
دروس فى الأدارة - أد. محمد المحمد الماضى
التوازن بين الملكية الفردية والمسئولية الاجتماعية
أولاً: المذاهب المعاصرة والملكية الفردية:
لقد شهدت فلسفة التملك اختلافات واجتهادات متباينة بين المذاهب المختلفة، ولقد تبلورت في بدايات القرن العشرين في مذهبين طغيا على العالم؛ والذي اتفق على تسميتهما بالمذهب الشيوعي والمذهب الرأسمالي.
وباختصار شديد نجد أحدهما، وهو المذهب الشيوعي، قد تطرف بشدة نحو تقييد الملكية الفردية بشكل شبه كامل، وتأميمها تمامًا لصالح الملكية العامة، وجعلها مشاعًا - على حد زعمهم - ليشارك فيها الجميع، ليس على أساس جهد وبذل كل منهم، وإنما على أساس حاجته؛ ولذلك سميت الشيوعية تارة، وسميت الاشتراكية تارة أخرى، وكما نعلم فقد كانت النتيجة أن التطبيق العملي للنظرية كان محبطًا لدرجة كبيرة، وانتهى بالفشل التام لكل الدول التي تبنته، وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي سابقًا، والذي أصبح أثرا بعد عين!!
ولم يكن الوضع أحسن حالاً في الدول التي تبنت التطرف ناحية الملكية الفردية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث اتجهت نحو جعل هذه الملكية تقوم على أساس الحرية الكاملة للأفراد دون أي تدخل من الدولة.
ولعل العالِمَيْن قد استشعرا - بحسهم العلمي ومعايشتهم للواقع الغربي - أهمية ما يعمل المذهب الإسلامي على تقريره بشأن الملكية الفردية، وضبطها بما يحقق التوازن بين حق الفرد وحق المجتمع وخاصة المعوِّزين، بل وجعله عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه، خاصة الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام الخمسة، والصدقة والإنفاق في سبيل الله عمومًا.
وحتى تتضح الصورة بشكل أكثر، فيما يتعلق بتطرف المذهب الرأسمالي الذي قد يبدو أفضل للبعض، يمكن النظر إلى ما حدث فيما يسمى بالأزمة المالية العالمية الكبرى 2008 والتي ما زالت آثارها بادية على العالم بأثره، حتى على دولنا الفقيرة!!
ولعل أهم الأسباب التي أدت إلى ذلك، على نحو ما حلل العلماء المتخصصون، مثل د. حازم الببلاوي وغيره، يعود إلى ضعف الرقابة، وإطلاق العنان لحرية التملك، والإقراض للمزيد من التملك، والتمادي في ذلك، حتى أدى إلى مغالاة الأفراد في الاستهلاك الترفي، وبقروض لا تقل عن 18 تريلون دولار في الولايات المتحدة فقط، من خلال بطاقات الائتمان، ومثلها قروض بنكية، وكانت النتيجة التي عايشناها وعانينا منها جميعًا على مستوى كافة الدول والشركات العملاقة.
ومن العجيب أن هناك من علماء الغرب أنفسهم - إبان هذه الأزمة - من حذر من حدوث مثل هذه الأزمة إذا سارت قواعد اللعبة المالية بمثل هذا الشكل المنفلت، بل ونادى بعضهم بضرورة الاستفادة والتعلم بالنظام الإسلامي في ذلك.
ولأول مرة منذ نشأته يتعرض النظام الرأسمالي الغربي لمثل هذه الأزمة التي قوَّضت ما كان يقوم عليه من مبادئ، وخاصة عدم تدخل الدولة في آليات السوق ؛ حيث وجدت الدول الغربية الكبرى والصغرى جميعها، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، أنها أمام أمرين أحلاهما مر؛ إما أن تظل واقفة على الحياد دون أي تدخل من دعم الشركات والبنوك المنهارة، ووضع قيود جديدة على حركة السوق، وفي هذه الحالة سوف تنهار هذه المؤسسات المالية وفي ركابها كافة المؤسسات الاقتصادية الكبرى، ومن ثم انهيار كافة المجتمعات تمشيًا مع نظرية الكرات المتدحرجة، والتي لن تترك دولة على سطح الأرض إلا طالتها، وإما أن تدخل بقوة بفرض المزيد من القيود وضخ المليارات لدعم وإنقاذ مؤسساتها المالية والاقتصادية من الانهيار، وحينئذ تكون قد أعلنت شهادة فشل، بل وفاة النظام الرأسمالي، الذي يعتمد حرية السوق والتملك والضبط الآلي للمنافسة دون تدخل الدولة، والفائدة... الخ.
