه، وأخر قائما على رأسه بالسكين أنه قتله، ولاسيما إذا عرف بعداوته. ولهذا جوز جمهور العلماء لولي القتيل أن يحلف خمسين يمينا أن ذلك الرجل قتله.

ثم قال مالك وأحمد يقتل به، وقال الشافعي: يقضى عليه بديته. ثم يقول: وهل القضاء بالنكول إلا رجوع إلى مجرد القرينة الظاهرة التي علمنا بها ظاهرا أنه لولا صدق المدعى عليه دعواه باليمين، فلما نكل عنها كان نكوله قرينة ظاهرة دالة على صدق المدعي، وقدمت على أصل براءة الذمة[11].

وعمل بالقرائن خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأمثلة ذلك كثيرة منها:
ما حكم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة معه، برجم المرأة التي ظهر بها حمل ولا زوج لها ولا سيد.
وذهب إلى ذلك مالك وأحمد في أصح الرواية عنه اعتمادا على القرينة الظاهرة.
وحكم عمر وأبن مسعود رضي الله عنه ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة بوجوب الحد برائحة الخمر من فيء الرجل، أو قيئه خمرا اعتمادا على القرينة الظاهرة[12].
ولم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم، وهذه القرينة أقوى من البينة، والإقرار فإنها خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب، ووجود المال معه نص صريح لا يتطرق إليه شبهة[13].
واعتبر من القرائن الحكم بالقافة والفراسة: فقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده بالقافة، وجعلها دليلا من أدلة ثبوت النسب، وليس هنا إلا مجرد الإمارات والعلامات. وقال بعض العلماء: ومن العجب إنكارا لحقوق النسب بالقافة التي اعتبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل بها الصحابة من بعده، وحكم بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه[14].

أما الفراسة: فلا يمنع أن تكون من القرائن، فالشرع لم يلغ القرائن والأمارات ودلائل الأحوال، بل من استقرى الشرع في مصادره وموارده وجده شاهدا لها بالاعتبار مرتبا عليها الأحكام. وقول أبى الوفاء ابن عقيل ليس هذا إلا فراسة، فقال: ولا محذور في تسميته فراسة، فهي فراسة صادقة، وقد مدح الله سبحانه الفراسة وأهلها في مواضع من كتابه فقال تعالى: ﴿إن في ذلك لآيات للمتوسمين﴾[15]. وهم المتفرسون الآخذون بالسيما وهي العلامة.

يقال: تفرست فيك كيف وكيف وتوسمته. وقال تعالى: ﴿ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم﴾ (آية 30 محمد)، وقال تعالى: ﴿يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم﴾[16]. وفي جامع الترمذي مرفوعا: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله).

ثم يبين أبن القيم في موضع أخر العمل بالأمارات والفراسة فيقول: ولم يزل حذاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات، فإذا ظهرت لم يقدموا عليها شهادة تخالفها ولا إقرارا:
1- من ذلك ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أتته امرأة فشكرت عنده زوجها وقالت: هو من خير أهل الدنيا يقوم الليل حتى الصباح ويصوم النهار حتى يمسي، ثم أدركها الحياء. فقال: جزاك الله خيرا فقد أحسنت الثناء، فلما ولت قال: كعب بن سور: يا أمير المؤمنين لقد أبلغت إليك في الشكوى، فقال: ما اشتكت، قال: زوجها قال على بها فقال لكعب اقضي بينهما، قال أقضي وأنت شاهد. قال إنك قد فطنت إلى ما لم أفطن له. قال: إن الله يقول: ﴿فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع﴾[17]. صم ثلاثة أيام وافطر عندها يوما، وقم ثلاث ليال، وبت عندها ليلة. فقال عمر: هذا أعجب إلى من الأول، فبعثه قاضيا لأهل البصرة[18].
2- ومن ذلك أيضا: ما روى أن رجلا ثقة استودع بعض شهوده كيسا مختوما ذكر أن فيه ألف دينار، فلما طالت غيبة الرجل فتق الشاهد الكيس من أسفله وأخذ الدنانير وجعل مكانها دراهم وأعاد الخياطة كما كانت، وجاء صاحبه فطلب وديعته، فدفع إليه الكيس بختمه لم يتغير فلما فتحه وشاهد المال رجع إليه. وقال: إني أودعتك دنانير والتي دفعت إليّ دراهم، فقال: هو كيسك بخاتمك. فرفع الأمر إلى القاضي، فأمر القاضي بإحضار المودع، فلما صارا بين يديه. قال له القاضي: منذ كم أودعك هذا الكيس، فقال منذ خمس عشرة سنة. فأخذ القاضي تلك الدراهم وقرأ سكتها، فإذا فيها ما قد ضرب من سنتين وثلاثة. فأمره بدفع الدنانير لصاحبها. وهذا اعتماد صريح على القرنية [19].
3- وهذه حادثة أخرى تدل على فراسة عمر بين الخطاب رضي الله عنه وتمرسه فيها، حيث أنه لم يخطئ في فراسة قط.

