
مشاركة: الضرائب وحكم توظيفها
المبحث الثاني
حكم فرض الضريبة في الفقه الإسلامي
ذكرنا أن الضريبة ما تفرضه الدولة في أموال لمكلفين لظروف خاصة طارئة تقتطعه الدولة قسرًا بصفة نهائية دون نفع معين يعود على الممول لمواجهة تلك الظروف، فما حكم فرض مثل هذه الضرائب؟
انقسم الفقهاء حياله إلى فريقين، فريق قال بالجواز ولكن ليس على الإطلاق، وفريق منع من فرض الضريبة مطلقًا ولكل أدلته ووجهة نظره وإليك البيان.
المطلب الأول
المجيزون أصحاب المذاهب الفقهية
أولاً: آراء أصحاب المذاهب الفقهية:
أ- الحنفية: يرى الحنفية جواز فرض الضرائب على الناس، إذا كانت هناك حاجة تدعو إليها حيث يسمونها النوائب(54)، فقد جاء في حاشية رد المحتار ما نصه زمن النوائب ما يكون بالحق كري النهر المشترك للعامة، وأجرة الحارس للمحلة والمسمى الخفير وما وظف للإمام ليجهز به الجيوش، وفداء الأسرى، بأن احتاج إلى ذلك ولم يكن في بيت المال شيء فوظف على الناس ذلك، ويتابع فيقول: وينبغي تقييد ذلك بما إذا لم يوجد في بيت المال ما يكفي لذلك(55).
ب- المالكية قالوا يحق للإمام أن يوظف الضرائب لظروف خاصة ومن أقوال فقهائهم:
1- يقول الشاطبي إذا قررنا إمامًا مطاعًا مفتقدًا على تكثير الجنود لسد حاجة الثغور، وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم، فللإمام إذا كان عدلاًَ أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال إلى أن يظهر مال في بيت المال، ثم إليه النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار وغير ذلك.
وإنما لم ينقل عن الأولين مثل هذا الإتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام، بطلت شوكة الإمام، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار(56).
2- يقول الإمام القرطبي: واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة، فإنه يجب صرف المال إليها(57)، وقال الإمام مالك: يجب على الناس فداء أسراهم وأن استغرق ذلك أموالهم(58).
ج- الشافعية يقرون شرعية الضرائب على الأغنياء إذا احتاج الإمام من أجل مصلحة عامة وفي ذلك:
1- يقول الإمام الغزالي: إذا خلت الأيدي من الأموال، ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولو تفرق العسكر، واشتغلوا بالكسب لخيف دخول العدو ديار المسلمين، أو خيف ثوران الفتنة من أهل العرامة في بلا الإسلام، جاز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند(59).
2- ويقول الرملي: ومن فروض الكفاية دفع ضرر المسلمين، ككسوة عارٍ، وإطعام جائع، إذا لم يندفع بزكاة أو بيت مال. على القادرين وهم من عنده زيادة على كفاية سنة لهم ولمموليهم(60).
3- وفتوى الشيخ عز الدين بن عبد السلام للملك المظفر قطز في فرض الضرائب على الناس لأجل الإستعداد والتجهيز لقتال التتار:
إنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على العالم قتالهم وجاز لكم أن تأخذو من الرعية ما تستعينون به على جهادكم بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء وأن تبيعوا ما لكم من الحوائص(61) المذهبة، والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوبه وسلاحه، ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة مع بقايا في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا(62) .
وما حدث في الأندلس عندما أراد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين أن يفرض الضرائب ويجهز الجيش للدفاع عن البلاد الإسلامية فأفتاه العلماء بجواز فرض الضرائب إذا حلف بحضرة أهل العلم أن ليس في بيت المال شيء من المال(63).