فما الذي حدث؟
لم يكن بالطبع أمام هذه الدول سوى مواجهة الحقيقة وطرح الشعارات والنظريات جانبًا، وكان تدخلها الواضح كدول وحكومات للإنقاذ بضخ مليارات الدولارات؛ لعل وعسى ينصلح الحال، وحدث جدل شديد حول شرعية مثل هذه الإجراءات، ووقف نواب وممثلو الشعوب، وخاصة الكونجرس الأمريكي، ضد حكومة بوش حينما لم تجد بُدًّا من ضخ 700 مليار كدفعة أولى لإنقاذ البنوك والهيئات والشركات الكبرى المتعثرة؛ باعتبار أن هذه الأموال يدفعها المواطن كضرائب، ليس لدعم شركات ومؤسسات رأسمالية ضخمة تكسب المليارات بكفاءتها وغير الكفء فليذهب إلى الجحيم، وإنما لتحسين مستوى ما يقدم له من خدمات!!
لقد وجدوا أنفسهم في موقف عجيب، وهو أن الذي أصبح يساعد ويدعم هو الفقير وليس الغني؛ المواطن البسيط يدعم الشركات العملاقة وليس العكس، وهذا لا يوجد في آلية النظام الرأسمالي الحر!!
لكن وبالرغم من سقوط بوش في الانتخابات الأخيرة، وكانت هذه الأزمة من أهم ما واجهته حكومته من انتقاد، إلا أن حكومة أوباما نفسه وسائر الحكومات الرأسمالية في الدول الأخرى، قد سارت مرغمة للبديل الثاني وبقوة؛ لعل وعسى يمكن إنقاذ الاقتصاد العالمي، أو على أقل تقدير إيقاف الانهيار والتدهور السريع له ولو إلى حين!
وذلك لأن أي دعم أو تدخل - مهما كان حجمه - سوف يكون علاجًا مؤقتًا للعرَض، وليس للسبب الحقيقي، والذي أدى لحدوث الأزمة.
وهو ما بدأ زعماء وحكماء العالم - إن صح هذا التعبير - ينتبهون إليه ويعترفون به، بل وينادون بتطبيق قواعد جديدة تمامًا، وعدم الاستمرار على النظام الحالي بقواعده الوهمية، بل واقترب الجميع، سواء بشكل مباشر أوغير مباشر، من المناداة بتطبيق قواعد هي الوحيدة القادرة على الإنقاذ وعدم التعرض مرة ثانية لمثل هذه الأزمة؛ وهي قواعد النظام المالي ذات التكامل الوسطي الفريد الذي يعمل على تحقيق درجة عالية ما بين الفرد والمجتمع، وبين ما هو مالي وما هو حقيقي، ويضع ضوابطًا للتملك والاقتراض والإقراض، ومتى تدخل الدولة للإنقاذ، وكيف ومن أي مصدر ومن أموال من؟
إنه نظام فريد بحق؛ يجعل من الزكاة التي يدفعها الأغنياء مصرفًا للغارمين الذين هم أصحاب الشركات المتعثرة؛ وذلك دون حرج، ومن الأموال التي سبق أن دفعوها؛ ليكون هناك ضمانة حقيقية لحفظ وحماية واستمراية السوق والاقتصاد؛ هذا خلاف قواعد أخرى كثيرة أصبح من المعتاد أن ينادي بها أساطين علماء الغرب في الاقتصاد قبل علماء الاسلام أنفسهم.
ولعل ما سبق يوضح بشكل واقعي عبقرية أو شمول وكمال الحل الإسلامي لجانب التملُّك، وكل ما يتعلق بالمال والاقتصاد، وهو ربما ما أذهل العالِمَيْن النابهين، وجعلهما يقفان عند هذه النقط، ويفردا لها بندًا مستقلاً من ملاحظاتهم حول ملامح الثقافة الإسلامية.