قال الليث بن سعد: أتى عمر بن الخطاب يوما بفتى أمرد وقد وجد قتيلا ملقى على وجه الأرض، فسأل عمر أمره واجتهد فلم يقف له على خبر فشق ذلك عليه، فقال: اللهم أظفرني بقاتله حتى إذا كان على رأس الحول، وجد صبي مولود ملقى بموضع القتيل، فأتي به عمر.

فقال: ظفرت بدم القتيل إن شاء الله تعالى.

فدفع الصبي إلى امرأة وقال: قومي بشأنه وخذي منا نفقته وانظري من يأخذه منك، فإذا وجدت امرأة تقبله وتضمه إلى صدرها فأعلميني بمكانها. فلما شب الصبي جاءت جارية قالت للمرأة إن سيدتي بعثتني إليك لتبعثي بالصبي لتراه وترده إليك.

قالت: نعم اذهبي به إليها وأنا معك، فذهبت بالصبي والمرأة معه حتى دخلت على سيدتها، فلما رأته أخذته فقبلته وضمته إليها فأتت عمر فأخبرته. وذهب إليها واتهمها فاعترفت وقصت له ما دفعها إلى قتله[20].

كانت هذه أدلة: جمهور العلماء الذين قالوا باعتبار القرائن، وأنها من طرق الإثبات أمام القاضي وشواهدهم على اعتبارها.

أما بعض الحنفية وبعض الشافعية الذين منعوا العمل بالقرائن، ولم يعتبروها من طرق القضاء فحجتهم في ذلك:
1- ما أخرجه أبن ماجة عن أبن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لو كنت راجما أحدا من غير بينة لرجمت فلانة، فقد ظهر منها الريبة في منطقها وهيأتها ومن يدخل عليها"[21].
2- من المعقول: قالوا إن القرائن ليست مطردة الدلالة لاختلافها قوة وضعفا، ثم أنها قد تبدو قوية ثم يظهر ضعفها.

أما الرد على ذلك: فإن الحديث لا يتعارض مع العمل بها لأن الحديث غاية ما فيه، أنه لا يعمل بالقرائن في إثبات الحدود والحديث لا ينفي اعتبار القرينة في باقي الحقوق.

أما دليل المعقول: فإن العمل بالقرنية لا يكون إلا إذا كانت قوية واضحة كما ذكرناها، وقد تكون أقوى من البيّنة والإقرار كالشواهد التي ذكرنا وأخذ بها[22]. ولا يخفى ضعف استدلال المانعين، وصحة قول جمهور العلماء في اعتبار القرينة من طرق القضاء لكثرة النصوص فيها والله تعالى اعلم.

اعتراض ورده:
وقد أورد الدكتور عبد الكريم زيدان في كتابه نظام القضاء في الشريعة الإسلامية اعتراضا معقولا في ذلك ثم رد عليه ويتلخص ذلك في: أنه قد يعترض على اعتبار القرينة بالحديث الشريف: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر". فليس في الحديث غير البينة فهي التي يعول عليها ويؤخذ بها في القضاء[23].

والجواب عن ذلك: أن القرينة الظاهرة تدخل في مفهوم البينة التي يبنى عليها الحكم، لأن البينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره، ولا تنحصر كما يقول العسقلاني في الشهادة بل كل ما كشف الحق فهو بينة[24].

