
مشاركة: الضرائب وحكم توظيفها
المبحث الثالث
مسئولية فرض الضريبة
وفيه مطالب
المطلب الأول
من له حق فرض الضريبة
لا شك أن المخول لإدارة شئون الأمة والمسئول عن تحقيق مصالحها هو الذي له حق أمرها ونهيها، وتكليف من شاء بما شاء وفق شروط وضوابط أهمها: تحقيق مصلحة عامة أو دفع مضرة أو مفسدة إذ أن مقاصد الشريعة تتمثل في جلب المصالح ودفع المفاسد، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشير إلى ذلك. فقد حدث أن تعرضت المدينة المنورة لأمر طارئ حيث قدمت إليها وفود من أهل البادية وقت عيد الأضحى وقد بدا عليها الفقر والحاجة، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن نهى أهل المدينة عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام – في حين أنها مباحة – وذلك من أجل التصدق على الجماعة التي دخلت المدينة تشكو الحاجة، ولما غادرت تلك الجماعات المدينة أباح رسول الله ادخارها، روى سلمة بن الأكوع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء. فلما كان في العام المقبل، قالوا: نفعل كما فعلنا في العام الماضي؟ قال: كلوا وأطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان بالناس جهد، فأردت أن تعينوا فيه(130). وفي رواية فقال: "إنما نهيتكم من أجل الدافة(131) فكلوا وادخروا وتصدقوا".
وبهذا يتبين أن الحاكم هو الذي له حق فرض الضريبة في أموال الناس ولكن ضمن حدود ووفق شروط نتبينها في المطلب الثاني.
المطلب الثاني
شروط الحاكم الذي له حق فرض الضريبة
وضع العلماء شروطا عدة لمن يتولى أمر المسلمين وعليهم طاعته. وقد ذكر الإمام الماوردي سبعة شروط معتبرة في الخليفة(132). تضمن سلامته وكفايته وقدرته على تولي المنصب. نثبت منها ما يعنينا في البحث وأهما:
1- العدالة بشروطها الجامعة. فيكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفًا عن المحارم، بعيدًا عن الريبة، مأمونًا في الرضى والغضب، مستعملاً لمروءة مثله في دينه ودنياه. يقول ابن خلدون(133): وأما العدالة فلأنها منصب ديني ينظر في سائر المناصب التي هي شرط فيها فكان أولى باشتراطها فيها، ولا خلاف في انتفاء العدالة فيه بفسق الجوارح من ارتكاب المحظورات وأمثالها.
فالمقصود بالعدالة ما يعبر عنه في الوقت الحاضر بحسن السير والسلوك والامتناع عما يخل بالشرف أو الأمانة(134).
2- العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام. فهو المنفذ لأحكام الله فيجب أن يكون عالمًا أو قادرًا على العلم بها.
يقول ابن خلدون: فلا يكفي من العلم إلا أن يكون مجتهدًا لأن التقليد نقص، والإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والاحوال(135).
ولكن هذه الشروط غير متحققة في هذا الزمان، فإذا تعذر هذا الشرط يمكن أن يتحقق عن طريق اعتماد الحاكم على المجتهدين من الأمة وعلمائها، فلا يقطع برأي دونهم، ولا يبرم أمرًا بغير رأيهم، وبهذا تتحقق الغاية من الشرط(136).
3- الكفاءة. أن يكون متصديًا لمصالح الأمة وضبتها، ذا نجدة وشجاعة ذا رأي سديد، وأن يكون جريئًا في إقامة الحدود واقتحام الحروب، وإقامة الأحكام وتدبير المصالح(137).
4- أن يكون من أهل الولاية الكاملة وهذا الوصف يتضمن عدة شروط(138) وهي:
أ- أن يكون مسلمًا: حيث أن هذا الشرط لازم لصحة الولاية. قال تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)(139).
ب- الحرية: لأن نقص فاقدها عن ولاية نفسه تمنع من انعقاد ولايته على غيره، فالعبد تصرفاته محكومة بموافقة سيده.
ج- الذكورة: حيث لا يجوز أن تتولى المرأة العامة باتفاق لقوله عليه السلام: "ما أفلح قوم يلي أمرهم امرأة"(140).
