إضافة رد
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع
قديم 03-22-2007, 09:15 AM
  #1
هشام حلمي شلبي
 الصورة الرمزية هشام حلمي شلبي
 
تاريخ التسجيل: Feb 2007
المشاركات: 5,220
افتراضي بحث في أثر الربا في القروض الإنتاجية في الاقتصاد الإسلامي

أثر الربا في القروض الإنتاجية في الاقتصاد الإسلامي

منقول بواسطة هشام حلمي شلبي - كفرالشيخ

الملخـص
يهدف هذا البحث إلى مناقشة وبيان أدلة من زعم إباحة الربا في القروض الإنتاجية، وذكر الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية والشواهد التاريخية، وأقوال العلماء على بطلان هذه الدعوى. إذ إن الربا حرام بجميع صوره وأشكاله مهما كان الدافع إليه أو سببه سواء أكان الإنتاج أم الاستهلاك. ثم إن القروض الإنتاجية لا يصح تخريج إباحتها على أساس الضرورة أو تقديم المصلحة العامة على الخاصة، أو اعتبار القروض التي كانت سائدة في المجتمع الإسلامي هي قروض استهلاكية، أو اعتبار الاستغلال علة لتحريم الربا.



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

على الرغم من التحريم القطعي للربا في الإسلام، إلا أنه جاء بعض الباحثين ببعض التأويلات، والصور المقنّعة، والحيل الملفقة، من أجل إباحة صور عدة من الربا المحرم. فنجد بعض أولئك يحصرون الربا المحرّم في ربا الدين، الذي تكون الزيادة فيه إنما تطرأ عند حلول الأجل، ويرى بعضهم أن الربا المحرم بحديث الأصناف الستة إنما هو ربا البيع، أما القرض فلا يجري فيه الربا.

ثم إن فريقاً من أولئك الباحثين حاولوا تسويغ إباحة الربا على أساس التفرقة بين الربا في القروض الإنتاجية والاستهلاكية، بدعاوى مختلفة، وشبهات متفرقة، منها دعوى الضرورة، والمصلحة، والتطور الحضاري وما يلزم منه تغير الأحكام، والنظر إلى الحكمة من تحريم الربا وجعلها علةله... إلخ والدعاوى في هذا كثيرة. قد تعرض لها كثير من الباحثين، لذلك سوف أقصر هذا البحث على دعوى جواز الربا في القروض الإنتاجية دون الاستهلاكية. مبيناً أساس هذه الدعوى، وأدلتها، ومناقشتها. في المباحث الآتية:

المبحث الأول: أساس الدعوى.

المبحث الثاني: صفة القروض في المجتمع الإسلامي.

المبحث الثالث: القروض الإنتاجية وتطور الأحكام الشرعية.

المبحث الرابع: القروض الإنتاجية والضرورة.

المبحث الخامس: القروض الإنتاجية والتعليل بالحكمة.



المبحث الأول
أساس الدعوى
تقوم هذه الدعوى على أساس التفرقة بين القروض الإنتاجية والاستهلاكية، حيث تبيح الربا في القرض الإنتاجي أو الاستثماري دون القرض الاستهلاكي. فتنظر إلى سبب القرض وغايته، فإذا كان صاحب القرض الذي يأخذه من أجل الإنتاج والاستثمار فيجوزله ذلك، وأما إذا كان صاحب القرض يأخذه من أجل الاستهلاك، وسد حاجاته الاستهلاكية، كالغذاء، والدواء، السكن واللباس... فلا يجوز له أخذ هذا القرض بفائدة أو بربا.

إن القروض الإنتاجية أو الاستثمارية التي تمنح من أجل القيام بمشروعات إنتاجية صناعية أو زراعية أو تجارية، تعود على المجتمع بالخير، وتدفع به للتقدم في المجالات المختلفة للتنمية، لذا يجوز أخذ الربا مقابل هذه القروض عند أولئك الباحثين.

ويبدو أن أول من نادى بهذه الدعوى من الكتاب الغربيين هو سان توماس الأكويني (1225م- 1274م) الذي دعا إلى الملكية الفردية، وحارب الربا، وعاداه، إلا أنه يرى أن الإقراض بفائدة يجوز إذا كان لأغراض تجارية [1]. ثم جاء من بعده من الباحثين المسلمين الذين حاولوا تصحيح المعاملات المالية المعاصرة على أساس فقهي، يستند إلى أدلة شرعية وعقلية، وإن كانت هذه الأدلة التي زعموها لا تقوم على نظر عقلي صحيح أو دليل شرعي صريح، كما سنرى فيما بعد.