وعلى هذا فالبينة قد تكون شهادة مقبولة أو نكولا عن يمين، وقد تكون قرينة أو شاهد الحال الذي هو من أنواع القرينة، وقد ثبت أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) استعمله: فقد روى أبن ماجة وغيره عن جابر بن عبد الله قال: أردت السفر إلى خيبر، فأتيت النبي (صلى الله عليه وسلم) فقلت له: إني أريد الخروج إلى خيبر، فقال: (إذا أتيت وكيلي فاطلب منه خمسة عشر وسقا، فإذا طلب منك آية فضع يدك على ترقوته)[25].

فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) معناها كما قدمنا أن على المدعي أن يقدم ما بين ويكشف صحة دعواه ويظهرها، فإذا ظهر صدقة، بطريقة من الطرق حكم له، وعلى هذا فإن من قصر مفهوم البينة على الشهود لم يعرف ما ينطوي عليه اسم البينة من معنى.

ومما يؤيد ذلك أن البينة لم تأت قط في القرآن الكريم مرادا بها الشهود، وإنما أتت مرادا بها الحجة والدليل والبرهان.
وعلى هذا فإن الشهود من البينة والقرينة من البينة، وقد تكون القرنية في بعض المواضع أقوى دلالة على صدق المدعي في دعواه من دلالة الشاهدين على ذلك[26].
المبحث الثاني: مدى حجية وسائل الإثبات المعاصرة في القضاء الإسلاميمن المعلوم أن القانون الوضعي لم ينص على القرائن إلا حديثا، لوجود الاختلاف في اعتبارها كما أشرنا لذلك مقدما وكانت إضافتها في المادة (124) سنة 1931 في القانون المصري. وقد جعل القانون الفرنسي والمصري القرائن على نوعين:
أ- قرائن قانونية: وهي التي نص عليها أيضا صريحا. ولذا سميت قانونية.

ب- قرائن قضائية: وهي التي يستنبطها القاضي من ظروف الدعوى، أي أنها استنباط القاضي الأمور المجهولة من أمور معلومة.

ثم كان أن استحدث رجال القانون الوضعي صورا من الوسائل لإثبات بعض الجرائم السياسية والحدود والقصاص ونحو ذلك من الجرائم التي أقر القانون الوضعي إثباتها عن طريق القرينة، واعتبرت دليلا أصليا وعلى القاضي أن يأخذ بها. ويمكن إجمال هذه الوسائل فيما يلي:
1- بصمات الأصابع.
2- التحاليل المخبرية.
3- الكلب البوليسي.
4- التسجيل الصوتي والصور.

مدى حجية هذه الوسائل في القضاء الإسلامي:
من وجوه إعجاز القرآن الكريم، وجود إشارات دقيقة إلى الكثير من النظريات العلمية الحديثة التي سبق إليها القرآن الكريم قبل أن يكتشفها العلم الحديث. ومن الإعجاز أن القرآن لا يتعارض مع ما يكشفه العلم من نظريات علمية صحيحة ثابتة. فقد أشار القرآن إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد﴾[27].

وما استحدثه رجال القانون من قرائن حديثة بعضها قد يتوافق مع أصول الشريعة وبعضها قد لا يكون قاطعا لا في الشريعة ولا في القانون، ويعنينا هنا إبراز موقف القضاء الإسلامي في هذا الجانب وهل هذه الوسائل المعاصرة صحيحة قاطعة في الاستدلال؟ وتفصيل ذلك:
1- بصمات الإنسان: اختلاف بصمات الإنسان لم تكشف إلا في سنة 1884م حيث استعملت في انجلترا رسميا طريقة للتعرف على الشخص بواسطة بصمات الأصابع، ثم اتبعت هذه الطريقة في جميع البلاد[28].

وقد أثبت العلم أن بشرة الأصابع مغطاة بخطوط دقيقة على عدة أنواع، وهذه الخطوط لا تتغير مدى الحياة. وجميع أعضاء الجسم تتشابه أحيانا ولكن الأصابع لها مميزات خاصة إذ أنها لا تتشابه ولا تتناسب في ملايين البشر.

وهذه المعجزة الإلهية، حيث جعل الله تعالى ذلك دليلا على البعث يوم القيامة في قوله تعالى: ﴿أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه﴾[29].

