
مشاركة: الآثار الاقتصادية للنفقات العامة
تعددت أوجه الإنفاق العام، نتيجة تدخل الدولة المتزايد في الحياة الاقتصادية والاجتماعية وانتقال دور الدولة من الدولة الحارسة إلى الدولة المتدخلة، ثم إلى الدولة المنتجة، وأصبحت النفقات العامة تشمل أنواعا" متعددة لتحقيق أهداف محددة لكل منها، لذلك تركزت دراسات المالية العامة الحديثة على تحليل طبيعة كل من هذه النفقات العامة وتقسيماتها، تبعا" لوضع كل منها وآثاره ومنعكساته.
ولم تتناول دراسة طبيعة النفقات العامة في النظرية التقليدية الاهتمام اللازم بحده الأدنى، فقد كانت النفقات العامة في إطار مفهومها التقليدي ذات طبيعة واحدة نتيجة لوحدة أهدافها التي تقتصر على القيام بالوظائف الأساسية التقليدية الضرورية لتسيير المرافق الإدارية.
أما بعد اتساع نشاط الدولة، وزيادة تدخلها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فقد اكتسبت دراسة طبيعة وهيكل النفقات العامة أهمية كبيرة في العصر الحاضر، حيث أصبحت النفقات العامة تتخذ صورا" متعددة ومتنوعة، ويزداد هذا التنوع مع تزايد وظائف الدولة، وتزايد مظاهر تدخلها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.. ولم تعد النفقات العامة تشكل كلا" متكاملا" متجانسا"؛ بل هي هيكل يظهر في صورة أشكال مختلفة تختلف فيما بينها اختلافا" بينا" سواء من حيث مضمونها أم من ناحية آثارها الاقتصادية والاجتماعية ونتائجها المالية.
ومن الطبيعي أن يدفع هذا الأمر كتاب المالية العامة إلى البحث عن أسس علمية منطقية واضحة، تسهيلا" لمهمة تحليل نشاط الدولة يمكن بالاعتماد عليها تبويب النفقات العامة وتقسيمها إلى أقسام متميزة، يضم كل منها النفقات العامة، التي تتصف بصفات مشتركة مما يتيح للباحث الاقتصادي والمالي تحليل النفقات العامة، وفقا" لأسس علمية اقتصادية، تمكن من تتبع الآثار المباشرة وغير المباشرة لكل منها، وتبعا" لذلك يمكن التمييز بين نوعين رئيسين (1) لتبويب النفقات العامة وتقسيمها هما:
- التبويب العلمي (الموضوعي) للنفقات العامة.
- التبويب الوضعي للنفقات العامة وفقا" للقوانين النافذة في كل دولة.
المبحث الأول
التبويب العلمي (الموضوعي) للنفقات العامة
ويقصد بتبويب النفقات العامة، وضع هذه النفقات في أقسام وزمر متجانسة، وتمييزها تمييزا" واضحا" بعضا" عن بعض، ومن الواضح أن هناك تقسيمات متعددة للنفقات العامة، تتعدد بتعدد أغراض الدراسة وتختلف فيما بينها باختلاف الزاوية التي ينظر منها إلى هذه النفقات. لذلك فقد تعددت أسس تبويب وتقسيم النفقات العامة من إدارية واقتصادية وسياسية ومالية، وإن كان التبويب والتقسيم العلمي الاقتصادي للنفقات العامة قد احتل المكانة الأولى بين هذه التقسيمات لشموله من ناحية، ولفائدته في مجال التحليل المالي والتعرف على آثار النفقات العامة من ناحية أخرى، وسوف نعرض فيما يلي أنواع التبويب العلمية للنفقات العامة كالتالي:
أولا"- التبويب الوظيفي للنفقات العامة (تبعا" لأغراضها).
ثانيا"- تبويب النفقات العامة حسب دوريتها وانتظامها.
ثالثا"- تبويب النفقات العامة حسب نطاق سريانها.
رابعا"- تبويب النفقات العامة تبعا" لتأثيرها في الإنتاج القومي.
