موضوع: أحكام بيع وشراء حلي الذهب والفضة
رفيق يونس المصري
أستاذ مساعد - مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
كلية الاقتصاد والإدارة - جامعة الملك عبدالعزيز
المستخلص :
في دراسات سابقة تم التركيز على آراء جمهور الأئمة والعلماء ، في مبادلات الحلي الذهبية والفضية ، حيث اشترطوا فيها التماثل والتعجيل . وفي هذه الدراسة يتم التركيز على رأي الإمامين ابن تيمية وابن القيم ، اللذين أجازا التفاضل والتأجيل . ووجه هذا الرأي أن الصناعة تنقل الذهب والفضة من مال ربوي إلى مال غير ربوي ، فإذا كانت علة الربا في الذهب والفضة الواردين في الحديث النبوي الشريف هي الثمنية ، فإنهما بالصناعة لم يعودا من الأثمان (النقود) . وهذا الرأي فيه الكثير من التيسير على الصاغة والمتعاملين معهم ، إذ يصبح التعامل بهذه الحلي كالتعامل بالسلع العادية التي لا تخضع لأي قيود ربوية . لم يكتف الباحث ، في هذا البحث ، بإبراز هذا الرأي فحسب ، بل اهتم أيضاً ببيان أصوله ، من حيث التعريف بالعلماء الذين أجازوا التفاضل في هذا النوع من المبادلات ، والعلماء الذين أجازوا النَّساء (تأجيل أو تأخير البدل) .
مقدمة
الحمدلله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم المرسلين ، ورضي الله عن الصحابة أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد :
فقد اطلعت على فتاوى أو بحوث ، ذهب فيها أصحابها إلى منع التفاضل والنَّساء ، أي إلى وجوب التماثل والتقابض ، في مبادلات حلي الذهب والفضة . ولا شك أن ما ذهب إليه هؤلاء العلماء هو الأحوط ، ولكنه الأشد ، في معاملات الصاغة وتجار الحلي الذهبية والفضية .
وبالمقابل هناك آراء أخرى مخالفة ، لعلماء كبار، مثل الإمام ابن تيمية، والإمام ابن القيم ، اللذين ذهبا إلى جواز التفاضل (في الذهب بالذهب، والفضة بالفضة) لأجل الصياغة أو الصنعة، وكذلك إلى جواز النَّساء (الأجل) . ذلك بأن الحلي المباحة تصير بالصياغة المباحة داخلة في السلع، وخارجة عن الأثمان (النقود) ، وعندئذ فلا ربا بينها وبين الأثمان، فيجوز فيها الفضل والنَّساء ، ولا تعود لهذه المهنة خصوصية "ربوية" ، إنما تمارس عندئذٍ كما تمارس سائر المهن والتجارات، بالآداب الشرعية والأحكام العامة .
ومن الواضح أن ما ذهب إليه الإمامان ابن تيمية وابن القيم ، منذ القرن الثامن الهجري ، فيه تيسير كبير على تجار الذهب والفضة ، من المسلمين ، إذْ يخرجهم من القلق والمشقة والحيل ، ولا يلجئهم إلى الفرار من هذه الصناعة والتجارة ، وتركها لغيرهم ، ولا يسد عليهم باب الدَّين ، فلو سُدَّ عليهم هذا الباب لتضرروا بذلك غاية الضرر ، كما قال ابن القيم .
ولئن كان هذان الإمامان الجليلان يفتيان بفتواهما هذه، منذ سبعة قرون، فلا غرو أن تجارة الحلي أحوج اليوم إلى مثل هذه الفتاوى، مع تطاول الزمن، وتغير الظروف والأحوال وأساليب المعاملات . ولئن كانت هذه الآراء لا تعبر عن مذاهب جماهير العلماء ، إلا أن لها وجهاً شرعياً مقبولاً .