وبصمات الأصابع اعتبرت من القرائن الحديثة، وأقر القانون الوضعي اعتبار أثر البصمة في مكان الجريمة قرينة على مساهمة الشخص في الجريمة وعلى القاضي أن يأخذ بها كدليل لإدانة المتهم، إذا لم يستطع تفسير وجود بصمته في مكان الجريمة تفسيرا معقولا يقنع القاضي باستبعادها كدليل، أما في القضاء الإسلامي، فالواقع أن الفقهاء قديما لم يذكر في كتبهم أي إشارة إلى اعتبار البصمات من طرق الإثبات أمام القاضي.
لكن وجد من العلماء المحدثين من عني بذلك وتناول البصمات، فقد جاء في تفسير الشيخ طنطاوي جوهري ما يشير إلى الأخذ بالبصمات في تفسير قوله تعالى: ﴿حتى إذا جاءوها شهد عليهم سمعهم وإبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون. وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا، قالوا أنطقنا الله الذي انطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة واليه ترجعون، وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكم ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون﴾[30]، وفي تفسير قوله تعالى: ﴿بلى قادرين على أن نسوي بنانه﴾.

ومما قاله في ذلك[31]: ونشاهد هذه المشاهدات من الدلالات الصادقة على حكمته وقدرته وعظمته ومعرفة الجانبين بالطرق العلمية في بحث خطوط اليدين والرجلين.

ثم يقول في موضع آخر: وقد أجمع علماء الإسلام قاطبة على أن حكم القاضي مبني على الظن والنبي صلي الله عليه وسلم كان يحكم بالظاهر والله يتولى السرائر لأننا لا نزال في الأرض.

فإذا وجدنا أن الظن جاء معه يقين ظاهر ألقينا هذا الظن الم يقل الله تعالى في سورة النجم: ﴿إن الظن لا يغني عن الحق شيئا﴾[32].

فإذا سمع القاضي رجلا يقول إن الشمس لم تطلع مع أنها طالعة فهذه الشهادة لا تقبل لأنها خالفت الحق هكذا إذا دلت أصابع المجرم على أنه القاتل وأن آثار الأصابع ظهرت على صنجة السيف والسيف وجد على رقبة القتيل.
وجاءت شواهد أخرى على ذلك، فإذا شهد بنفي هذا نقول له كذبت أيها الشاهد. إن هذه الآيات أيها الصديق نزلت في القرآن ليتضح لنا بها القضاء في باب كان مقفلا إلا قليلا.

ومن خلال كلام طنطاوي جوهري يتبين أنه يرى البصمة قرينة صادقة تدل على الجاني، لذلك يجب على القاضي الأخذ بها.
ويؤكد اعتماده على هذه القرينة إلى أبعد من ذلك إذ يقول[33]: فقال صديق: لقد فهمت من مقالكم إن هذه العوالم صوادق في دلالتها والإنسان قد يكذب وإن هذه الأيدي وهذه الأرجل دلائلها صادقات، وفيها علامات مثبتات لجرائم أصحابها وليست كاذبة بخلاف ألسنة الإنسان في الأرض فهي كاذبة ولكن هل علم الله تعالى بأعمالنا في حاجة إلى أمثال الأيدي والأرجل فقلت: كلا هو يعلم ذلك ولكن هذه الآيات موجهات لإصلاح نفوسنا ولها دلالتان[34]:

الأولى: إن الله عليم بأعمالنا.

الثانية: أنه ضرب لنا مثلا بأيدينا وأرجلنا فيها علامات، ولصدق هذه العلامات الدالات على أفعالنا نسب إليها أن تخاطب، وإذا سمع الله منها أفلا يسمع القضاة نطق هذه الأيدي فيحكمون بما تدل عليه[35].

ونلاحظ من النص أنه جعل القول بقرينة البصمة هو القول السديد، كما ذهب إليه كثير من الفقهاء المعاصرين، وهو الذي يتمشى مع نظر الفقه الإسلامي في الحد من الجريمة والمجرمين والتوصل إليهم ما أمكن بدلالة الدلائل لما يؤدي ذلك إلى استقرار وأمن المجتمع الإسلامي.
لكن هذا القول على إطلاقه غير سديد، في الاعتماد على القرينة من هذا الطريق يدون دلائل أخرى فليس صحيحا أن تسند التهمة إلى شخص بقرينة البصمة فقط لاعتبارات كثيرة أهمها:
أولا: هذا القول لم يقل به أحد من الفقهاء.

ثانيا: لا يتفق مع القول بأن شهادة الشهود هي الأصل في اعتبار الدلالة على إثبات الحق في الحدود والقصاص.