وهنا سوف يقفز تساؤل مهم، وهو: ما الذي حدث بعد ذلك؟ وهل أخذ صانع القرار بنصيحة المستشار؟!
العجيب أن نظام الحكم في مصر قد سار عكس هذ النصائح تمامًا، بل وأوغل فيما سمي بقوانين يوليو الاشتراكية، والتأميم لكل ما هو خاص من ملكية، سواء كانت زراعية أو صناعية أو خدمية، وأصبح المالك الأول في الدولة بل والوحيد هو ما أصبح يسمى بالقطاع العام الذي تولى زمام قيادة التنمية الشاملة في مصر، وسارت وراء مصر في ذلك العديد من الدول العربية، مثل لبيا وسوريا وغيرها؛ وكانت النتيجة - كما علمنا ورأينا وعايشنا - هي المزيد من التأخر والتخلف في كافة المجالات، والتي تُوجِّت بهزيمة نكراء من الكيان الصهيوني في يونيو 1967م.
ثم انتصرنا بفضل الله في أكتوبر 1973م بعد عودة حقيقية لجذورنا، لكن سرعان ما خطونا بشكل متسارع نحو الطرف الآخر؛ الرأسمالية الفردية الحرة، وكأننا نسير بلا هوية أو شخصية، لننتقل من مسخٍ إلى مسخ، بينما العالم حولنا ما زال يتجه نحو حقيقة وسطية النظام الإسلامي الاقتصادي.
فما ذكره هذان العالمان كقاعدة عابرة ومركزة ما زال يجد صداه الآن كحل لما يحدث في العالم من أزمات.. لكن علينا أن نقف بشكل مركز حول ملامح هذا النظام..
ولقد سرنا نحن - للأسف الشديد - بخطى متسارعة منذ البداية في كل السبل المستوردة والحلول المرقعة شرقًا أو غربًا، وحاولنا تجربتها، ورغم أنها لم تجن علينا إلا المزيد من الضياع الاقتصادي، فإننا قد نفرنا بشدة، وما زلنا ننفر وربما نخاصم، حلنا الإسلامي للمعضلة الاقتصادية، رغم ما وصى به العالمان منذ 1962 م، ورغم ما توصل إليه أساطين علماء الاقتصاد الاسلاميين حتى يومنا هذا، وما أظهرته الأزمة المالية العالمية أخيرًا من نزع آخر رمق في النظام الرأسمالي الغربي، بعد أن لفظ النظام الشيوعي آخر أنفاسه منذ سقوط الاتحاد السوفيتي في تسعينات القرن الماضي.
ثانيًا: ملامح وأساسيات النظام الإسلامي في التملك والاقتصاد:
في سياق وقوفنا على ملامح وأساسيات النظام الإسلامي في التملك ننوِّه بدءًا على أنه حق شرعي كفله الإسلام، وهو يعني الاعتراف بحق الملكية الفردية للإنسان، وتمكين المالك من سلطة التصرف بالشيء والاستفادة منه واستغلاله، والأصل - كما يعبر الدكتور الزحيلي - أن يكون في الأعيان، ثم قرِّر في المنافع والحقوق. والتملك في الأصل يقع على المال الذي هو أحد الضروريات الخمس في الإسلام، ويعتبر المال أحد الدعائم الأساسية في الحياة، وهو أحد عناصر الإنتاج مع العمل والموارد الطبيعية، وهو زينة الحياة، وفطر الإنسان على حبه.
وننوِّه أيضًا على أن أصل الملك لله تعالى، أما العبد فله التصرف؛ قال الله تعالى: (وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد:7]، قال القرطبي: "هذا دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له فيه إلا التصرف الذي يرضي الله فيثيبه على ذلك بالجنة... وهذا يدل على أنها ليست بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيه إلا منزلة النواب والوكلاء، فاغتنموا الفرصة فيها بإقامة الحق قبل أن تزال عنكم إلى من بعدكم".
والشريعة الإسلامية تكره تكديس الأموال بأيدي فئة من الناس، قال الله تعالى: (مَّا أَفَاء ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأَغْنِيَاء مِنكُمْ) [الحشر: 7]، قال القرطبي: أي: فعلنا ذلك في هذا الفيء كي لا تقسمه الرؤساء والأغنياء والأقوياء بينهم دون الفقراء والضعفاء".