د- أما فقهاء الحنابلة فقد أجازوا فرضيتها وسموها الكلف السلطانية واعتبروها من الجهاد بالمال، وفي ذلك يقول ابن تيمية في الفتاوى إذ يعتبر أن الكلف السلطانية أو ما يأخذه السلطان من أموال الأغنياء يعد من قبيل الجهاد بالمال فيقول: وإذا طلب منهم شيء يؤخذ على أموالهم ورؤوسهم، مثل الكلف السلطانية التي توضع عليهم كلهم، إما على عدد رؤوسهم، أو على عدد دوابهم، أو على أكثر من الخراج الواجب بالشرع، أو تؤخذ منهم الكلف التي أحدثت في غير الأجناس الشرعية، كما يوضع على المتابعين للطعام والثياب والدواب والفاكهة، وغير ذلك، يؤخذ منهم إذا باعوا، ويؤخذ تارة من البائعين، وتارة من المشترين(64).
هـ- يرى ابن حزم الظاهري كذلك جواز فرض الضرائب العامة إن كان هناك مصلحة وضرورة فيقول: فرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات، ولا فيء سائر المسلمين بهم. فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، ومن اللبس للشتاء والصيف لمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر، والصيف، والشتاء، وعيون المارة(65).
المستند الشرعي لرأي هذا الفريق
استدل الفقهاء على موقفهم القائل بجواز بجواز فرض الضرائب في أموال الناس غير الزكاة بأدلة من الكتاب والسنة، والآثار الواردة عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم ومن المعقول وإليك البيان:
أ- استدلالهم بالقرآن الكريم:
استدل هذا الفريق بقول الله عز وجل: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام والصلاة وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا، وأولئك هم المتقون)(66).
وجه الاستدلال في الآية الكريم أن الله تعالى نص على إيتاء الزكاة كما نص على إيتاء المال لذوي القربى واليتامى والمساكين، مما يدل على أن المراد بإيتاء المال في الآية غير الزكاة، وأن في المال حقًا سوى الزكاة.
يقول الفخر الرازي: واختلفوا في المراد من هذا الإيتاء فقال قوم: إنها الزكاة وهذا ضعيف، وذلك لأنه تعالى عطف الزكاة عليه بقوله: (وأقام الصلاة وآتي الزكاة) ومن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يتغايرا، فثبت أن المراد به غير الزكاة.. وإن كان غير الزكاة إلا أنه من الواجبات(67).
وجاء في الجامع لأحكام القرآن في تفسير قوله تعالى: (وآتي المال على حبه) استدل به من قال إن في المال حقًا سوى الزكاة، وبها كمال البر. وقيل المراد الزكاة المفروضة، والأول أصح. إذ أن الله تعالى ذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله تعالى: (وآتي المال على حبه) ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك كان يكون تكرارًا. واتفق الفقهاء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها. كما ذهب إلى ذلك القاسمي في تفسيره فذكر أن المراد من قوله تعالى: (وآتي المال على حبه..) التنفل بالصدقات والبر والصلة، وقدم على الفريضة مبالغة في الحث عليه كما ذكر المراغي في تفسير هذه الآية بأن قال: وفي جعل هذا نوعًا من البذل وجبًا على المسلمين والبذل لهذه الأصناف لا يتقيد بزمن معين ولا بامتلاك نصاب محدد، ولا بتقدير المال المبذول بمقدار معين كالزكاة الواجبة بل هو موكول إلى أريحية المعطي وحال المعطي(68).
ويقول ابن العربي بعد أن شرح المراد بإيتاء المال: والصحيح عندي أنهما فائدتان: الإيتاء الأول في وجوهه، فتراه يكون ندبًا وتارة يكون فرضًا، والإيتاء الثاني هو الزكاة المفروضة(69). ومما سبق من أقوال الأئمة المفسير يتبين لنا أن في المال حق سوى الزكاة. وبهذا يجوز لولي الأمر إذا لم تكفي الزكاة سد حاجة الفقراء أن يفرض في أموال الأغنياء ما تقتضيه حاجة لفقراء أو المصلحة العامة.
ب- استدلالهم من السنة النبوية: استدلوا بما يلي:
1- عن فاطمة بنت قيس قالت: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الزكاة فقال: "إن في المال لحقًا سوى الزكاة"(70) ثم تلا هذه الآية من سورة البقرة (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب)
2- عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان له فضل زاد فيعد به على من لا زاد له، قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل"(71).
3- عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بالقدر الذي يسع فقرائهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما يضع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حسابًا شديدًا ويعذبهم عذابًا أليمًا"(72).