ومن المهم هنا أن نعرف أيضاً أن رأي ابن تيمية وابن القيم له أصل قديم عند السلف، فهو رأي الحسن، وإبراهيم، والشعبي، الذين يبدو أنهم أجازوا الفضل لمراعاة الصنعة (انظر الفقرة 5 من هذا البحث) ، ورأي معاوية بن أبي سفيان والحسن البصري اللذين يبدو أنهما أجازا الفضل والنَّساء (انظر الفقرة 14 من هذا البحث) .
على أننا ندعو تجار الذهب والفضة إلى العمل بالأحوط كلما أمكن ، لاستحباب الخروج أو التقليل ، من الخلاف الفقهي بين العلماء ، ولاستحباب العمل برأي الجمهور .
وقد بدأت في تسليط الضوء على الموضوع، في كتابين لي سابقين، هما : "الإسلام والنقود" ، والجامع في أصول الربا" . وآثرت في هذا البحث التيسير والوضوح ، سائلاً المولى تعالى أن يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى .
1 ــ أحكام الذهب والفضة : هل هي واحدة أم مختلفة ؟
1 ـ أحكام الذهب والفضة واحدة في مجال الربا ، وتدخل في ذلك تجارة حلي الذهب والفضة . فقد جمعت بينهما أحاديث الربا . من ذلك قوله r : "الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة (...) مِثْلاً بمثل ، سواءً بسواء ، يداً بيد" (صحيح مسلم بشرح النووي 4/98) .
ولهذا السبب جمعنا بين الذهب والفضة في بحث واحد، هو هذا البحث .
2 ـ أحكام الذهب والفضة واحدة في مجال الآنية ، فلا يجوز اتخاذ آنية الذهب والفضة ، كما سنذكر في الفقرة التالية .
3 ـ أحكام الذهب والفضة مختلفة في مجال اللباس والزينة ، فالذهب والفضة جائزان للنِّساء، أما الرجال فيجوز لهم الفضة دون الذهب ، إلا لضرورة أو حاجة .
2 ـ مشروعية تجارة حلي الذهب والفضة
1 ـ التحلي بالذهب والفضة للإناث جائز .
2 ـ التحلي بالذهب للذكور غير جائز ، وبالفضة جائز (ضمن حدود وقيود تختلف باختلاف المذاهب) قال r : "إن هذين (الحرير والذهب) حرام على ذكور أمتي" (سنن أبي داود 4/50 ، والنَّسائي 8/160، وابن ماجه 2/1189. وانظر سنن الترمذي 4/217، وصحيح البخاري 7/200، ومسلم 13/31) .
ويجوز الذهب للذكور في الأغراض الطبية ، كتضبيب (تلبيس) الأسنان . ففي مسند الإمام أحمد 1/73 : "عثمان بن عفان ضبَّب أسنانه بذهب" ، وذلك لما يتمتع به الذهب من خصائص لا توجد في غيره . قال القتيبـي : كنت أحسب أن قول الأصمعي : إن الفضة لا تنتن صحيحاً ، حتى أخبرني بعض أهل الخبرة أن الذهب لا يبليه الثرى ، ولا يصدئه الندى ، ولا تُنقصه الأرض ، ولا تأكله النار . أما الفضة فإنها تبلى ، وتصدأ ، ويعلوها السواد ، وتنتن" .
ويجوز أيضاً تحلية المصحف بالذهب والفضة ، وآلة الحرب ، كالسيف والرمح .
3 ـ اتخاذ آنية من الذهب أو الفضة غير جائز . قال رسول الله r : "من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه ناراً من جهنم" (صحيح البخاري 7/146، ومسلم 14/30، واللفظ له ) . الجرجرة : صوت وقوع الماء في الجوف .
4 ـ المموَّه (المَطْلِي) من الذهب والفضة فيه خلاف ، ما لم يكن قليلاً .
