
مشاركة: قرأت لكم من مقالات أ.د. خالد عبد القادر عودة النظام الإقتصادى الإسلامى
النظام الإقتصادى الإسلامى
الحلقة الثانية
البديل المطروح نحو الإصلاح الإقتصادى العالمى
التوازن الإجتماعى بين الأفراد
بقلم: أ.د. خالد عبد القادر عودة
سوهاج : 6 / 2 / 2009
سبق الإشارة إلى أن حاجات الإنسان ليس لها حدود ، وأن وسائل إشباع هذه الحاجات نادرة ، ولا يمكن لكل فرد أن يحصل على كل ما يرغب فيه . فالموارد الطبيعية قليلة ، وغير متوفرة بالشكل الذى يجعلها قابلة لإشباع حاجة الإنسان مباشرة. ولإستغلال هذه الموارد وتسخير الطاقة الكامنة فى الطبيعة فإن ذلك يلزم تهيئتها أو معالجتها أو إستخراجها أو تحويلها أو تحويرها حتى تتحول إلى معدات وآلات وغذاء وكساء من خلال العملية الإنتاجية . إلا أن ذلك يتطلب بدوره جهدا ووقتا وخبرة ومالا . والخبرة فى حاجة إلى تدريب وتعليم لفترة طويلة ، والتعليم فى حاجة إلى قدرة ذهنية للتحصيل ، والجهد فى حاجة إلى طاقة بدنية عالية ، والعمل فى حاجة إلى تنظيم دقيق ، والإنتاج فى حاجة إلى تخطيط جيد. ونظرا لأن الأفراد يتفاوتون فى قدراتهم الذهنية والبدنية وتختلف ميولهم فى النزوع إلى الحرف والمهن التى تتفق وإستعدادهم، ومن ثم تتفاوت دخولهم ـ لذا فإن النتيجة الحتمية هى ظهور طبقة من الأفراد قادرة على إشباع ما تصبوا إليه من الضروريات والحاجيات والتحسينات، بينما تظل طبقة أخرى غير قادرة على إشباع حاجاتها الضرورية اللازمة للمعيشة . وهى نتيجة متوقعة لندرة وسائل الإشباع وتعدد الحاجات من ناحية ، وتفاوت قدرات الأفراد ودخولهم من ناحية أخرى . بالاضافة إلى ذلك فإن هناك مشكلة العاجزين عن العمل الذين لا يقدرون على كسب معيشتهم بأنفسهم من المرضى والشيوخ والأطفال والنساء . وإذا كان العمل هو سبب الرزق ، والرزق هو أساس الملكية فإن الذين لا يقدرون على العمل لن يقدروا على كسب أرزاقهم . ومن ثم سوف تزداد مشقة الحياة بالنسبة لهم وتزداد الهوة اتساعا بينهم وبين غيرهم ممن يقدرون على إستثمار قدراتهم وأموالهم .
ونظرا لما قد يؤدى إليه التفاوت الشديد فى مستوى معيشة الأفراد من نشر الفتن ، واضطراب الأمن ، وتفشى الفساد فإن الشريعة الإسلامية قد عملت على علاج الخلل الناشئ من ندرة الموارد وتعدد الحاجات من جهة ، وتفاوت قدرات الأفراد ودخولهم من جهة أخرى بما يحقق تضييق الفوارق التى تفصل فى المعيشة بين الأفراد فى المجتمع الواحد ، ومن ثم تحقيق نوع من التوازن المعيشى داخل المجتمع . وقد سلكت الشريعة الإسلامية من أجل تحقيق هذا الاتزان مسلكين : أحدهما يعمل على كبح جماح ذوى القدرات ويحد من تطلعاتهم فى الإستحواذ والإقتناء والإستهلاك حتى يمكن توفير جزء من الثروة المنتجة (رأس المال) الذى يضمن استمرار عملية التنمية والإنتاج فى المجتمع ، فحرمت الإسراف والإكتناز والإحتكار، وحرمت حبس المال وتعطيل رؤوس الأموال المنتجة وشجعت على الإدخار بقصد إعادة تثمير المال ( انظر ما سبق).