وقال ابن عاشور: "وقد بدا من هذا التعليل أن من مقاصد الشريعة أن يكون المال دولة بين الأمة الإسلامية على نظام محكم في انتقاله من كل مال لم يسبق عليه ملك لأحد، مثل الموات والفيء واللقطات والركاز، أو كان جزءاً معيناً مثل الزكاة والكفارات وتخميس المغانم والخراج والمواريث، وعقود المعاملات التي بين جانبي مال وعمل مثل القراض والمغارسة والمساقاة، وفي الأموال التي يظفر بها الظافر بدون عمل وسعي مثل الفيء والركاز وما ألقاه البحر".
على أن هناك محرمات في التملك، وتتمثل في قول الله تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُم بِٱلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 188]، قال ابن جرير: "يعني تعالى ذكره بذلك: ولا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، فجعل تعالى ذكره بذلك آكل مال أخيه بالباطل كالآكل مال نفسه بالباطل".
وقال ابن عاشور: "ومعنى أكلها بالباطل: أكلها بدون وجه، وهذا الأكل مراتب:
المرتبة الأولى: ما علمه جميع السامعين مما هو صريح في كونه باطلاً كالغصب والسرقة والحيلة.
المرتبة الثانية: ما ألحقه الشرع بالباطل فبيّن أنه من الباطل وقد كان خفياً عنهم، وهذا مثل الربا ورشوة الحكام ومثل بيع الثمرة قبل بدو صلاحها.
المرتبة الثالثة: ما استنبطه العلماء من ذلك، مما يتحقق فيه وصف الباطل بالنظر وهذا مجال للاجتهاد في تحقيق معنى الباطل".
هذا وقد شُرعت العقوبات للحد من الاعتداء على التملك، قال الله تعالى: (وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَـٰلاً مّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة: 38]، قال ابن كثير: يقول تعالى حاكماً وآمراً بقطع يد السارق والسارقة"، وقال ابن سعدي: "والحكمة في قطع اليد في السرقة أن ذلك حفظ للأموال واحتياط لها، وليقطع العضو الذي صدرت منه الجناية".
وهناك قيود وضوابط - كما يقرر الدكتور الزحيلي - في حق الملكية:
فمن حيث نشأته: بأن ينشأ بسبب شرعي، فإن نشأ من غير وجه شرعي فإن الإسلام لا يعترف به ولا يحميه، بل يأمر بنزعه من يد حائزه ورده إلى مالكه الأصلي، كالمال المسروق أو المغصوب، فإن لم يكن له مالك وضع في بيت المال.
ومن حيث نماؤه: حدد الإسلام سبل المال ونمائه بالقيود والتصرفات المشروعة، ولم يعترف بالنماء الناتج عن سبيل باطل حرام، كالنماء الناتج عن بيع الربا أو بيع الخمور والمخدرات أو فتح نوادي للقمار، كما أوجب في حق الملكية قدراً معيناً لمصلحة الجماعة يتمثل في الزكاة والنفقات الشرعية، وعدم جواز الوصية بأكثر من الثلث حفظاً لحق الوارثين في الثلثين.
ومن حيث استهلاكه: إذ قيده بالاعتدال في الإنفاق دون إسراف أو تقتير، قال تعالى: (وَٱلَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) [الفرقان:67]، كما قيده أيضاً بتحريم الإنفاق فيما حرمته الشريعة الإسلامية.
وقيده بجواز نزعه عند الضرورة: للمصلحة العامة مع تعويض صاحب الملك التعويض العادل، كنزع الملك لتوسعة الطريق العام.
وهناك طرق مشروعة للتملك، منها التملك عن طريق السبق المباح، ويشمل: التملك عن طريق إحياء الموات، التملك عن طريق الصيد، التملك عن طريق استخراج المعادن، التملك عن طريق الاحتشاش والاحتطاب والاستقاء، ومنها التملك بواسطة المعاوضة، وتشمل: البيع والحوالة والمضاربة والسلم والإجارة، كما أن منها التملك عن طريق الهبات والوصايا والصدقات، والتملك عن طريق الميراث.