وفيما يلي شرح موجز لكل من أنواع التبويب المذكورة للنفقات العامة:
أولا"- التبويب الوظيفي للنفقات العامة (تبعا" لأهدافها):
يعد التبويب الوظيفي للنفقات العامة تبويبا" حديثا" نسبيا"، فهو يعتمد على المفهوم الحديث للمالية العامة التي لم تعد قاصرة على مجرد تمويل النفقات الإدارية للحكومة، بل أصبحت أداة لتنفيذ سياستها، والاضطلاع بوظائف اقتصادية واجتماعية متعددة، فالتبويب الوظيفي يظهر النفقات العامة للدولة، حسب الوظائف التي تقوم بها، أي أنه يتبع النشاطات المختلفة التي تقوم بها الدولة ووفقا" لهذا التبويب تصنف النفقات العامة طبقا" للوظائف والخدمات التي تقوم بها الدولة في مختلف المجالات، وبناء" على ذلك يتم تبويب النفقات العامة في مجموعات متجانسة، بحيث تخصص كل مجموعة لوظيفة معينة من هذه الوظائف.
ومن هنا فإن النفقات العامة للدولة، يمكن أن تظهر تبعا" للوظائف التالية:
1- النفقات العامة الاقتصادية: وتشمل الأموال المخصصة للقيام بخدمات تهدف إلى تحقيق هدف اقتصادي ومثال ذلك الاستثمارات في المشاريع الاقتصادية المتنوعة، والإعانات والمنح الاقتصادية والنفقات التي تستهدف تزويد الاقتصاد القومي بالخدمات الأساسية كالطاقة والنقل...الخ.
2- النفقات العامة الاجتماعية: وتتضمن النفقات العامة اللازمة للقيام بخدمات اجتماعية، كالمبالغ التي تمنح لبعض الفئات الاجتماعية أو الأفراد أو الأسر الكبيرة ذات الدخل المحدود، والنفقات العامة المخصصة للخدمات الصحية والتعليمية والترفيهية والضمان الاجتماعي.
3- النفقات الإدارية: وهي تتضمن النفقات العامة المخصصة لتسيير المرافق العامة، من رواتب وأجور للعاملين في الإدارات الحكومية، وأثمان مستلزمات الإدارات الحكومية، كما تتضمن المبالغ المخصصة للجهاز الإداري من أجل إعداده وتدريبه، لكي يكون قادرا" على أداء الخدمات العامة على الوجه الأكمل، كما يدخل ضمنها، المبالغ اللازمة لتحقيق الأمن الداخلي واستمرار العلاقات مع الخارج.
4- النفقات العسكرية: وهي تتضمن النفقات العامة المخصصة لإقامة واستمرار مَرافق الدفاع الوطني من رواتب وأجور ونفقات إعداد ودعم وتجهيز القوات المسلحة، وبرامج التسليح في أوقات السلم والحرب.
5- النفقات المالية: وهي تتضمن النفقات العامة المخصصة من أجل أداء أقساط وفوائد الدين العام والأوراق والسندات المالية الأخرى.
يحقق التبويب الوظيفي عددا" من المزايا، ويخدم أهداف أطراف عديدة، فهو يتيح حرية كبيرة في تبويب النفقات العامة، فيمكن أن نجمل هذه الوظائف والأغراض، فيؤدي ذلك إلى تبويب النفقات العامة إلى أنواع محدودة، كما يمكن أن نفصلها؛ فيؤدي ذلك إلى تعدد هذه الأنواع، ولا شك أن ذلك الإجمال والتفصيل يتوقف على الهدف من التبويب والغرض من الدراسة.
كما ُيمَكّن التبويب الوظيفي السلطة التشريعية والدارسين، من تتبع تطور النفقات العامة على الوظائف المختلفة، ويساعد على إدراك وتقدير الأهمية النسبية لوظائف الدولة، كما ييسر إجراء المقارنات بين وظائف الدولة المختلفة، ومثيلاتها في الدول الأخرى.