ومن هؤلاء الباحثين الذين زعموا بتلك الدعوى الدكتور محمد معروف الدواليبي الذي قال في بُداءة محاضراته التي ألقاها في باريس عن نظرية الربا في التشريع الإسلامي حيث قال: (إذا كانت الشرائع الحديثة قد اشترطت لقيام الربا استيفاء فائدة أكثر من الفائدة التي حددها القانون لرؤوس الأموال المقترضة، فإن المشرع الإسلامي قد اعتبر كل فائدة يرجى بها رأس المال مهما قلّ شأنها تكفي لتكوين الربا الذي حرّمه الله عز وجل... ثم جعل خصائص الربا المحرم أموراً ثلاثة، هي:

أن هذه القروض التي كانت تقدم بشرط الفائدة، لم تكن سوى شكل من أشكال استغلال عوز المحتاجين الذين هم أولى بالعطف والرعاية، وأنه لم يكن لهذه القروض صفة القرض المنتج، وأنها لم تكن تصلح إلا للاستهلاك. وإن الوضع الاقتصادي قد تغير اليوم، وانتشرت الشركات، وأصبحت القروض أكثرها قروض إنتاج لا قروض استهلاك، فإن من الواجب النظر فيما يقتضيه هذا التطور في الحضارة من تطور الأحكام، فيجب إذاً أن يكون لقروض الإنتاج حكمها في الفقه الإسلامي، ويجب أن يتمشى هذا الحكم مع طبيعة هذه القروض، وهي طبيعة تغاير مغايرة تامة طبيعة قروض الاستهلاك، ولا يعد الحال أحد الأمرين: إما أن تقوم الدولة بالإقراض للمنتجين، وإما أن تباح قروض الإنتاج بقيود وفائدة معقولة. والحل الثاني هو الحل الصحيح، ويمكن تخريج ذلك على فكرة الضرورة، وعلى فكرة تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، كما لو تذرع العدو بمسلم فلا مناص من قتل المسلم حتى يمكن الوصول إلى العدو) [2].

يلاحظ من النص السابق أن هذه الدعوى تقوم على الأمور الآتية:

1- إن القروض التي كانت في المجتمع الإسلامي هي قروض استهلاكية ليس لها أي صفة إنتاجية أو تجارية.

2- إن إباحة الربا في القروض الإنتاجية هو أمر يقتضيه التطور الحضاري، لذلك ينبغي أن تتطور الأحكام الشرعية تبعاً للتطور الحضاري.

3- إن إباحة الربا في القروض الإنتاجية يمكن تخريجه على أساس فكرتي الضرورة وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.

وإن هذه الأفكار لم يتبنها هذا الباحث فحسب، بل نادى بها آخرون من بعده، لكن القاسم المشترك بينهم هو هذه الأمور إلي ذكرناها، وأمور أخرى سنشير إليها في موضعها.

هذا وسنناقش هذه الأفكار من خلال الفقرات الآتية.

المبحث الثاني
صفة القروض في المجتمع الإسلامي
يزعم أصحاب هذه الدعوى أن القروض التي كانت سائدة في المجتمع الإسلامي إنما هي قروض استهلاكية، ليس لها أي صفة إنتاجية أو استثمارية أو تجارية. لذلك فإن ربا الجاهلية لم يكن إلا على القروض الاستهلاكية. سنناقش هذا الزعم من خلال ذكر الأدلة الشرعية والنصوص التاريخية التي تفند هذا الزعم. وذلك من خلال النقاط الآتية:

أولاً: إن آيات الربا في مراحله المختلفة ترد هذه الشبهة، ففي المرحلة الأولى من مراحل تحريم الربا، وهي قوله تعالى: { وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39]. وقد أجرى الله تعالى في هذه الآية الموازنة بين الربا والزكاة من حيث النفع المادي والمعنوي.

والمرحلة الثانية، هي قولـه تعالى: { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } [النساء:160-161]. فذكر الله عز وجل في هذه الآيات قصة اليهود الذين أخذوا الربا وقد حُرّم عليهم.

والمرحلة الثالثة، هي قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [آل عمران:130]، فقد بيّن الله عز وجل في هذه الآية أن المحرم من الربا هو الربا الفاحش، وهو المذموم، باعتبار حالة المجتمع التي كان يسود فيه الربا [3].

والمرحلة الرابعة، هي قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } [البقرة:278-279] وكذلك قوله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } [البقرة:275] فهذه الآيات حرّمت الربا دون تفرقة بين قليل وكثير.

يلاحظ من الآيات السابقة وأسباب نزولها أنها لم تفرق في حرمة الربا بين القروض الإنتاجية والاستهلاكية، بل حرمت جميع أنواع الربا مهما كان سببه أو الغاية منه. وقد اتفق المفسرون والعلماء على أن الآية الأخيرة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا...} قد نزلت في تحريم ربا الجاهلية. الذي لم يفرق بين الإنتاج والاستهلاك [4].

ثم إن الأحاديث النبوية التي وردت في ربا البيوع لتدل دلالة واضحة على أن العرب كانوا يتاجرون، فيبيعون ويشترون بالذهب والفضة والقمح والشعير والملح والتمر، منها قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مِثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد“ [5]فهذا الحديث يدل صراحة على المبادلات التجارية، عن طريق بيعها وشرائها، وإن هذه المبادلات لم تكن للاستهلاك فقط؛ لأن التاجر الذي يبيع السلع يحتاج إلى المال لشرائها، فقد يكون لديه المال ولا يكفيه، وقد لا يكون لديه مال أصلاً، فيحتاج حينئذ للاستقراض. لذلك فإن هذا التجار يقوم بالإنتاج التجاري، واستثمار أمواله في التجارة، ولم يرد دليل على أن هؤلاء التجار كانوا يأخذون الأموال من الناس قرضاً ويدفعون لهم زيادة. بل هناك أدلة تؤكد أن هؤلاء التجار كانوا يأخذون الأموال لأغراض إنتاجية، ولا يدفعون زيادة عما أخذوا. وسنذكر هذه الأدلة بعد قليل.