وعليه فإن هذه الاستعمالات الجائزة ، لحلي الذهب والفضة ، والمطلوبة من المستهلكين والمنتجين ، تعد بمثابة إشارة منهم لقيام صناعة وتجارة تلبيان طلباتهم وأذواقهم وميولهم المختلفة . وهذه الصناعة وتلك التجارة لا شك أنهما جائزتان . وهذا ليس عليه خلاف ، إنما الخلاف الفقهي في كيفية ممارسة هذه التجارة : هل تفرض عليها قيود خاصة ، لا توجد في سائر التجارات، من حيث التفاضل والتأجيل ، أم لا تفرض عليها أي قيود خاصة، ومن ثَمَّ فإنها كسائر التجارات ، تحكمها فقط الآداب التجارية العامة ؟
3 ـ بعض النصوص الشرعية في الربا
1 ـ قال تعالى : { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ، ذلك بأنهم قالوا : إنما البيع مثل الربا ، وأحل الله البيع وحرم الربا }. سورة البقرة 275.
2 ـ قال رسول الله r : "الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة (...) مِثْلاً بمثل ، سواءً بسواء ، يداً بيد . فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم ، إذا كان يداً بيد" (صحيح مسلم 4/98) .
3 ـ عن فضالة بن عبيد قال : اشتريت يوم خيبر قلادة ، باثني عشر ديناراً ، فيها ذهب وخرز ، ففصَّلتها ، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً . فذكرت ذلك للنبي r فقال : لا تباع حتى تُفَصَّل" (صحيح مسلم 4/101) .
4 ـ ما المقصود بالذهب والفضة في أحاديث الربا ؟
اختلف العلماء في ذلك :
1 ـ فبعضهم يرى أنهما مذكوران في الحديث لأنهما ذهب وفضة لا غير ، فلا تعليل عندهم ولا قياس ، أي لا يلحق بهما غيرهما ، إذْ لا علة لأجل أن يتم الإلحاق بموجبها .
2 ـ وبعضهم يرى أنهما مذكوران في الحديث باعتبارهما موزونين ، فالعلة عندهم هي الوزن ، فيلحق بهما كل موزون .
3 ـ وبعضهم يرى أنهما مذكوران في الحديث لأنهما أثمان (نقود)، فالعلة عندهم هي الثمنية (النقدية) ، ولكنها قاصرة عليهما ، فلا يلحق بهما غيرهما .
4 ـ وبعضهم يرى أنهما مذكوران في الحديث لأنهما أثمان ، فالعلة عندهم هي الثمنية، ولكنها متعدية ، فيلحق بهما كل ثمن ، كالنقود الورقية في عصرنا . وهذا المذهب هو الراجح، والمعتمد في هذا البحث .
ومذهب الثمنية ، سواء أكانت العلة قاصرة أم متعدية ، هو مذهب الشافعية ، والمالكية، وابن تيمية ، وابن القيم ، ورواية ثانية عن الإمام أحمد.
5 ـ التفاضل لأجل الصنعة
هل يجوز بيع ذهب بذهب أكثر منه، أو فضة بفضة أكثر منها، والزائد في مقابل الصياغة والصنعة - البيع معجل - ؟
قد يكون لدى أحد الأفراد أو التجار ذهب يريد مبادلته بذهب آخر، وبينهما فرق في الصنعة، فيجد ذهباً مصنوعاً لدى آخر ، تاجراً أو فرداً ، ليس لديه نقود يشتري بها الذهب الأقل صنعة، ثم يبيعه الذهب الأكثر صنعة ، لا سيما إذا كان المبلغ كبيراً ، كما في تجارة الجملة ، فهل يجوز أن تتم المبادلة مباشرة بين الذهبين ، مع زيادة لقاء فرق الصنعة ؟
أجاز ذلك بعض العلماء :
قال ابن رشد (ت595هـ) : " إلا معاوية فإنه كان يجيز التفاضل بين التِّبْرِ (غيرِ المصوغ) والمصوغ ، لمكان زيادة الصياغة ، وإلا ما روي عن مالك أنه سئل عن الرجل يأتي دار الضرب (ضرب النقود) بورقه (فضته)، فيعطيهم أجرة الضرب، ويأخذ منهم دنانير ودراهم، وزن ورقه أو دراهمه، فقال : إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة (رفاق السفر) ونحو ذلك، فأرجو أن لا يكون به بأس، وبه قال ابن القاسم من أصحابه".