وفي هذا الصدد ذكر الدكتور محمد شوقي الفنجري في مقالة نشرت في الأهرام بتاريخ 8 أغسطس 2009م قال فيها:
ينفرد الإسلام دون سائر المذاهب الاقتصادية والنظم الوضعية بنظرة خاصة للمال وموقف معين بالنسبة للملكية الفردية, فهو لا ينكرها ولا يطلقها، وفي حدود المساحة المصرح بها نذكر فيما يلي بعض المفاهيم الاقتصادية الإسلامية التي ينفرد بها الاقتصاد الإسلامي:
أولاً: اختصاص البعض بالمال في الإسلام ليس ميزة أو امتلاكًا، وإنما هو أمانة ومسئولية: لقوله تعالي: (وَأَنْفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد: 7].
ثانيًا: عدالة التوزيع أو حفظ التوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع ودول العالم: وبالتالي أصبح من المسلم به شرعا أنه لا يجوز في مجتمع إسلامي أن يكون المال متداولا بين فئة قليلة من الناس بل أن يعم الخير الجميع, إعمالا لقوله تعالي: (كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [الحشر: 7]. وهو ما عبرنا عنه بالمصطلح الحديث بمبدأ عدالة التوزيع في الإسلام أو حفظ التوازن الاقتصادي سواء بين أفراد المجتمع علي المستوي المحلي أم بين دول العالم علي المستوي العالمي, إذ كما ورد في الحديث النبوي: "ليس بالمؤمن - فردا أو دولة - الذي يشبع وجاره جائع إلي جنبه وهو يعلم" الحاكم في المستدرك.
ثالثا: أحقية الفقير في مال الغني هي بقدر ما يكفيه:
كما أصبح من المسلم به شرعا أن للفقير حقا معلوما في مال الغني, هو بقدر ما يكفيه, مما عبرنا عنه بضمان حد الكفاية لا مجرد حد الكفاف. إعمالا لقوله تعالي: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) [الذاريات: 19]. وقوله تعالي: (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) [البقرة/219] أي ما زاد علي الحاجة بمعني الكفاية أو تمام الكفاية. وقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "تؤخذ من أغنيائهم فترد علي فقرائهم" (الشيخان البخاري ومسلم), وقوله صلي الله عليه وسلم: "من كان معه فضل ظهر فليعد به علي من لا ظهر له, ومن كان له فضل زاد فليعد به علي من لا زاد له" (الشيخان البخاري ومسلم), ويضيف الرواة أن الرسول صلي الله عليه وسلم ذكر من أصناف المال ما ذكر حتي رأينا أنه لا حق لأحدنا في فضل مال أي في زيادة علي حاجته.
ومن ثم كان قول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب: "إني حريص علي ألا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض, فإذا عجزنا تآسينا في عيشنا حتي نستوي في الكفاف", وقوله رضي الله عنه عام المجاعة سنة18 هـ: "لو لم أجد للناس ما يسعهم إلا أن أدخل علي أهل كل بيت عدتهم, فيقاسموهم أنصاف بطونهم حتي يأتي الله بالحيا - أي المطر - لفعلت فإنهم لن يهلكوا علي أنصاف بطونهم". وقول الخليفة الرابع علي بن أبي طالب: "إن الله فرض علي الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم".
ومن هنا كان قول الإمام الشافعي في عبارة فقهية دقيقة مشهورة عنه: "إن للفقراء أحقية استحقاق في المال, حتي صار بمنزلة المال المشترك بين صاحبه وبين الفقير" وهو ما عبر عنه الفقيه أحمد بن الدلجي في كتابه (الفلاكه والمفلوكون) أي الفقر والفقراء بقوله: "إن من حق المحروم أن يري النعم التي بأيدي الناس مغصوبة, والمالك المستحق يطالب باسترداد ماله من أيدي الغاصبين", أي أنه اعتبر المحروم صاحب استحقاق والمالكين حال حرمانه هم مجرد غاصبين. وهو ما عبر عنه الإمام ابن حزم في كتابه المحلي بقوله: "إنه إذا مات رجل جوعا في بلد, أعتبر أهله قتله وأخذت منهم دية القتل", ويضيف ابن حزم أن للجائع عند الضرورة أن يقاتل في سبيل حقه في الطعام الزائد عن غيره "فإن قتل ـ أي الجائع ـ فقد مات شهيدا وعلي قاتله القصاص, وإن قتل المانع فإلي لعنة الله لأنه منع حقا وهو طائفة باغية".