ثم إنه كيف يصح القول بأنه لم تكن القروض الإنتاجية معروفة عند العرب؟! ألم يذكر الله عز وجل في القرآن الكريم أن لقريش رحلات تجارية في الصيف والشتاء بين الشام واليمن.

قال تعالى: { لإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ } [قريش:1-2].

ثانياً: - هناك نصوص وأمثلة من التاريخ الإسلامي تؤكد أن العرب كانوا يستقرضون لأغراض إنتاجية لا لأغراض استهلاكية. فهذه أدلة على أن التجار كانوا يستقرضون من أجل القيام بالعملية الإنتاجية.

من هذه الشواهد ما ذكره الطبري أن هنداً بنت عتبة جاءت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاستقرضت منه من بيت المال أربعة آلاف تتجر فيها. وتضمنها، فأقرضها، فخرجت إلى بلاد كلب، فاشترت وباعت، فلما أتت المدينة وباعت شكت الوضيعة – الخسارة – فقال لها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لو كان مالي لتركته لك، ولكن مال المسلمين) [6].

ومنها أيضاً ما رواه الإمام مالك من قصة عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

( أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب خرجا في جيش إلى العراق، فلما قفلا مرّا على أمير البصرة، فرحب بهما، ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى، هاهنا مال من مال الله، أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكماه فتبتاعان به متاعاً من متاع العراق، ثم تبيعاه في المدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين، ويكون الربح لكما. فقالا: وددنا ذلك، ففعل، وكتب إلى عمر أن يأخذ منهما المال، فلما قدما باعا فأربحا، فلما دفعا ذلك إلى عمر، قال: أكُلّ الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا. فقال عمر: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما. أديا المال وربحه. فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، لو نقص هذا المال، أو هلك لضمناه، فقال عمر: أدياه. فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً، فقال عمر قد جعلت قراضاً، فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال) [7].

وهناك شواهد تاريخية أيضاً تؤكد أن الناس كانوا يستقرضون للإنفاق على الأهل والعيال، أي قروض استهلاكية، ويستقرضون للإنفاق على الإنتاج الزراعي، فقد كانت الدولة الإسلامية في عهد عمر بن عبد العزيز تمنح قروضاً إنتاجية من بيت المال للمسلمين ولأهل الذمة، فقد ذكر أبو عبيد أن عمر بن عبد العزيز قال: (انظر من كانت عليه جزية، فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه) [8].

يلاحظ من الشواهد السابقة – غيرها كثير – أن القروض الإنتاجية سواء أكانت تجارية أم زراعية كانت موجودة عند العرب في الجاهلية والإسلام. ولو كانت الفائدة على قروض الإنتاج التجاري جائزة لأخذها أبو موسى الأشعري من ابني عمر بن الخطاب حينما أقرضها المال. وكذلك لو كانت الفائدة على القروض الاستثمارية جائزة لأخذها سيدنا عمر بن الخطاب من هند بنت عتبة التي استقرضت المال من بيت مال المسلمين فخسرت به. ولو كانت الفائدة على قروض الإنتاج الزراعي جائزة لأخذها سيدنا عمر بن عبد العزيز من المسلمين أو من أهل الذمة حينما أقرضهم المال ليقوموا بالزراعة.

ولو كانت الفائدة على القروض الإنتاجية أو الاستثمارية جائزة لكانت أموال اليتامى أحق بها لما في ذلك من حفظ الأموال وتنميتها، مع العلم أن المشرع قد أكّد على تنمية هذه الأموال، فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”من ولي يتيماً لـه مال فليتجر به، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة“ [9]. ولم يذكر في التاريخ الإسلامي أن مال يتيم واحد قد أقرض بفائدة على الرغم من الحاجة الداعية لذلك من أجل حفظ أموال اليتامى وتنميتها. ولو كانت قروض الإنتاج بفائدة جائزة لنص على ذلك عالم، ولكن العلماء منذ عهده r إلى يومنا هذا لم يفرقوا بين قرض إنتاجي واستهلاكي في حرمة الربا، وأن هؤلاء العلماء قد أجمعوا على أن كل قرض جرّ نفعاً مشروطاً فهو ربا [10]. كما أن هؤلاء العلماء لم يجيزوا لرب المال في المضاربة أن يحصل على مبلغ مقطوع، ونصوا على أن رب المال قو قدم ماله لعامل على أن الربح كله لـه، أي: للعامل، لكان قرضاً لا قراضاً، وهذا دليل على أن القرض ولو قدّم للتجارة لا تكون الفائدة عليه مباحة
[11].