وقد تم توجيه انتقادات إلى هذا التبويب من حيث عدم قدرته على التغلب على بعض الصعوبات الفنية والعملية المتعلقة بخصوصية بعض النفقات العامة، وبخاصة عندما نواجه بعض النفقات التي ليس لها طابع وظيفي، أو أنها تخص أكثر من وظيفة واحدة، فإن احتسابها على وظيفة معينة سيتقرر بطريقة تحكمية. ومن ناحية ثانية فإن تبويب وظائف الدولة إلى عدد محدود ينجم عنه عدم تجانس مكونات كل وظيفة، مما ينتفي معه إلى حد ما الهدف الرئيسي من التبويب الوظيفي.
ومع ذلك يبقى هذا التبويب على قدر من الأهمية لما يتيحه من حرية وإمكانات في تحليل نشاط الدولة، وتتابع تطور هذا النشاط خلال سنوات مختلفة، وإجراء المقارنة بين الوظائف المختلفة للدولة الواحدة، ومقارنتها مع الدول الأخرى (1) .
ثانيا"- تبويب النفقات العامة حسب دوريتها وانتظامها:
نميز وفقا" لهذا التبويب، حسب الانتظام والدورية، ما بين نفقات عامة عادية، ونفقات عامة غير عادية.
ويقصد بالنفقات العامة العادية، تلك النفقات العامة التي تنفق بشكل دوري ومنتظم سنويا". دون أن يعني هذا الانتظام والتكرار ثبات مقدار النفقة، أو تكرارها بالحجم ذاته. ومثالها الرواتب والأجور ونفقات الصيانة، ونفقات العدالة وفوائد القروض العامة، ونفقات الإدارة.
أما النفقات العامة غير العادية (الاستثنائية): فيقصد بها تلك النفقات العامة التي لا تتكرر بانتظام ولا تتميز بالدورية. فهي تحدث على فترات متباعدة، وبصورة غير منتظمة، ومثالها النفقات العامة الاستثمارية الضخمة (بناء السدود والخزانات) ونفقات مكافحة البطالة ونفقات الحرب والنفقات العامة اللازمة لمواجهة الكوارث الكبيرة كالفيضانات والزلازل.
وتتضح الفائدة من تبويب النفقات العامة على هذا الشكل، في إرساء قاعدة هامة في مجال تمويل النفقات العامة، فالنفقات العادية تتكرر بصورة دورية، مما يجعل الحكومة قادرة على تقديرها بدقة، وتدبير ما يلزم لتغطيتها من الإيرادات العادية، إيرادات أملاك الدولة، والضرائب والرسوم. أما النفقات غير العادية، فهي حسب طبيعتها غير متوقعة.. ومن ثم فإنه لا ضرر من السماح للحكومة بتمويلها عن طريق اللجوء إلى الإيرادات العامة غير العادية، القروض العامة والإصدار النقدي الجديد.
وفي الواقع إذا كان هذا التبويب يبدو صحيحا" في مظهره فإنه في حقيقة الأمر منتقد من حيث الأساس الذي يعتمد عليه، ومن حيث الغرض الذي يهدف إليه.