ويعتبر فقهاء الإسلام الحاكم آثما, إذا لم يوفر حد الكفاية لكل فرد أخذا مما زاد علي حاجة الأغنياء, ذلك لأن بذل الفضل عند الحاجة يصبح التزاما وضرورة إذا لا يقبل الإسلام أن يبيت فرد علي شبع وهو يعلم أن جاره جائع.
رابعا: الإسلام لا يضع حدا أعلي للملكية وإنما ينفرد دون سائر النظم الوضعية بوضع قيود علي استعمالها:
وبالرغم من إن الإسلام لا يضع حدا علي الملكية أو اكتساب المال وذلك تشجيعا وضمانا للباعث والحافز الشخصي, فإنه يضع عليها قيودا من حيث اكتسابها ومجالاتها, بل أساسا من حيث استعمالها مما لا نجد له مثيلا في أي تشريع أو نظام وضعي وبحيث يحيلها بحق إلي أمانة ومسئولية ومجرد وظيفة شرعية, ومن قبيل ذلك:
1ـ أن المسلم لا يستطيع أن يكنز ماله أو يحبسه عن التداول أو الانتاج لقوله تعالي: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [التوبة: 34].
2ـ وهو لا يستطيع أن يصرفه علي غير مقتضي العقل, وإلا حق الحجر عليه للسفه لقوله تعالي: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما النساء/5.
3ـ وهو لا يملك أن يعيش عيشة مترفة, وإلا عد بنص القرآن مجرما لقوله تعالي: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) [هود: 116].
4ـ وهو مطالب دائما بأن ينفق كل مازاد عن حاجته في سبيل الله.
خامسا:شرعية الملكية باعتبارها وسيلة إنمائية:
وفي نظرنا أن الإسلام في اعترافه بالملكية سواء كانت خاصة أم عامة, وفي نظرته إليها وتنظيمه لها, إنما أقامها باعتبارها وسيلة انمائية أي حافزا من حوافز التنمية, بحيث تنتفي أو تسقط شرعية الملكية سواء كانت خاصة أم عامة إذا لم يحسن الفرد أو الدولة استخدام هذا المال استثمارا أو إنفاقا في مصلحته ومصلحة الجماعة، وقد عبر عن ذلك أصدق تعبير سيدنا عمر بن الخطاب حين قال لبلال وقد أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم أرض العقيق: "إن رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يقطعك لتحجز عن الناس وإنما أقطعك لتعمل, فخذ ما قدرت علي عمارته ورد الباقي".
ومن هنا ندرك لماذا ربط الإسلام بين الإيمان والإنفاق في سبيل الله أي في سبيل المجتمع وتعميره. بل إنه جعل هذا الانفاق أو التعمير هو الغاية من خلق الإنسان لقوله تعالي: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود: 61] أي كلفكم بعمارتها".
سادسا: انفراد الاقتصاد الإسلامي بعنصر من عناصر الانتاج وهو التقوي وعائده هو البركة مما تغفله كافة الاقتصاديات الوضعية:
1ـ في الاقتصاد الرأسمالي عناصر الإنتاج كما هو معروف أربعة هي: العمل وعائده الأجر, ورأس المال وعائده الفائدة, والطبيعة وعائدها الريع, والمنظم وعائده الربح, ويتحدد ثمن أو قيمة كل عنصر من عناصر الانتاج سالفة الذكر علي أساس سعر السوق وهو ما يتحدد بحسب العرض والطلب.
2ـ وفي الاقتصاد الاشتراكي عنصر الانتاج الأساسي فيه هو العمل, سواء كان يدويا أو عقليا, وعائده الأجر أو الراتب, ويتحدد ثمن أو قيمة هذا العنصر بحسب ما تقرره السلطات المعنية, وذلك حسب خطة تنميتها الاقتصادية, آخذة في الاعتبار قوي العرض والطلب دون أن تتقيد بهما تقيدا تاما. أما بقية عناصر الاجتماع كرأس المال والطبيعة والمنظم, فتظل موجودة وإنما ينتقل عائدها إلي الدولة تتصرف فيها حسب خطة التنمية الاقتصادية.