المبحث الثالث
القروض الإنتاجية وتطور الأحكام الشرعية
يزعم هؤلاء الباحثون أن الأوضاع الاقتصادية في العالم المعاصر متغيرة، فقد انتشرت الشركات والبنوك والمؤسسات المالية المختلفة، لذلك أصبحت القروض الإنتاجية تشكل الدعامة الأساسية لهذه المؤسسات، ومن ثم فإنه يجب النظر فيما يقتضيه هذا الانتشار وهذا التطور من تطور الأحكام الشرعية، لأن هذه الأحكام – بزعمهم – يجب أن تتمشى مع هذا الواقع، وتتغير بتغيره.

إن قول أولئك الباحثين بإباحة الربا في القروض الإنتاجية هو أمر يقتضيه التطور الحضاري والتقدم التقني، لذلك ينبغي أن تتطور الأحكام الشرعية: أحكام تستند إلى أدلة شرعية ثابتة لا تقبل التبديل أو التغيير مهما تغيرت ظروف الزمان والمكان. وأحكام أخرى اجتهادية تستند إلى العرف والمصلحة. فالأحكام الأولى لا تتطور ولا تتبدل، ولو كانت المصلحة ظاهرة في العمل بخلاف تلك الأحكام؛ لأن تقدير الصلاح والفساد في الأشياء هو للمشرع الحكيم. وليس لأهواء الناس ورغباتهم. والمشرع الحكيم قد ألغى كل المصالح التي تصادم النصوص الشرعية. هذا ويسمي الأصوليون هذه المصالح بالمصلحة الملغاة [12]. وهناك أمثلة كثيرة لهذا النوع من المصالح الملغاة، مثل: التعامل بأوراق اليانصيب، وتجارة الخمور والمخدرات... والربا، فيرى هؤلاء الباحثون جواز التعامل بما ذكر على أساس أنها مصلحة معتبرة؛ لأنها تحقق مصالح اقتصادية واجتماعية. وهذا الفهم عجيب ممن لديه أقل نصيب من الفكر أو أثارة من علم الفقه وأصوله، إذ إن تلك المصالح موهومة، ولا عبرة فيها ما دامت تصادم النصوص الشرعية، ومقاصد الشريعة، فهذه النصوص كما ذكرنا حرمت الربا مطلقاً مهما كانت المصلحة المرجوة من التعامل به. وينبغي التنبيه على أن مفاسد الربا أعظم من المصالح المترتبة على التعامل به بشهادة أهل الاختصاص، إذ إن الربا يؤثر في الاستثمار والادخار سلباً كما أوضح ويكسل وكينز [13]، وذكر كينز أيضاً أن الربا سبب رئيس للبطالة، وأن تخفيض سعره – أي سعر الفائدة وينادي إلى جعلها صفراً – سيؤدي إلى التشغيل الكامل. فقال: (من مصلحتنا أن مخفض سعر الربا إلى درجة نتمكن من تشغيل الناس جميعاً) [14]. وأوضح علماء آخرون منهم (فيشل) و(فبلن) أن الربا يساهم في خلق المشكلات الاقتصادية المختلفة
[15].

وفي مساوئ الربا وأضراره رد قاطع على ما زعموه من أن إباحته فيها مصالح اقتصادية، إذ على الرغم من المصالح الاقتصادية التي يحققها الربا، إلا أن لـه أضراراً أكبر بكثير من منافعه، لذلك لا يمكن القول باحتمال إباحته استناداً إلى تلك الحجة فضلاً عن أقوالهم بضرورة القول بإباحته. ولما كانت هذه المفاسد أعظم من تلك المصالح لذلك فإن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح كما يقول العلماء.

أما النوع الثاني من الأحكام فهي الاجتهادية التي تستند إلى العرف والمصلحة فهذه يمكن أن تتغير وتتبدل بتبدل العرف والمصلحة، لأن هذه الأحكام اجتهادية في أصلها، فيراعى فيها التأقيت أو عرف الناس الذي لا يخالف الشريعة ومقاصدها [16]. وقد ضبط بعض العلماء الأحكام التي يمكن أن تتبدل بما سماه بـ(الأحكام الاجتهادية من قياسية أو مصلحية) [17].

ثم إن هذه المصالح الاجتهادية لا تقدم على النص أو الإجماع سواء أكانت في باب المعاملات أم في غيرها، ولا يترك النص لمصلحة قط سواء أكانت هذه المصلحة ثابتة أم متغيرة؛ لأن للمصلحة ضوابط وقيوداً، منها ألا تخالف مقصود المشرع، ومقصوده يعرف من الكتاب والسنة والإجماع، فإذا خالفت المصلحة النص، فهي مصلحة ملغاة كما مر، ولا ينظر إليها [18].

قال الغزالي: (كل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنة والإجماع، وكانت المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشارع فهي باطلة مطرحة، ومن صار إليها فقد شرع) [19].

وهذه الأحكام الاجتهادية التي يمكن أن تتغير هي المقصودة بكلام العلماء (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان) لذلك لا يصح إطلاقاً بأن الأحكام – من دون التقييد بما ذكرنا – تتبدل بتبدل المصالح والأزمان.

المبحث الرابع
القروض الإنتاجية والضرورة
لقد استند المبيحون للربا في القروض الإنتاجية إلى أساس مبدأ الضرورة، إذ يرون أن التعامل بالربا أصبح ضرورة اقتصادية، لا يسع المجتمعات تركه. وهذا الرأي باطل؛ لأن للضرورة مفهوماً شرعياً محدداً، وأن هذه الدعوى لا تدخل ضمن هذا المفهوم.