فالتبويب إلى نفقات عادية، ونفقات غير عادية، يقوم على أساس نسبي وتحكمي، فهو يستند إلى قاعدة تعتمد على مجرد واقعة التكرار السنوي للنفقة العامة، فإذا نظرنا إلى النفقات العامة، بالاعتماد على فترة أكثر من سنة (5 سنوات أو 10 سنوات) فإن العديد من النفقات العامة غير العادية، يتحول إلى نفقات عامة عادية، وبخاصة إذا ما أخذنا في الحسبان أن الاتجاه الحديث في بعض الدول هو وضع الخطط المالية لفترات تزيد على السنة، وإذا أخذنا بالمنظور الضيق للفترة الزمنية أقل من سنة فإن عددا" من النفقات العامة العادية تتحول إلى نفقات عامة غير عادية. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، يؤخذ على هذا التبويب أنه يتفق مع الفكر المالي التقليدي ودور الدولة الحارسة والذي يؤكد على تغطية النفقات العامة العادية بالإيرادات العامة العادية، وهي إيراد أملاك الدولة والضرائب والرسوم. إلا أنه عندما تغيرت الظروف، وتطور دور الدولة إلى الدولة المتدخلة، فأدى هذا التدخل المتزايد في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية إلى زيادة النفقات العامة وإلى تنوعها، كالنفقات العامة المخصصة للحروب، أو لمعالجة الأزمات الاقتصادية والبطالة، أو التوسع في رأس المال المنتج، أو لتحقيق التنمية الاقتصادية في الدول النامية، فلم تعد الإيرادات العادية كافية لتغطيتها، وكان لا بد مع هذا الوضع من البحث عن إيرادات جديدة للتمويل، كالقروض العامة والإصدار النقدي الجديد، وهكذا وجد الفكر المالي حلا" لمشكلته، في تبويب النفقات العامة إلى نفقات عامة عادية يتم تمويلها من الإيرادات العامة العادية، وإلى نفقات عامة غير عادية يتم تمويلها من الإيرادات العامة غير العادية.
ولم يكتف الفكر التقليدي بالاعتماد على فترة السنة، للتمييز بين النفقات العامة العادية وغير العادية، وتبرير اللجوء إلى الإيرادات العامة غير العادية، بل تَمَسّكَ هذا الفكر بعدة معايير أخرى، للتفريق بين النفقات العامة العادية وغير العادية؛ كالمدة التي تتم فيها النفقة والمدة التي تنتج فيها النفقة آثارها والنفقة التي تولد الدخل وإنتاجية النفقة أو المساهمة في تكوين رأس المال (1) .
وهكذا إذا كان تبويب النفقات العامة إلى عادية وغير عادية سليما" في ظل المالية العامة التقليدية، فإنه غير سليم في ظل المالية العامة الحديثة. حيث فقد هذا التبويب أهميته في الوقت الحاضر، بخاصة وأنه من النادر أن تلتزم الدول بالقاعدة الخاصة بالإيرادات العامة. إذ تلجأ الدول في كثير من الأوقات، إلى الإيرادات العامة غير العادية، لتمويل العجز في الموازنة العامة، أيا" كان مصدر هذا العجز، فالمالية العامة الحديثة تبرر اللجوء إلى أي نوع من أنواع الإيرادات العامة، في ضوء الظروف الاقتصادية والاجتماعية والمالية السائدة في الدولة ذات العلاقة (2) .
ثالثا"- تبويب النفقات العامة حسب نطاق سريانها:
يعتمد هذا التبويب للنفقات العامة على مبدأ شمول الإنفاق، وبناء على ذلك، تبوب النفقات العامة وفقا" لنطاق سريانها إلى نفقات عامة مركزية وأخرى نفقات عامة محلية، وللتمييز بينهما هناك ثلاثة معايير يمكن الاعتماد عليها وهي (3) :
1- معيار المستفيد من النفقة:
تعتبر النفقة العامة مركزية، إذا كانت موجهة لصالح مجتمع الدولة بكامله، مثل نفقات الأمن والدفاع والبحوث العلمية...الخ،في حين إذا كانت النفقة العامة موجهة لصالح سكان إقليم معين أو منطقة معينة داخل الدولة، فهي نفقة محلية، مثل نفقات إيصال الكهرباء والماء والهاتف...الخ.
ويؤخذ على هذا المعيار أن النفقات العامة المركزية يعود نفعها إلى كل إقليم من أقاليم الدولة، كما أن النفقات العامة المحلية يعود نفعها على جميع المواطنين في المجتمع.
2- معيار من يتحمل عبء النفقة العامة:
تعتبر النفقة العامة مركزية، إذا تحمّل المجتمع عبأها عن طريق الموازنة العامة للدولة، وتكون النفقة العامة محلية إن تحمّل عبأها مجتمع الإقليم عن طريق الموازنة المحلية للإقليم. وتم توجيه انتقادات عديدة لهذا المعيار؛ لأن كثيرا" من النفقات المحلية تمول بإعانات من الموازنة العامة للدولة، ولهذا فإن عبء النفقات المحلية يقع على عاتق المجتمع بكامله، وليس على مجتمع الإقليم.