د- البلوغ: لأن الصبي غير مكلف ولا ولاية له على نفسه، فلا يلي أمر غيره، وفي حديث منه رفع القلم عن ثلاث الصبي حتى يبلغ(141).
هـ-العقل: لأن المجنون غير مكلف شرعًا ولا يحسن التصرف ولا ولاية له على نفسه.
5- أن يقيم العدل بين الناس في الحكم(142) حتى ينتفي الظلم ويطمئن كل فرد إلى حقوقه ويقوم بواجباته. فقال تعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكوا بالعدل)(143).
المطلب الثالث
الشروط المعتبرة لشرعية الضريبة
1- أن تكون حاجة الدولة للمال حاجة حقيقية وضرورية لا وهمية أو ظنية، وذلك بأن تكون الدولة بحاجة حقيقية للمال، بحيث لا تكون هناك موارد أخرى تستطيع الدولة بها أن تحقق أهدافها، وتؤدي الخدمات للأمة دون فرض الضرائب على الناس، وإن كان عندها من الأموال أو الموارد ما يغطي نفقاتها، أو بإمكانها تدبير شؤون أمرها بطريق غير فرض الضرائب كتخفيض النفقات وترشيد المصروفات للمؤسسات مثلاً فلا يجوز فرضها حينئذ.
وقد تشدد علماء المسلمين وأصحاب الفتوى في هذا الشرط، حيث اشترطوا أن يخلو بيت المال من المال خلوًا تامًا، أو أن الذي فيه لا يكفي لمواجهة ما طرأ على الدولة ولمصلحتها كلها. وما صنعوا ذلك إلا خشية إسراف الحكام في طلب الأموال لحاجة أو لغير حاجة، وإرهاق الرعية بما لا يحتمل من الضرائب المالية.
ويَرْوي لنا التاريخ أمثلة على ذلك من فتاوى أفتى فيها أصحابها لمصلحة الرعية، وضد ترف الحكام، ومن ذلك ما قدمنا ن موقف العالم الجليل العز بن عبد السلام عندما استفتاه الملك المظفر قطز لجمع المال من الناس لحرب التتار، ورأينا كيف كانت فتواه متشددة مراعاة لمصلحة الأمة(144).
وتكرر هذا الموقف مع الإمام النووي رحمه الله عندما طلب منه الظاهر بيبرس أن يوقع مع العلماء على فتوى بجواز فرض الضرائب على الناس لتجهيز الجيش والإنفاق على المقاتلين، وكان علماء الشام قد وقعوا له على ذلك، فامتنع الإمام النووي رحمه الله عن التوقيع، وسأله الملك الظاهر عن سبب امتناعه، فقال الشيخ النووي: أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير زبندقدارس وليس لك مال، ثم منّ الله عليك، وجعلك ملكًا، وسمعت أن عند ألف مملوك، لكل مملوك حياصته من الذهب، وعند مائتان جارية، لكل جارية حق من الحلي، فإن أنفقت ذلك كله، وبقيت مماليكك بالبتون(145) والصوف بدلاً من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي، أفتيتك بأخذ المال من الرعية. فغضب الظاهر من كلامه، وقال له: أخرج من بلدي دمشق، فقال: السمع والطاعة، وخرج إلى نوى.
فقال الفقهاء للسلطان: إن هذا من كبار علمائنا وصلحائنا، ومن يقتدي بهم، فأعده إلى دمشق فأذن الظاهر برجوعه، ولكن الشيخ رفض، وقال: لا أدخلها والظاهر بها. ومات الظاهر بعد شهر(146).
ومما كتبه النووي إلى الظاهر بيبرس ينصحه، رسالة أوضح له فيها حكم اشرع، قال: ولا يحل أن يؤخذ من الرعية شيء ما دام في بيت المال شيء من نقد، أو متاع، أو أرض، أو ضياع، أو غير ذلك، وهؤلاء علماء المسلمين في بلاد السلطان – أعز الله أنصاره – متفقون على هذا، وبيت المال بحمد الله معمور، زاده الله عمارة وسعة وخيرًا وبركة(147).