فقد عرّف الشاطبي الضرورة بقوله: (ما لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فُقِدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج، وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين) [20].

وعرّف الضرورة أيضاً الزركشي بقوله: (فالضرورة بلوغه حداً إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب (الهلاك) كالمضطر للأكل، واللبس بحيث لو بقي جائعاً أو عرياناً لمات، أو تلف منه عضو، وهذا يبيح تناول المحرم) [21].

وعرّفها أيضاً الجصاص بقوله: (خوف الضرر على نفسه أو بعض أعضائه بتركه الأكل) [22].

ويبدو أن التعريفات السابقة للضرورة بينت معناها في ما يتعلق بالغذاء واللباس... لذلك يمكن تعريفها بأعم مما سبق: ((الضرورة: هي أن تطرأ على الإنسان حالة من الخطر أو المشقة الشديدة بحيث يخاف حدوث ضرر أو أذى بالنفس أو بالعضو أو بالعرض أو بالعقل أو بالمال وتوابعها، ويتعين أو يباح عندئذ: ارتكاب الحرام، أو ترك الواجب، أو تأخيره عن وقته دفعاً للضرر عنه في غالب ظنه ضمن قيود الشرع)) [23] ويفهم من التعريف السابق أنه لابد من تحقق ضوابط أو شروط الضرورة حتى يصح الأخذ بحكمها، ومن أهم هذه الضوابط ما يأتي[24]:

1 - أن تكون الضرورة حقيقية لا متوهمة، وقائمة لا منتظرة، بمعنى أنه يغلب على الظن حصول الهلاك أو التلف على النفس أو المال. أو يتحقق المرء من وجود خطر حقيقي على إحدى الضروريات الخمس وهي: الدين والنفس والعرض والعقل والمال، فيجوز حينئذ (الأخذ بالأحكام) الاستثنائية لدفع هذا الخطر.

2 - أن لا يمكن تلبيتها إلا بإباحة المحرم، أي أن تتمحض إباحة المحرم طريقاً لتلبيتها. وعليه فإن من يستطيع في الأحوال العادية أن يستثمر أمواله في المشروعات الإنتاجية المباحة المختلفة، فإنه لا يجوز لـه استثمارها في البنوك الربوية. وكذا من استطاع أن يقترض من غيره من دون فائدة سواء أكان ذلك بغرض الاستهلاك أم الإنتاج، فلا يجوز لـه الاقتراض بفائدة مهما كان السبب.

3 - أن لا يكون المحرم الذي يترتب على تلبيتها أشد ضرراً من فواتها، وذلك على وفق القاعدة الفقهية (الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف) [25]، وقاعدة: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) [26].

4 - أن لا يزاد في الضرورة عند إباحة المحرم على قدرها، للقاعدة الفقهية: (ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها) [27].

وتطبيقاً لمفهوم الضرورة الذي ذكرناه، وللضوابط والشروط التي أوردناها يظهر أن الربا في القروض الإنتاجية لا يصدق عليها وصف الضرورة ولا شروطها، لأن القروض الإنتاجية غرضها تكثير المال، من خلال استثماره، ومن المعلوم أن المحرم لا يباح لأي مصلحة كانت، وإنما يباح للمصلحة الضرورية والحاجية بشروطها فقط. ومن ثم فإن حفظ أصل المال من الضياع والهلاك هو مصلحة ضرورية أو حاجية.

(( أما استثمار المال فهو مصلحة تحسينية ندب إليها الشارع دون إيجاب، بدلالة أن أحداً من الفقهاء لم يقل بوجوب التجارة مشاركة أو غيرها، ولم يقل أحدٌ بإثم من ترك التجارة لأي سبب، إلا أن تكون التجارة طريقاً وحيداً للإنفاق على العيال فإنها في هذه الحال تجب لغيرها وليست لذاتها... ثم إن الفقهاء لم يقولوا بوجوب الاتجار في مال القاصر، لا على وليه ولا على وصيه ولا على القاضي عند غيابهما، ولكن ندبوا إلى ذلك ندباً أخذاً من قول النبي r: ”ألا من ولي يتيماً لـه مال فليتجر به ولا يتركه حتى تأكله الصدقة“ [28]... ولو كانت التجارة واستثمار المال واجبين لذاتهما في أي الأحوال لأوجبهما الشارع في هذه الحال، ثم إن في استثمار المال تعريضاً لـه للضياع فكيف يكون واجباً مع ذلك؟ فإذا كان الاتجار بالمال في الأصل ليس أكثر من مصلحة تحسينية لِمَأ تقدم، فلا يكون الاتجار ببعضه أكثر من ذلك من باب أولى)) [29].

ولَمّا كانت مصلحة استثمار المال هي مصلحة تحسينية وليست بضرورية ولا حاجية، لذلك لا يجوز أخذ القروض بفائدة بحجة استثمارها في مشروعات إنتاجية.