ثالثا: يتعارض الأخذ بالبصمة بدرء الحدود عن طريق الشبهات. والشبهة في قرينة البصمة موجودة. فلا يعني وجود بصمة إنسان على مكان أنه القاتل أو السارق أو نحو ذلك لاحتمال أن يكون القاتل أو السارق غيره، أو أن يكون مشاركاً في الفعل.

وخلاصة القول: إنه يمكن الاعتماد على قرينة البصمة كأداة للقاضي للاعتراف أو أن يقوي ذلك بدلائل أخرى بحكم بها والله تعالى أعلم. 1- التحاليل المخبرية: التحليل عن طريق المختبرات سواء كان تحليل الدم أو المني أو البول أو غير ذلك، يمكن القول إنها تشبه قرينة البصمة ولكنها غير قاطعة في الاستدلال بها. وأن ثبتت ثبوتا علميا كاملا لا يمنع القاضي أن يأخذ بها.
لأن مثل هذه التحاليل له أصل في القضاء الإسلامي كالحكم بالقافة والفراسة والعلامات والأمارات الدالة على الأشياء. وذكر أبن القيم رحمه الله في هذا الباب أمثلة لا حصر لها مما يؤكد صحة التحاليل في عصرنا هذا ومن هذه الإشارات[36]:
1- ما روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي بامرأة قد تعلقت بشاب من الأنصار وكانت تهواه فلما لم يساعدها احتالت عليه، فأخذت بيضة وألقت بصفرتها وصبت البياض على ثوبها وبين فخذيها ثم جاءت إلى عمر رضي الله عنه صارخة فقالت هذا الرجل غلبني على نفسي وفضحني في أهلي وهذا أثر فعاله فسأل عمر النساء فقلن له أن ببدنها وثوبها أثر المني، فهم بعقوبة الشاب فجعل يستغيث ويقول: يا أمير المؤمنين تثبت في أمري فوالله ما أتيت فاحشة وما هممت بها فلقد راودتني عن نفسي فاعتصمت، فقال عمر: يا أبا الحسن ما ترى في أمرهما فنظر علي إلى الثوب ثم دعا بماء حار شديد الغليان فصب على الثوب فجمد البياض ثم أخذه واشتمه وذاقه فعرف طعم البيض وزجر المرأة فاعترفت.

واعتراف المرأة هنا نتج عن قرينة قوية تشبه التحاليل في المختبرات العلمية إلى حد كبير، وأكد ذلك أيضا ما عقب به ابن القيم بعد ذكر هذه الحادثة بقوله:
يشبه هذا وغيره ما روى أحمد من أن المرأة إذا ادعت أن زوجها عنين وأنكر ذلك وهي تثبت فإنه يخلى معها في بيت ويقال له أخرج ماءك على شيء، فإن ادعت أنه ليس بمني جعل على النار، فإن ذاب فهو مني وبطل قولها وهذا حكم بالأمارات الظاهرة، فإن المني إذا جعل على النار ذاب واضمحل وإن كان بياض بيض تجمع وتيبس[37].
2- ويمكن أن نقول ذلك في رواية أخرى لم تصل إليها بعد التحاليل المخبرية في العصر الحاضر وذلك فيما روى أنه أتى لعمر بن الخطاب رضي الله عنه رجل أسود ومعه امرأة سوداء فقال: يا أمير المؤمنين إني أغرس غرسا أسود وهذه سوداء على ما ترى فقد أتتني بولد أحمر. فقالت المرأة والله يا أمير المؤمنين ما خنته وأنه لولده، فبقي عمر لا يدري ما يقول فسأل عن ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه عنه فقال للأسود: إن سألتك عن شيء أتصدقني، قال : أجل والله، قال: هل واقعت امرأتك وهي حائض قال: قد كان ذلك، قال علي: الله اكبر إن النطفة إذا اختلطت بالدم فخلق الله عز وجل منها خلقا كان أحمر فلا تنكر ولدك فأنت جنيت على نفسك[38].
3- ما ذكره ابن القيم أيضا في ذلك إذ يقول: ورفع إلى بعض القضاة رجل ضرب رجلا على هامته فادعى المضروب أنه أزال بصره وشمه، فقال: يمتحن بأن يرفع عينيه إلى قرص الشمس فإن كان صحيحا لم تثبت عيناه لها وينحدر منها الدمع.