وقال ابن قدامة (ت620هـ) : " إن قال لصائغ : صُغْ لي خاتماً وزنه درهم، وأعطيك مثل وزنه ، وأجرتَك درهماً ، فليس ذلك ببيع درهم بدرهمين . وقال أصحابنا : للصائغ أخذ الدرهمين ، أحدهما في مقابلة الخاتم ، والثاني أجرة له " .
وقال الشيخ عبدالله بن منيع ، عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، والقاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة : " بيع الذهب بالقيمة إذا كان مشغولاً ، أي فيه صنعة وصياغة . لا يخفى أن الذهب قد يباع بذهب ، وقد يباع بنقد آخر ، من فضة ، أو ورق نقدي ، أو فلوس ، فإذا كان الذهب المبيع مشغولاً ، كأن يكون حلياً ، فإن بيع بذهب فلا بأس أن يكون الثمن أكثر وزناً من وزن الذهب الحلي ، وتكون الزيادة في الوزن في مقابلة الصياغة والعمل" .
6 ـ نص ابن تيمية
قال ابن تيمية (ت728هـ) : " يجوز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه ، من غير اشتراط التماثل ، ويجعل الزائد في مقابل الصنعة ، سواء كان البيع حالاً أو مؤجلاً ، ما لم يُقصد كونها ثمناً " .
7 ـ نص ابن القيم
قال ابن القيم (ت751هـ) : " أما إن كانت الصياغة مباحة ، كخاتم الفضة ، وحلية النِّساء ، وما أبيح من حلية السلاح وغيرها ، فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها ، فإنه سفه وإضاعة للصنعة ، والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك . فالشريعة لا تأتي به ، ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه، لحاجة الناس إليه، فلم يبق إلا أن يقال : لا يجوز بيعها بجنسها ألبتة ، بل يبيعها بجنس آخر ، وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تنفيه الشريعة ، فإن أكثر الناس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك ، والبائع لا يسمح ببيعه ببُر وشعير وثياب ، وتكليف الاستصناع لكل من احتاج إليه إما متعذر أو متعسر ، والحيل باطلة في الشرع . وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر ، لشهوة الرطب ، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ ، الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه ، فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع. فلو لم يجز بيعه بالدراهم فسدت مصالح الناس ، والنصوص الواردة عن النبي r ليس فيها ما هو صريح في المنع ( ... ) .
يوضحه أن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع ، لا من جنس الأثمان (...) ، فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان ، كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع، وإن كانت من غير جنسها ، فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان ، وأعدت للتجارة، فلا محذور في بيعها بجنسها ، ولا يدخلها : " إما أن تقضي وإما أن تربي " إلا كما يدخل في سائر السلع ، إذا بيعت بالثمن المؤجل ، ولا ريب أن هذا قد يقع فيها . لكن لو سُدَّ على الناس ذلك لَسُدَّ عليهم باب الدَّين ، وتضرروا بذلك غاية الضرر (...) .
يوضحه أنه لا يُعرف عن أحد من الصحابة أنه نهى أن يباع الحلي إلا بغير جنسه أو بوزنه، والمنقول عنهم إنما هو في الصرف (...) .
وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة، بأكثر من وزنها، لأنَّ الحاجة تدعو إلى ذلك، وتحريم التفاضل إنما كان سداً للذريعة . فهذا محض القياس ومقتضى أصول الشرع، ولا تتم مصلحة الناس إلا به أو بالحيل ، والحيل باطلة في الشرع ، وغاية ما في ذلك جعل الزيادة في مقابلة الصياغة المباحة المتقومة بالأثمان في الغُصوب (جمع غَصْب) وغيرها (...).
وأين مفسدة بيع الحلية بجنسها ومقابلة الصياغة بحظها من الثمن إلى مفسدة الحيل الربوية التي هي أساس كل مفسدة ، وأصل كل بلية ؟