ومن خلال مفهوم الضرورة وشروطها يتبين أيضاً أن الضرورة غير قائمة لا في حق المقرض ولا المقترض من أجل استثمار المال في المشروعات الإنتاجية، لأن المقرض ما دام يملك مالاً زائداً عن حاجته فيقرضه لغيره، فإن هذا يعني أنه ليس مضطراً، لذلك لا يصدق عليه وصف الضرورة.

وكذلك الحال بالنسبة للمقترض؛ لأنه اقترض لينتج ويستكثر من المال، ولم يقترض من أجل دفع الهلاك أو المشقة عن نفسه. مع ملاحظة أن معظم المقترضين اليوم هم من الحكومات وكبرى الشركات والتجار الأغنياء الذين يستقرضون من أجل زيادة أموالهم.

وقد وضح الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى أن الضرورة قيامها في نظام ربوي، بل يمكن أن تكون في أعمال فردية. إذ إن معناها أن النظام كله يحتاج إلى الربا، كحاجة الجائع الذي يكون في مخمصة إلى أكل الميتة ولحم الخنزير، ومثل هذا لا يتصور في نظام. ولو فرضنا أن هناك حالات تستدعي الاقتراض بفائدة فستكون حالات فردية، وليست جماعية، فضلاً عن أن تكون نظاماً اقتصادياً [30] والخلاصة: أن شروط الضرورة ومفهومها لم تتحقق في هذه الدعوى، إذ إن الضرورة في إباحة القروض بفوائد من أجل الإنتاج، إنما هو ضرورة متوهمة ومنتظرة وليست حقيقية، لأننا إذا تركنا هذا النوع من المعاملة فهل يصل بنا هذا إلى حد الهلاك أو تلف الأموال وضياعها؟ ! طبعاً لا.

لذلك يمكن تلبية هذه المعاملة من القروض الحسنة، أو تركها أصلاً، إذ لا يترتب على تركها فقدان الحياة ولا فوات النعيم، بل العكس هو الصحيح بشهادة أهل الاختصاص والخبرة الذين أكدوا أن ترك الربا والابتعاد عنه هو الأفضل للمجتمعات لِمَا في الربا من مفاسد اقتصادية واجتماعية وسياسية كما ذكرنا سابقاً، وأن هذه المفاسد حقيقية وليست متوهمة بينما المصالح التي يجلبها الربا غير حقيقية لذلك ينبغي درء تلك المفاسد.

المبحث الخامس
القروض الإنتاجية والتعليل بالحكمة
من الطرق التي سلكها بعض الباحثين في إباحة الربا في القروض الإنتاجية هي التعليل بالحكمة، حيث جعل هؤلاء علة الربا هي الاستغلال أو الظلم، لذلك قالوا بإباحة الربا في الإنتاج لعدم تحقق وصف الظلم فيه، وعدم جواز الربا في الاستهلاك لوجود وصف الظلم أو الاستغلال الذي هو علة الربا. قال محمد الحبش متبنياً ومدافعاً عن هذا الرأي ومستدلاً لـه: ((وظاهر أن أجلى مظهر من مظاهر الربا إنما هو الاستغلال، وهو وصف منضبط عند أهل العقول يصلح معياراً حقيقياً لتمييز الربا الحرام من التجارة المباحة المأذون بها شرعاً، واضح من كل ما قدمناه من أمر الربا أن المقترض هنا هو الضعيف المضطر والمقرض هو القادر المستغل، ومن وجهة نظري الخاصة فهذا يختلف اختلافاً جذرياً عما هو سائد في الأوساط من اعتبار سائر المعاملات المصرفية عقوداً ربوية، على الرغم من عدم وجود عنصر الاستغلال فيها. إن التأكيد على كون الاستغلال هو العلة الحقيقية التي تنقل الربا من كونه نشاطاً تجارياً إلى كونه جريمة
اجتماعية))[31].

يبدو واضحاً من النص السابق أن أصحاب هذا الرأي يجعلون العلة في تحريم الربا هي الاستغلال لذلك يفرقون بين القروض الإنتاجية والاستهلاكية من حيث الحرمة، فالربا في القرض الإنتاجي يجوز مادامت العلة هي الاستغلال؛ لأنه في القروض الإنتاجية لا يوجد استغلال. أما الربا في القرض الاستهلاكي لا يجوز لأن علة الربا الاستغلال، وهي موجودة.

ويمكن مناقشة هذا الرأي وبيان بطلانه من خلال بيان مفهوم العلة والحكمة والفرق بينهما، وشروط التعليل بالحكمة، وأقوال الأصوليين فيهما.

أولاً: - مفهوم العلة:
تطلق العلة عادة على معنيين:

الأول – الحكمة التي تبعث على تشريع الحكم من أجل تحصيل مصلحة يراد تحققها، أو دفع مفسدة يراد تجنبها، مثلاً: تحريم الزنا ووجوب الحد على فاعله من أجل حفظ الأنساب، وكذلك تحريم الخمر ووجوب الحد على شاربه من أجل حفظ العقول. فالحكمة من تحريم الزنا هي حفظ النسب، والحكمة من تحريم الخمر هي حفظ العقل، أما العلة في الزنا فهي فعل الزنا، وفي الخمر الإسكار.