وتحرق خرقة وتقدم إلى أنفه فإن كان صحيح الشم بلغت الرائحة خيشومه ودمعت عيناه.
ورواية أخرى في هذا الأمر هي في أقضية علي رضي الله عنه وهي أن المضروب أدعى أنه أخرس، فأمر أن يخرج لسانه وينخس بإبرة فإن خرج الدم أحمر فهو صحيح اللسان، وإن خرج أسود فهو أخرس[39].
فأي تحليل أبلغ من هذه التحاليل في عصر لم يكن فيه مختبرات علمية بأحدث الآلات كما هو الحال اليوم.
وعلى هذا نقول إن هذه الأمثلة وغيرها كثير مما جاء عن كبار الصحابة وغيرهم من القضاة تدل دلالة قطعية على اعتبار هذه الوسائل المعاصرة دليلا أمام القاضي ليأخذ به وأنه لا يتعارض مع التحاليل العلمية الصحيحة في هذا المجال والله تعالى اعلم.
2- التسجيل الصوتي والصور: أما الاعتماد على تسجيل الأصوات والصور الشخصية في إثبات التهمة فإن هذا لا يتفق وقواعد النظام القضائي في الإسلام لوجود الشبهة فيه ومهارة التزييف في مثل هذه الأمور.

مع العلم أن رجال القانون الوضعي تحرزوا في الأخذ بذلك رغم اعتبارهم لهذه الوسيلة أنها قرينة يعول عليها القاضي بناء الحكم على اختلاف بينهم. وقد عللوا عدم الأخذ بها لما في ذلك من اعتداء على الحرية والمساس بحياة الإنسان الخاصة. وقد وضعوا للأخذ بها شروطاً وجعلوها في الجرائم الخطيرة التي ينبغي تحديدها سلفاً. أما رد هذه القرينة وعدم اعتبارها في القضاء الإسلامي فيمكن إرجاعه إلى الاعتبارات التالية:

أولا: وجود الشبهة في ذلك، والقاعدة الفقهية درء الحدود بالشبهات لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ادرءوا الحدود بالشبهات" والشبهة في ذلك قرينة قوية جداً حيث تصل المهارة في تقليد الأصوات وتزييف الصور إلى حد يصعب فيه التمييز بين الخطأ والصواب.

ثانياً: في ذلك اعتداء على حياة الفرد الخاصة وقد رعاها الإسلام وحفظها من كل سوء وفيها اعتداء على الحرية الشخصية ومعلوم أن الإسلام حرم التجسس بقوله تعالى:﴿ولا تجسسوا﴾[40].

وفي ذلك روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يطوف ليلة في المدينة فسمع صوتاً في بيت فارتاب أن صاحب الدار يرتكب محرماً فتسلق المنزل وتسور الحائط ورأى رجلاً وامرأة ومعهما زق خمر، فقال يا عدو الله أظننت أن الله يسترك وأنت على معصية، وأراد أن يقيم عليه الحد فقال الرجل: لا تعجل يا أمير المؤمنين إن كنت عصيت الله في واحدة فقد عصيت أنت في ثلاث، قال تعالى ﴿ولا تجسسوا﴾ وأنت تجسست، وقال: ﴿واتوا البيوت من أبوابها﴾[41]. وأنت تسورت الجدار وصعدت الجدار ونزلت منه وقال تعالى: ﴿ولا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها﴾[42]. وأنت لم تسلم، فخجل عمر وبكى وقال للرجل: هل عندك من خير إن عفوت عنك. قال نعم قال اذهب فقد عفوت عنك[43].

والصواب: عدم صحة هذه الرواية عن عمر رضي الله عنه، وعلى فرض صحتها فهذا يعني عدم سلامة هذا الدليل، للجوء عمر إلى طرق غير مشروعة مما جعله يتراجع عن فعله ويعفو عن الرجل.

