
مشاركة: قصص من بريد الأهرام - قراءة في بعض ما كتب الرائع عبد الوهاب مطاوع
الإشارة الغامضة!
بـريــد الأهــرام
42879
السنة 128-العدد
2004
ابريل
30
10 من ربيع الأول 1425 هـ
الجمعة
قرأت رسالة طيف الغائب للأب الفاضل الذي فقد ابنه الشاب, وهو في طريقه إلي عمله برأس سدر, فترقرق الدمع في عيني ووددت لو استطعت التخفيف عنه وتبادل المواساة معه.. فأنا رجل في الرابعة والأربعين من عمري أقيم في احدي قري الصعيد, ومنذ أكثر من عام بقليل ذهبت إلي مقابر الأسرة في يوم عاشوراء لقراءة الفاتحة علي أرواح الأهل الراحلين, وكنت صائما, فإذا بي أجد ابني الطالب بالصف الثاني الثانوي هناك يزرع شجرة فيكس اشتراها من مصروفه, فحييته ووقفت أقرأ الفاتحة وهممت بالانصراف, وكنا وقت الأصيل والمسافة بين المقابر والبيت بعيدة, فوجدت ابني هذا يقدم لي بضع تمرات ويقول لي إن أذان المغرب سيرفع وأنا في الطريق, ويطلب مني الافطار علي هذه التمرات حتي أرجع إلي البيت, فشكرته وأخذتها وانصرفت.. ولم يمض وقت طويل إلا وأذن لصلاة المغرب, فكسرت صيامي بهذه التمرات وشعرت بالامتنان لولدي.. وبعد ذلك بثلاثة أيام فقط كان ابني هذا عائدا من مدرسته الثانوية فإذا بسيارة متوحشة تصدمه صدمة مروعة وترديه أرضا..
ونقل ابني إلي المستشفي في حالة خطيرة ولازمته فيه.. وبذل الأطباء جهودا مضنية لانقاذه بلا جدوي وحانت ساعة رحيله الأبدي وأنا إلي جواره علي نفس السرير, وهو يكلمني وأقول له قل: لا إله إلا الله فيرد: محمد رسول الله, ثم طلب مني ماء وفاضت روحه الطاهرة قبل آن آتيه به.. وهرول أطباء الطواريء إلي الغرفة وفعلوا ما يمليه عليهم واجبهم, ونظر إلي أحد هؤلاء الأطباء في حزن وقال لي: ربنا معك.. فقلت من فوري: لقد مات رسول الله صلي الله عليه وسلم فاللهم اجعل ابني مع من أنعمت عليهم, ولست أذكر للأسف اسم هذا الطبيب الانسان الذي واساني والذي كان قد تبرع بدمه لابني في محاولة لانقاذه فجزاه الله عني خير الجزاء.
المهم أنني لم أبك عند نقل ابني من أمامي.. ورحت أناجي ربي وأقول له: لقد أخذت ابني مني فانعم عليه ياربي بالجنة والنعيم المقيم وهو من أهله لأنه لم يسيء إلي ذات يوم ولم يرفع صوته علي مرة ولم يتسبب لي في أية مشكلة طوال حياته القصيرة, وكان طيب القلب عف اللسان, ويارب اجعلنا من عبادك الصابرين ذلك أن من يتصبر يصبره له.. ويجعل له مخرجا وعدت إلي البيت وقد سبقني إليه النبأ الحزين ورأيت الدموع في عيون أمي وأبي الذي قارب التسعين ويحفظ القرآن الكريم كاملا حتي الآن ويؤم المصلين في المسجد.
واني لصابر علي ما جرت به المقادير وأدعو الله الرحيم الكريم أن ينزل السكينة علي قلوب المكلومين جميعا ويعينهم علي الصبر والنسيان, ويرحم ابني الراحل وينعم عليه برضوانه في الدار الباقية, وما أظن أن زيارته المفاجئة للمقابر قبل الحادث المؤلم بثلاثة أيام فقط وزرعه لشجرة الفيكس فيها إلا اشارة غامضة لقرب الرحيل, وإن كنت لم أتنبه إليها في حينها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
عزاء وصبرا يا سيدي أعانك الله سبحانه وتعالي بقدرته جل شأنه علي الصبر والسلوي, ولقد كنت أقرأ قبل أن اطلع علي رسالتك هذه, ما رواه الأديب الراحل مصطفي صادق الرافعي في كتابه الجميل وحي القلم عن الزاهد العارف بالله مالك بن دينار الذي فقد ابنة له كان يقرأ لها القرآن ويفسره لها فتسبقه في التفسير بفطنتها وحدة ذكائها, ثم مرضت هذه الابنة فجأة.. وساءت حالتها حتي لفظت أنفاسها الأخيرة, وحزن عليها أبوها كثيرا وأشتد حزنه, إلي أن رأي ذات ليلة في نومه ابنته هذه تسقيه يوم الكرب العظيم ماء عذبا قراحا يروي ظمأه, والناس من حوله يغطي العرق وجوههم ويتمني كل منهم لنفسه شربة ماء بلا طائل, فنهض من نومه متصبرا وقرأ الآيات الكريمة: يطوف عليهم ولدان مخلدون, بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون19,18,17 من سورة الواقعة وكف منذ ذلك الحين عن الحزن علي ابنته وإن لم ينسها حتي رحل عن الحياة, فلعل الله جاعل من ابنك الطيب هذا ساقيا من سقاة الجنة الذين يطوفون علي أهلهم يوم الكرب العظيم بآنية من ذهب وأكواب من فضة لايسقون بها إلا آباءهم وأمهاتهم.. والله علي كل شيء قدير.