الثاني: الوصف الظاهر المنضبط الذي يناسب الحكم بتحقيق مصلحة الناس، إما بجلب مصلحة لهم أو دفع الشر عنهم [32].

ثانياً – الحكمة:

هي الباعث على التشريع الحكم، والغاية المقصودة منه، وهي المصلحة التي قصد الشارع بتشريع الحكم تحقيقها، أو المفسدة التي قصد الشارع بتشريع الحكم تركها [33].

يلاحظ من بيان مفهومي العلة والحكم أن العلة أعم من الحكمة، لأن العلة تشمل الوصف الظاهر المنضبط الذي يعرف الحكم به، ويوجد بوجوده، ويرتفع بارتفاعه، وهذا معنى قول الأصوليين: إن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً [34]. وتأتي عمومية العلة من كونها تشمل على الحكمة غالباً، أي أن العلة مظنة لتضمن الحكمة.

ثالثاً – آراء الأصوليين في التعليل بالحكمة:
ذكر الآمدي ثلاثة مذاهب فقال: ((ذهب الأكثرون إلى امتناع تعليل الحكم بالحكمة المجردة عن الضابط، وجوّزه الأقلون، ومنهم من فصل بين العلة الظاهرة المنضبطة بنفسها والحكمة الخفية المضطربة، فجوز التعليل بالأولى دون الثانية، وهذا هو المختار.

أما إذا كانت الحكمة ظاهرة منضبطة غير مضطربة فلأنا أجمعنا على أن الحكم إذا اقترن بوصف ظاهر منضبط مشتمل على حكمة غير منضبطة بنفسها أنه يصح التعليل به، وإن لم يكن هو المقصود من شرع الحكم، بل ما اشتمل عليه من الحكمة الخفية. فإذا كانت الحكمة وهي المقصود من شرع الحكم مساوية للوصف في الظهور والانضباط كانت أولى بالتعليل بها.

أما إذا كانت الحكمة خفية مضطربة غير منضبطة فيمتنع التعليل بها لثلاثة أوجه:

الأول: أنها إذا كانت خفية مضطربة مختلفة باختلاف الصور والأشخاص والأزمان والأحوال فلا يمكن معرفة ما هو مناط الحكم منها، والوقوف عليه إلا بعسر وحرج، ودأب الشارع فيما هذا شأنه على ما ألفناه منه، إنما هو رد الناس فيه إلى المظان الظاهرة الجلية، دفعاً للعسر عن الناس، والتخبط في الأحكام. ولهذا فإنا نعلم أن الشارع إنما قضى بالترخص في السفر دفعاً للمشقة المضبوطة بالسفر الطويل إلى مقصد معين، ولم يعلقها – أي العلة – بالمشقة نفسها، لما كانت مما يضطرب ويختلف. ولهذا فإنه لم يرخص الحمال المشقوق عليه في الحضر، وإن ظن أن مشقته تزيد على مشقة المسافر في كل يوم فرسخ، وإن كان في غاية الرفاهية والدعة، لما كان ذلك مما يختلف ويضطرب.

الثاني: أن الإجماع منعقد على صحة تعليل الأحكام بالأوصاف الظاهرة المنضبطة المشتملة على احتمال الحكم، كتعليل وجوب القصاص بالقتل العمد العدوان لحكمة الزجر أو الجبر، وتعليل صحة البيع التصرف الصادر من الأهل في المحل لحكمة الانتفاع، وتعليل تحريم شرب الخمر وإيجاب الحد به لحكمة دفع المفسدة الناشئة منه، ونحوه، ولو كان التعليل بالحكمة الخفية مما يصح لما احتيج إلى التعليل بضوابط هذه الحِكَم والنظر إليها لعدم الحاجة إليها، ولِمَا فيه من زيادة الحرج بالبحث عن الحكمة وعن ضابطها مع الاستغناء بأحدهما.

الثالث: أن التعليل بالحكمة المجرّدة إذا كانت خفية مضطربة، مما يفضي إلى العسر والحرج في حق المكلف بالبحث عنها والاطلاع عليها، والحرج منفي بقوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج:78] غير أنا خالفناه في التعليل بالوصف الظاهر المنضبط، لكون المشقة فيه أدنى، فبقينا عاملين بعموم النص فيما عداه)) [35].

يلاحظ من النص السابق أن جمهور الأصوليين قرروا صحة تعليل الأحكام بالأوصاف الظاهرة المنضبطة المشتملة على احتمال الحكم، وأن الحكمة إذا اشتملت على شروط العلة من حيث الوصف الظاهر والمنضبط فإنه يصح التعليل بها، وكذلك يجوز التعليل بالحكمة فيما إذا كانت مساوية للوصف في الظهور والانضباط. أما إذا كانت هذه الحكمة التي هي الغاية من تشريع الحكم غير ظاهرة وغير منضبطة (مضطربة) أحياناً فإنه لا يصح التعليل بها مطلقاً عند جمهور الأصوليين (36).

إن زعم هؤلاء أن الاستغلال هو العلة الحقيقية لتحريم الربا زعم باطل إذ لا دليل عليه لا من القرآن ولا من السنة، ولا من أقوال العلماء الذين ذكروا ضوابط التعليل بالعلة والحكمة.