وخلاصة القول: إن عدم صحة الاعتماد على قرينة التسجيل والصور الشخصية كدليل يعتمد عليه القاضي لشبهة التزييف في الصور والتسجيل الصوتي، وكما مرّ فإن القاعدة الشرعية درء الحدود بالشبهات في قوله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات".
3- التعرف على المجرم عن طريق الكلب البوليسي: أما قرينة التعرف على المجرم عن طريق الكلب البوليسي فهي من الأمور الحديثة التي لجأ إليها القانون الوضعي، ولقد درجت الشرطة على أخذ الكلب البوليسي إلى محل الجريمة، ويدعونه يشم أثراً من آثارها كقميص أو أثره على الأرض ثم يؤخذ إلى طابور يضم المتهم وغيره من الناس الذين لا صلة لهم بالجريمة فيتعرف لهم على المتهم من بينهم.

وهذه القرينة لا يوجد لها في القضاء الإسلامي أي قول عند الفقهاء لحداثتها.
أما موقف القضاء الإسلامي منها:
فإنه لا بد من نظرة عامة على طرق الإثبات في القضاء الإسلامي حتى نتبين الصواب في ذلك.
ومعلوم أن القضاء الإسلامي أكثر تشدداً من القانون الوضعي في مجال إثبات الجنايات، وذلك بتضييقه لمجال إعمال القرائن في نوعين من الجرائم وهما جرائم الحدود والقصاص، وأجازه في النوع الثالث وهي جرائم التعزير.
فلو سلمنا بالأخذ بقرينة التعرف على المجرم عن طريق الكلب البوليسي فإن مجال إعمالها لا يدخل إلا في النوع الثالث من الجرائم
مع العلم أن رجال القانون الوضعي لم يجعلوا هذه القرينة أمراً مسلماً إذ منعوا القضاة من الاعتماد عليها وحدها كدليل في الدعوى ولا يؤخذ بها إلا إذا عضدتها قرائن أخرى فمن باب أولى أن لا يأخذ بها القضاء الإسلامي الذي كان أكثر احتياطاً في مجال إثبات الجنايات[44].
وترد هذه القرينة من ناحية أخرى وهي: إن الإسلام تشدد في قبول الشهادة في الحدود والقصاص ولم يبح للمرأة الشهادة في ذلك كما هو معلوم، فمن باب أولى أن لا يقبل القضاء الإسلامي شهادة الحيوان.

ومعلوم أن الكلاب أنواع ويعتمد القانون الوضعي في ذلك على مهارة تدريبها فيحتمل عدم المهارة أو النقص في التدريب أو أن الكلب ليس من النوع الذكي، كما أنه لا يؤمن نسيانه للرائحة التي أعطيت له كما لا يؤمن وحشيتيه وافتراسه مما يؤدي إلى الكراه وبطلان الدليل[45].
لهذا احتاط رجال القانون وكذلك القضاء الإسلامي فلا يؤخذ بهذه القرينة وان اختلت فيها النتيجة العلمية أو كانت غير مؤكدة ويقينية أو تقوى بقرائن أخرى عند القاضي ليحكم بقناعته في ذلك.
خلاصة القول: إن القضاء الإسلامي بتشريعاته الخالدة صالح لكل زمان ومكان حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

وهذه الوسائل المعاصرة لإثبات الحقوق التي ذكرتها وبينت مدى حجيتها وغيرها لم أشر إليها مع أنها حديثة لعدم وجود الدليل القطعي على حجيتها كالتنويم المغناطيسي، حيث يعمل به في بعض الدول في الكشف عن الجرائم التي يعجز القضاء عن الوصول إليها، وكذلك الحقن الحديثة التي تعطى للشخص من أجل الحصول على ما عنده من معلومات، فهي من الوسائل التي تعتريها الشبهات في القضاء الإسلامي، الذي يقوم على درء الحدود بالشبهات كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مما يؤكد أن الإسلام يأخذ بكل ما يستجد من علوم، أو وسائل معاصرة لإثبات الحقوق أمام القاضي من خلالها، شريطة الدقة والصحة والعدالة الكاملة في إصدار الحكم وذلك لأن القضاء الإسلامي شرع من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصرة المظلوم، وإيصال الحق إلى مستحقه، ومنع استبداد القوي بالضعيف، والقضاء على أيدي أهل الفساد، وصيانة الأعراض والأموال والأرواح، حتى يتحقق للإنسان الطمأنينة النفسية.
وهذا لا يتحقق إلا بوجود القاضي العدل، والحكم بالعدل من قبله، واستقلال سلطة القضاء.



 
__________________
وليـــد الجــــد
محاسب قانوني
وليد الجد غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:33 AM