4- عن عبد الرحمن بن أبي بكر – رضي الله عنه – أنه أصحاب الصفة كانوا أناس فقراء وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس". وإن أبا بكر جاء بثلاثة وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة(73).
وجه الدلالة من الأحاديث:
إذا أمعنا في الأحاديث السالفة وجدنا أنها في مجملها تؤكد على التكافل بين أبناء المجتمع الإسلامي. فالحديث الأول عن فاطمة بنت قيس يؤكد أن في مال المسلم الغني حقًا للفقراء المسلمين غير الزكاة إذا احتاجوا إلى ذلك. وهذا هو المعنى الحقيقي للتكافل الاجتماعي.
وفي الحديث الثاني عن ابي سعيد يطلب الرسول صلى الله عليه وسلم ممن كان عنده فضل مال زائد عن حاجته أن تصدق به على من لا مال له.
وكذلك يبين الحديث الثالث عن علي أن في مال الأغنياء حقًا للفقراء عند حاجتهم إليه على سبيل الوجوب لقوله عليه السلام "إن الله فرض على الأغنياء المسلمين في أموالهم بالقدر الذي يسع فقراءهم". فيتضح من ذلك جواز أن يفرض على الأغنياء ما يسد حاجة الفقراء عند عدم كفاية الزكاة.
وفي الحديث الرابع الذي يحمل طابع الأمر حيث يقول عليه السلام "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث..." حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم طبق ذلك على نفسه فذهب بعشرة، وذهب أبوبكر بثلاثة...
فالملاحظ أن الأحاديث جميعها تؤكد وجوب التكافل بين المسلمين، وقد دعت إلى حل مشكلات وحالات خاصة لمصالح فردية فكيف إذا كانت المصلحة عامة فهي أولى أن تقدم. ولهذا يجوز لولي الأمر أن يوظف في أموال القادرين ما يكفي لسد الحاجات الطارئة إذا احتاجت إلى مال غير متوفر في خزينة الدولة، كإعداد جيش للدفاع عن أرض المسلمين أو فكاك أسراهم.
جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري: يستفاد من هذا الحديث جواز التوظيف في المخمصة(74).
وذكر في شرح جامع الترمذي بخصوص حديث فاطمة بنت قيس أن في المال لحقًا سوى الزكاة. قوله كفكاك أسير وإطعام مضطر، وإنقاذ مُخْتَرَمٍ. فهذه حقوق واجبة كغيرها ولكن وجوبها عارض(75). وهذه فكرة حقيقة جواز فرض الضريبة إلى جانب الزكاة من قبل ولي الأمر عند عدم كفايتها(76).
ج- واستدلوا بالآثار الواردة عن الصحابة ومن ذلك:
1- ما ورد عن الفاروق عمر رضي الله عنه أنه قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقرائهم(77). وبهذا يرى عمر أنه يجوز لولي الأمر أن يفرض على الأغنياء من الصدقات غير الزكاة قدرًا تسد به حاج الفقراء، ويمحى به الفقر من المجتمع. كما ذهب إلى ذلك أبو هريرة وابن عباس وابن عمر وأبو ذر وعائشة وفاطمة بنت قيس رضي الله عنهم(78).
2- وصح عن الشعبي، ومجاهد، وعطاء، وطاووس من التابعين رضي الله عنهم أن في المال حقًا سوى الزكاة(79)، وهذه الأقوال لم تلق تعارضًا فتكون بمثابة إجماع سكوتي على جواز فرض ضريبة مع الزكاة عند عدم كفايتها لسد حاجات الفقراء.
د- وأما ما يستدل به من المعقول:
1- مبدأ التكافل الاجتماعي بين الفرد والمجتمع، والتكامل القائم بينهما وذلك انطلاقًا من قوله عليه الصلاة والسلام: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"(80)، إذ أن الفرد لا يمكنه أن يعيش بغير عون المجتمع له، فهو الذي يؤثر في سلوك الفرد، ويعاونه على التكيف مع الحياة في مختلف مراحلها، ويغذيه باللغة والثقافة والعادات والتقاليد، وقواعد الدين، والمعاملة، وفيه ومن خلاله تكون مكاسبه المادية، والاقتصادية. كذلك فالفرد لا يمكن أن يكسب المال بجهده وحده، بل تشاركه في كسبه جهود وأفكار، وأيد كثيرة، فالفلاح مثلاً كيف يجمع ماله ويحقق مكسبه لولا جهد المجتمع الذي شق له القنوات، ونظم له الري والصرف، وصنع له أدوات الحراثة والزراعة، وهيأ له الأمن والاستقرار؟ وهكذا الصانع، والموظف(81).