أما المسلك الثانى فيعمل على حل مشكلة العاجزين عن العمل والذين لا يقدرون على كسب معيشتهم بأنفسهم من الفقراء والمساكين والغارمين ، وهؤلاء جميعا كفلت لهم الشريعة الإسلامية الحد الادنى من المعيشة وهو حد كفاية الحاجة الضرورية التى لا غنى عنها لحفظ النفس والبدن والعقل والنسل ، كالطعام والمأوى والتعليم والعلاج والانتقال والدفاع إلى آخر ذلك من الضروريات ـ فجعلت لهؤلاء فى أموال الأغنياء والقادرين حقا معلوما يؤدونه إلى الدولة التى تتولى بدورها ضمان هذه الكفالة . وهذا الحق المعلوم هو الزكاة، فإن لم تف بالغرض المطلوب كان للدولة الحق فى أن تتدخل فى أموال الأغنياء بما يكفل تحقيق التوازن الإجتماعى، إلا أن تدخل الدولة مقيد فى الشريعة الإسلامية بالحقائق الفطرية التالية:
1- أن أفراد البشر متفاوتون فى مختلف الخصائص النفسية والفكرية والجسدية ، وبالتالى فهم متفاوتون فى القدرة على التحصيل أو العمل أو الإنتاج أو الابتكار . ومن ثم فإنه لا يمكن تحقيق توازن بين الناس فى كمية الجهد المبذول ، أو القدرة على العطاء ، أو الطاقة على التفكير أو التحصيل . وكلما إرتقى المجتمع، كلما برز التباعد فى القدرات والتفاوت فى الأعمال التى يؤديها الأفراد نتيجة اتجاههم المتزايد إلى التخصص . وفى ذلك يقول الله سبحانه وتعالى :
" وهو الذى جعلكم خلائف الأرضورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم " (الأنعام : 165)
" نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا ، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون" (الزخرف : 32)
2- أن العمل هو سبب الرزق ، ومن ثم لا يستوى الذين يعملون والذين لا يعملون. وإذا كان من غير الممكن تحقيق التوازن بين الناس فى الجهد المبذول فإنه بالتالى لا يمكن تحقيق التوازن بينهم فى الناتج من المجهود.
" ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون " (الأنعام : 133)
" فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله " (الأنفال : 69)
" إنا لا نضيع اجر من أحسن عملا " (الكهف : 70)
" ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون " (الأحقاف : 19)
" كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون " (الطور : 19)
3 - أن التوازن بين الأفراد لا يعنى تجريد المجتهدين من أموالهم وتوزيعها على القاعدين . فالشريعة الإسلامية لا تجيز الغصب ، ولا تحل أخذ المال من صاحبه بغير طيب نفس صاحبه ، كما لا تحل أخذه بالباطل ، طالما أن المنتفع بالمال ملكه بالحق دون تعدى أو إغتصاب أو سرقة أو رشوة أو إختلاس أو تدليس أو ربا إلى آخر ما نهى عنه الشرع .
وهكذا فإن مفهوم التوازن فى المجتمع الإسلامى لا يقصد به تجريد الأغنياء من أموالهم وتوزيعها على الفقراء ليتساوى المجتمع فى الدخل . وإنما المقصود هو تحقيق حد أدنى معقول لمستوى المعيشة بين كافة الأفراد وهو حد كفاية الحاجة الضرورية التى لا غنى للمرء عنها واللازمة لاستقامة حياة الناس والتى إذا ما فقدت اختل نظام حياة الأفراد ، وعمت الفوضى ، وانتشر الفساد . فلا يكون هناك فقير معدوم أو محروم لا يجد قوت يومه أو يقاسى البرد والعرى . وبهذا تقترب الفوأصل ، وتضيق الهوة بين الأفراد وتصبح معيشة الغالبية بين الناس فى المستوى الذى يصون لكل منهم عقله وبدنه وعرضه ونسله.
والمشكلة التى تعانى منها المجتمعات الإسلامية فى هذا الزمان هى التفاوت الشديد فى مستوى معيشة الأفراد . فبينما أن هناك أفراد قد تخطوا حدود إشباع الضروريات والتيسيرات ويتمتعون بالتحسينات والكماليات ، فإن هناك أفرادا لا يستطيعون سد متطلبات حياتهم الضرورية من قوت أو كساء أو مأوى . لقد باتت الحياة بالنسبة لهؤلاء الذين لا يجدون ما يشبع حاجاتهم الأصلية ، حياة شاقة صعبة ، يسودها الحقد والحسد ، ويظلها مناخ من الجهل والمرض . فقل إقبالهم على العمل ، وانعدمت قدرتهم على اكتساب الرزق ، فزادهم ذلك فقرا على فقر . وفى ظل هذا المناخ انتشرت الفتن وعم الفساد واضطرب الأمن.
ولقد حرص النظام الإسلامى على حماية المجتمع من هذه الفتن والإضطرابات التى قد تنشأ نتيجة التفاوت الشديد فى مستوى المعيشة ، ففرض الزكاة وأوجب على سلطة الجماعة أن تتولى تحصيلها وإنفاقها فيما يوفر لذوى الحاجات حاجاتهم الضرورية . وأباح للجماعة أن تضع الضوابط التى تحد من الإستهلاك التيسيرى والتحسينى، وأن تفرض القيود التى تحول دون إكتناز الثروات أو حبس رؤوس الأموال عن وظيفتها الرئيسية وهى الإنتاج ، وأن ترسم الحدود والأبعاد التى تؤدى إلى إنشاء مجتمع قوى منتج ، يسعى أفراده جميعا نحو العمل بجدية وإتقان من أجل زيادة الإنتاج وكفاية المتطلبات الفردية بما لا يقل عن حد إشباع الضروريات ، وبما لا يبلغ حد السرف والتبذير ، كما أجاز للجماعة فرض ضرائب الإنفاق فى سبيل الله وما تراه كافيا لرفع شأن الإسلام ومستوى المسلمين علميا وإقتصاديا وعسكريا ، حتى لا يكون هناك فقير معدوم أو ضعيف محروم ، ويتفرغ الجميع لبناء المجتمع المسلم القوى