إن الاستغلال أو الظلم هو الحكمة من تحريم الربا وليس العلة. فقوله تعالى: { وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } [البقرة:279] بين الحكمة من أخذ المال بعد التوبة، وهي رفع الظلم عن المقرض والمستقرض.

فلا تَظْلمون المدين بطلب الزيادة على رأس المال الذي أخذه، ولا تُظلَمون أي الدائن بنقصان رأس مال الذي أعطاه للمدين [37]. فأفادت هذه الآية الكريمة أن الزيادة على رأس المال أو النقصان منه ظلم. وهذا الظلم أو الاستغلال فإنه يقع على الغني والفقير أو على المقرض والمقترض؛ لأن من أعطى زيادة على ما أخذ بغير وجه حق فقد ظُلم سواء أكان غنياً أم فقيراً. ومن أخذ أقل مما أعطى فقد ظلم سواء أكان فقيراً أم غنياً.

ومن هنا يبدو أن هذه الحكمة ليست وصفاً ظاهراً منضبطاً، بل هي مضطربة بحسب الأحوال والأشخاص، لذلك لا يجوز التعليل بها. ولو سلمنا جدلاً بأن الاستغلال هو العلة، فإن هذه العلة ليست ظاهرة ولا منضبطة، لأنه لا يوجد تلازم بين الاستغلال والفقر من جهة، بمعنى أن الفقير يكون مُسْتَغلاً حينما يأخذ قرضاً من أجل الاستهلاك، ولا يكون مستغلاً حينما يأخذ قرضاً من أجل الإنتاج؟!

إذ إن الحال أحياناً أن الفقير أو المستثمر الصغير الفقير يأخذ قرضاً إنتاجياً من الغني سواء أكان هذا فرداً أم شركة. ففي مثل هذه الحالة ألا يوجد ظلم واستغلال لهذا الفقير الذي يعمل بهذه القروض الإنتاجية وهو في خطر، إذ قد يربح وقد يفشل؟!... ثم إن الظلم والاستغلال لا يقع من الغني للفقير فحسب، بل يقع بين التجار الأغنياء أيضاً. فلو كانت المعاملة بين الأغنياء فمن هو المظلوم والمستَغل؟! لذلك يظهر فساد قول الباحث: (إن المقترض هنا هو الضعيف المضطر والمقرض هو القادر المستغل).

ويرد فساد هذا القول أيضاً أن الظلم والاستغلال يقع من الفقير للغني أحياناً، فلو أعطى هذا الفقير ماله قرضاً بفائدة لذلك الغني الذي استثمر هذا المال في مشروعات إنتاجية وخسرت هذه المشروعات، ألا يكون في ذلك ظلم واستغلال؟!...

ثم إنه قد ينتفي الظلم والاستغلال من عملية الربا ومع ذلك تبقى المعاملة ربوية يدل على ذلك حديث أبي سعيد الخدرس رضي الله عنه، قال: (جاء بلال بتمر برني فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”من أين هذا“؟! فقال بلال: من تمر كان عندنا رديء فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال النبي عند ذلك: ”أوه عين الربا لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به“ [38].

ففي هذه الصورة وهي ربا الفضل قد ينتفي الاستغلال؛ لأن الصاع الجيد يساوي الصاعين الرديئين. ومع ذلك تكون هذه المعاملة ربوية، فلو كانت العلة هي الاستغلال لجازت هذه المعاملة، ولكنها غير جائزة بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم.

ومما سبق رأينا أنه قد يوجد الحكم وهو حرمة الربا ولا توجد العلة التي هي الاستغلال، وقد توجد العلة أو الحكمة ولا يوجد الحكم وهذا كله يقدح في كون العلة هي الاستغلال، لأن الأصوليين قرروا كما ذكرنا أن الحكم يدور مع علته لا مع حكمته وجوداً وعدماً.

الخاتمة
يبدو مما سبق أن الربا محرم في القرآن الكريم والسّنّة النبوية، وعند علماء الأمة، سواء أكان الدافع إليه الإنتاج أم الاستهلاك. وأن دعوى إباحة الربا في القرض الإنتاجي لا أساس لها، ولا مستند يعضدها، بل الأدلة الكثيرة والمختلفة ترفض تلك الدعوى. بل إن تلك الأدلة لم تفرق بين الربا في القروض الإنتاجية أو الاستهلاكية، إنما حرمت الربا مطلقاً. ثم إنه لا يوجد أي مصلحة معتبرة ولا ضرورة لإباحة هذا النوع من الربا، لأن لكل من المصلحة والضرورة ضوابط شرعية يؤخذ بها.

ثم إن المصلحة هي بتحريم الربا لأن أضراره الاقتصادية والسياسية والاجتماعية أكثر من منافعه. ومن ثم فإنه لا يصح القول بأن العلة في تحريم الربا هي الاستغلال أو الظلم؛ لأن الظلم أو الاستغلال هو الحكمة من تحريم الربا، وهناك فرق بين الحكمة والعلة، فالحكم الشرعي يدور مع العلة لا مع الحكمة وجوداً وعدماً.


[email protected]
هشام حلمي شلبي غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:01 AM