ومن أجل هذا فإن المال الذي يحوزه الفرد، وينسب إليه، هو بمثابة مال الجماعة أيضًا، ينسب إليها ويجب عليها، أ، تحافظ عليه. قال تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا)(82).
وقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا)(83)، ويتبين من الآيات الكريمة أن الله تعالى أضاف الأموال فيها إلى جميع المخاطبين، فلم يقل، لا يأكل بعضكم مال بعض، بل قال تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) لينبه على أن المجتمع المسلم وحدة متضامنة في كل أمورها.
يقول الشيخ رشيد رضا في تفسير الآية "ذلك بأن الإسلام يجعل مال كل فرد من أفراد المتبعين له مالاً لأمته كلها، مع احترام الحيازة والملكية، وحفظ حقوقها. فهو يوجب على كل ذي مال كثير حقوقًا معينة لصالح العامة، كما يوجب عليه وعلى صاحب المال القليل حقوقًا أخرى لذوي الاضطرار من الأمة، ويحث فوق ذلك على البر والإحسان(84).
إن هذه القاعدة توجد أسس المصلحة المشتركة بين الدولة والأفراد، إذ لا بقاء لأحدهما دون الآخر، وفي نفس الوقت تقوم أسس هذه المصلحة المشتركة على العلاقة التبادلية في الحقوق والواجبات، فالرعية تستمد وجودها من وجود الدولة، فتتمتع باستغلال مرافقها من أمن ودفاع، وتعلم، ونقل، وصحة، وغير ذلك من المصالح، كما تستمد من حماية الدولة وانتمائها لها القدرة على تلبية حاجاتها الخاصة، وتنمية أموالها. ولذا فالكل مكلف بحماية الدولة، ودعم أسس وجودها، ووجوب مشاركتها في تحمل الأعباء العامة، وخاصة في الظروف غير العادية، والالتزام بدفع ما يترتب من ضرائب عارضة، تفرضها الدولة مراعية الظرف الاستثنائي الطارئ في فرضيتها بحيث يتناسب مع حجم هذا الظرف وبقائه.
2- مبدأ الإخاء الذي نادى به الإسلام "إنما المؤمنون أخوة"(85)، فإن لهذه الأخوة ثمرات، ومتطلبات، تؤتي أكلها في مجال التضامن الأخوي العلمي، والتكافل الاجتماعي فهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، "والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره"(86)، فهذا الإخاء الروحي في الرعية يجب أن يكون دافعًا للوقوف بجانب الدولة عند حدوث الظرف الاستثنائي غير العادي، فالإخاء علاقة روحية يجب أن تعكس واجب التضامن مع الدولة في محنتها.
هذا هو المجتمع المسلم بنيان مرصوص يشد بعضه بعضًا، وأسرة واحدة يكفل كل أخ فيها أخاه.
نخلص من هذا كله إلى أن للجماعة حقًا أكيدًا في مال الفرد، حقًا لا يسلبه ملكيته المشروعة له، بل يجعل جزءًا معينًا لمصالح الجماعة العامة، كالزكاة وأكثر منه عند اقتضاء الحاجة واستدعاء المصلحة، ومن حق المجتمع ممثلاً في الدولة التي تشرف عليه، وترعى مصالحه أن يكون لها نصيب من مال ذي المال، تنفقه فيما يعود على المجتمع كله بالخير وخاصة عند الملمات والشدائد، والمستجدات التي لم يكن يحسب لها حساب، فلا بد عندها من أن يفرض الحاكم على الرعية ما يمكنه من التغلب على النوائب، وإلا انعكس ذلك سلبيًا على الأمة كلها، وإلا لما كان في دعوة التضامن من معنى.