وخلاصة القول في هذا الشرط: أن لا يكون في بيت المال ما يكفي لسد الحاجات الطارئة، ولا ينتظر أن يكون شيء من ذلك، وأن يرد الحاكم وحاشيته، وأعوانه ما عندهم من أموال فائضة إلى بيت مال المسلمين، فإن لم تكف فعندها يفتى بجواز فرض الضريبة.
2- يشترط أن يكون فرض الضريبة استثنائيًا دعت إليه المصلحة العامة للدولة وتدبيرًا مؤقتًا حسبما تدعو إليه الضرورة وأن يوظف الإمام على الناس بقدر الحاجة على أن ينتهي هذا الأمر بزوال العلة الداعية وانتهاء الحاجة. إذ أن تصرف الحاكم في فرض الضريبة منوط بالمصلحة فالقاعدة الفقهية تقول: "التصرف على الشرعية منوط بالمصلحة" ولذا فإن نفاذ تصرفات الوالي على الغير تتوقف على وجود الثمرة والمنفعة في ضمن التصرف سواء كانت دينية أو دنيوية، فإن تضمن التصرف منفعة وجب على الغير تنفيذه وإلا فلا، ويترك ذلك التصرف(148).
3- أن توزع أعباء الضريبة على الناس بالعدل، بحيث لا يرهق فريق من الرعية لحساب فريق آخر، ولا يحابي فريق على حساب فريق آخر بغير مسوغ يقتضي ذلك. ولا نعني بالعدل أن يؤخذ من الجميع مقدارًا واحدًا محددًا، فإن المساواة بين المتفاوتين ظلم، فلا يؤخذ بنسبة واحدة من الجميع، بل يجوز لاعتبارات اجتماعية أو اقتصادية أن تختلف النسبة، فيؤخذ من فرد أكثر من غيره نظرًا لحاله.
ولذلك تقتضي قواعد العدالة الضريبية التنويع في أسعار الضرائب، وذلك بتبني نظام النسبة في سعر الضريبة بأن يكون السعر بنسبة ثابتة من الدخل (5%) مثلاً أو أكثر حسب ما تتطلبه المصلحة العامة، ويراه ولي الأمر، بعد دراسة جادة وبصرف النظر عن مقدار الدخل، وبذلك يخضع الدخل الأعلى لسعر أعلى.
ويستفاد هذا المعنى من فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما وضع الضريبة على أهل الذمة على الغني 48 درهمًا تدفع أقساطًا شهرية وعلى متوسطي الحال 24 درهمًا وعلى الفقراء 12 درهمًا تدفع أقساطًا درهم واحد شهريًا(149).
وكذلك عندما انقص سعر الضريبة من عشرة في المائة 10% إلى 5% لاعتبار اقتصادي هام حين أخذ من النبط(150) من الزيت والحنطة نصف العشر لكي يكثروا الحمل منها إلى المدينة المنورة، لحاجتها إليه في حين أنه كان يأخذ من القطنية العشر(151).
ومما يؤكد ذلك ما كتبه الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى أحد عماله يوصيه فيه بالعدل والرحمة في أخذ الخراج من أهل الكوفة قوله "سلام عليك. أما بعد فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور من أحكام، وسنن خبيثة سنتها عليهم عمال السوء، وأن أقوم الدين العدل والإحسان فلا يكونن من شيء أهم إليك من نفسك أن توطئها لطاعة الله فإنه لا قليل مع الإثم وأمرتك أن تطرز عليم أرضهم وأن لا تحمل خرابًا على عامر، ولا عامر على خراب ولا تأخذ من الخراب إلا ما يطيق ولا من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض"(152). ويؤكد أبو يوسف على ضرورة الأخذ بالعدل لأن في العدل زيادة الخراج وعمارة البلاد فيقول "إن العدل وإنصاف المظلوم وتجنب الظلم مع ما في ذلك من الأجر يزيد به الخراج وتكثر به عمارة البلاد. والبركة مع العدل تكون وهي تفقد مع الجور(153).
4- أن يكون التصرف في جباية المال وإنفاقه على الوجه المشروع(154) أي يكون فرض الضريبة لإنفاق المال في مصالح الأمة، لا على المعاصي والشهوات والأهواء من قبل السلطة الحاكمة، ولا لتنفق على ترفيه أسرهم وترفههم، ولا لترضية السائرين في ركابهم.