3ـ وفي الاقتصاد الإسلامي ذهب جمهور الفقهاء أن عناصر أو عوامل الانتاج في الإسلام اثنان هما العمل ورأس المال, وذلك استنادا إلي عقد المضاربة ويسمي أيضا المقارضة, بتوزيع العائد وهو حصيلة الانتاج بين العمل ورأس المال, حيث يقدم أحد الشركاء وهو رب المال أي المقارض رأس المال, بينما يقدم الشريك الآخر وهو رب العمل أي المضارب عمله وقد سمي كذلك لأنه يضرب في الأرض ويسعي فيها قصدا إلي المال وتنمية الثروة, ويوزع العائد بينهما بنسبة معينة حسب الاتفاق.
وفي كتابي (الإسلام والمشكلة الاقتصادية) أظهرت أن ثمة عنصرا آخر من عناصر الانتاج تغفله سائر المذاهب والنظم الاقتصادية الوضعية, ولكن يكشف عنه الاقتصاد الإسلامي, بل يعتبره من أهم عناصر الانتاج ألا وهو التقوي أي ابتغاء وجه الله تعالي ومراعاته وخشيته سبحانه في كل ما تقوم به من عمل أو تباشره من نشاط اقتصادي وهو ما عبرت عنه عدة آيات قرآنية وأحاديث نبوية, نذكر منها علي سبيل المثال قوله تعالي: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96] وقوله تعالي: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) [المائدة: 66]
ومكافأة عنصر التقوي هو من عند الله, وهو ما يسميه العامة البركة في الدنيا والجنة في الآخرة. أما من حيث مكافأة عنصري الانتاج الآخرين وهما رأس المال والعمل فان الإسلام يحترم أساسا إرادة الشريكين: رب المال ورب العمل, فنصيب كل منهما أو عائد كل عنصر منهما يتحدد بالاتفاق. وهذا الاتفاق يحكمه في الاقتصاد الإسلامي أمران:
أولهما: سعر السوق أي قوي العرض والطلب, والذي يحدد نصيب أو عائد كل من العمل ورأس المال في المضاربة أي العملية الانتاجية.
ثانيهما: ألا يكون سعر السوق علي الوجه المتقدم مجحفا بالمستهلك, وإلا تعين علي ولي الأمر التدخل لتحديد الثمن أي عائد كل عنصر من عناصر الانتاج, وذلك بالقدر الذي يحقق العدل والتوازن بين مختلف الأطراف, باعتبار أن هذا العدل أو التوازن هو غاية ما يحرص عليه الإسلام بقوله تعالي: (لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) [البقرة: 279] وقوله تعالي: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) [الرحمن: 9], وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" (متفق عليه البخاري ومسلم), وقوله صلي الله عليه وسلم: "لا تهضموا الناس حقوقهم فتكفروهم" السيوطي.
وفي النهاية فإنني أهيب بكل مسئول سواء كان مديرًا أو حاكمًا أو قائدا، أيا كان موقعه، أن يعيد قراءة ما سبق مرات ويحاول أن يضعه نصب عينيه دائما كموجه لإدارته وحكمه كي يحقق الفلاح لنفسه ولمن يقودهم في الدنيا وفي الآخرة.
ولنعيد معا المبدأ الذي سبق أن تناولناه ، والذي ذكره عالما الإدارة ( Luther Gulick & James K. Pollock ) من المبادئ التسع التي استخلصاها من الشريعة الإسلامية كثقافة للأمة المصرية؛ وهو: "نظام الملكية الفردية حق مقدس ينطوي على ضرورة استخدام الممتلكات بنحو مثمر، مع تخصيص قدر من الدخل فى عون المعوِّزين وخدمة المجتمع والضرائب (الزكاة والإنفاق)".
فهل آن الأوان أن نفعّل هذه المبادئ نحن المسلمون في حياتنا الإدارية والاقتصادية، ونجعلها نبراسا لنا وعنونا لحكمنا كي نرضي الله ونحقق النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة لنا ولدولنا.. هذا ما أعتقده وما أرجوه، وما يرجوه كل من يقرأ هذا المقال.