وفي هذا يقول الفخر الرازي: وأما العقل فإنه لا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة، وجب على الناس أن يعطوه مقدار دفع الضرورة، وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم. ولو امتنعوا من الإعطاء جاز الأخذ منهم قهرًا فهذا يدل على أن الإيتاء واجب(87).
3- الزكاة لا تغني عن الضرائب لأن مصارفها محددة وغايتها اجتماعيه، ودينية، وسياسية، وأخلاقية، فهي ليست جمعًا للمال لإنفاقه على مرافق الدولة بل محصورة في الأصناف الثمانية المعروفة في الآية الكريمة الخاصة بالزكاة (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم)(88).
ولهذا فإن أموالها لا تخلط بأموال الموارد الأخرى، قال الفقهاء لا تصرف الزكاة إلى بناء الجسور وتمهيد الطرق وشق الأنهار، وبناء المساجد والمدارس والسقايات وسد البثوق(89)، وهذه المرافق العامة وغيرها الكثير ضروري للجماعة، والدولة هي المسئولة عن إصلاح هذه المرافق وإقامتها، فمن أين ينفق على مصالح الجماعة ومن أين تسد ثغور الوطن، إذا لم يجز للحاكم أن ينفق عليها من أموال الزكاة؟ يبقى الجواب أنه حالة عجز الدولة عن القيام بهذه المرافق لابد من فرض ضرائب على ذوي الأموال بقدر ما يحقق المصلحة الواجب تحقيقها وفقًا للقاعدة التي تقول "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"(90).
4- من قواعد الشريعة يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام بمعنى أن نفع الجماعة مقدم على نفع الفرد، وكذلك درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة(91)، وتفويت أدنى المصلحتين تحصيلاً لأعلاهما، كل ذلك لا يؤدي إلى إباحة فرض الضرائب فحسب، بل على العكس يحتم فرضها، وأخذها بالقوة، إذا وقعت الدولة في مأزق أو ظرف طارئ يستوجب مالاً كثيرًا لا تتحمل خزينة الدولة القيام به وإن لم يدفع هذا الطارئ، ربما تزول الدولة، أو ينخر الضعف كيانها، ناهيك عن الأخطار العسكرية من قبل أعدائها، فيطمعون بها، لا يعقل أن يمنع فرض الضرائب في حال النوازل بالأمة، وعدم قدرتها على مواجهة ذلك فتفوت مصالح الأمة من أجل المحافظة على الملكية الخاصة. فالقاعدة الشرعية كذلك تقول "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"(92).
5- تطور الإنفاق: مطلوب من الدولة أن تتفوق في شتى جوانب الحياة العلمية والصناعية، والاقتصادية والعسكرية، بما يتلاءم مع تطور حياة أعدائها وبما يحقق لأبنائها مواكبة التطور والعيش الكريم، ومن الطبيعي جدًا أن زيادة عدد السكان يحتاج إلى زيادة في الإنفاق، كل هذا يفتقر إلى مقادير كبيرة من المال، قد يُعجز الدولة إيجاده وتوفيره ولا يكون سبيل إلى ذلك إلا بفرض الضرائب، وعندها تكون هذه الضرائب نوعًا من الجهاد بالمال، والمسلم مأمور بذلك، ليحمي دولته، ويقوي أمته، ويحمي دينه وماله وعرضه(93).
6- إن ما يجمع من الضرائب لابد وأن ينفق في المصالح العامة، ومرافق الدولة كالدفاع والأمن، والتعليم والصحة، ونحوه، وهذا لا شك يستفيد منه جموع المسلمين من قريب أو بعيد. وإذا كان الفرد يستفيد من وجود الدولة، ويتمتع بالمرافق العامة في ظل إشرافها وتنظيمها، وحمايتها للأمن الداخلي والخارجي، فلا بد أن يسهم بالمال اللازم عند الحاجة، لتتمكن الدولة من القيام بأعبائها ومسؤوليتها. فكما يغنم الفرد من المجتمع ممثلاً في الدولة ونشاطاتها يجب أن يغرم، ويدفع ما يخصه من ضرائب والتزامات تطبيقًا للقاعدة الشرعية "الغرم بالغنم"(94).