3- معيار الموازنة التي ترد فيها النفقة العامة:
يرى بعض الاقتصاديين أن خير معيار، هو النظر إلى الموازنة التي ترد فيها النفقة العامة(1) . ومن ثم فإن النفقة العامة مركزية إن وردت في الموازنة العامة، وتكون النفقة العامة محلية إن وردت في موازنة الإقليم، بغض النظر عن المستفيد منها، ومن يتحمل عبأها.
وقد انتُقد هذا المعيار من ناحية أن تبويب النفقات العامة وإدراجها في الموازنة العامة للدولة والموازنة المحلية يعتمد على اعتبارات تاريخية وسياسية مختلفة. بيد أن هذا التبويب على الرغم من الانتقادات العديدة التي وُجهت إليه، لا يخلو من فائدة من الناحية الإدارية، فهو يساعد على إجراء المقارنة في الإنفاق على مستوى الأقاليم، وتحديد نصيب الفرد من هذا الإنفاق في كل إقليم، كما يسهل عملية متابعة تطور الإنفاق خلال الفترات المختلفة، الأمر الذي يمكن السلطة المركزية من تحديد أي الأقاليم أحوج إلى إعانات من السلطة المركزية.
رابعا"- تبويب النفقات العامة، تبعا" لتأثيرها في الإنتاج القومي:
يمكن تبويب النفقات العامة وفقا" لتأثيرها في الإنتاج القومي إلى نوعين هما: النفقات العامة الحقيقية، والنفقات العامة التحويلية.
وتنطوي النفقات العامة الحقيقية بصفة عامة، على النفقات العامة التي تؤدي مباشرة إلى زيادة الإنتاج القومي، فهي بالمعنى الواسع لها: النفقات المنتجة التي تتم بمقابل. بينما يقصد بالنفقات العامة التحويلية ، تلك النفقات العامة التي لا تؤدي مباشرة إلى زيادة الإنتاج القومي، ولا تفعل بصورة مباشرة، سوى إنها تحول القوة الشرائية فيما بين الأفراد والجماعات، أي لا تعدو كونها تعيد توزيع الدخل القومي وهي عادة تتم دون مقابل، وقد اعتمد كتاب المالية العامة في التفرقة بين النفقات العامة الحقيقية، والنفقات العامة التحويلية، على ثلاثة معايير متداخلة، وهي التالية:
1- معيار المقابل المباشر:
المقابل المباشر هو: ما تحصل عليه الدولة من الأموال المادية أو الخدمات مقابل نفقاتها العامة، وبناء على ذلك، تكون النفقة العامة حقيقية، إذا ما حصلت الدولة على خدمات أو أموال عينية مقابل نفقاتها العامة، وتكون النفقة العامة تحويلية إذا كانت تتم دون مقابل لها.
ولا يغير من طبيعة هذه النفقات الحقيقية -التي تحصل الدولة على مقابل لها في صورة سلع أو خدمات- قيام الدولة بتوزيع هذه السلع والخدمات بعد ذلك بالمجان على المواطنين كالخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية، إذ تعتبر نفقاتها من بين النفقات الحقيقية التي حصلت الدولة في مقابلها على كل من خدمات الموردين والمقاولين الذين قاموا بعملية الإنشاء وتزويدها بالمعدات اللازمة لها، وخدمات القائمين على شؤونها كالمعلمين والأطباء والمختصين الاجتماعيين. فالعبرة هي واقعة الإنفاق ، وليست العبرة في التوزيع المجاني، الذي يعتبر واقعة أخرى لاحقة عليها.
2- معيار الزيادة المباشرة في الإنتاج القومي:
فالنفقات العامة الحقيقية هي تلك النفقات التي تخصصها الدولة مباشرة لاستخدام جزء من الموارد الاقتصادية للمجتمع، في إنتاج السلع والخدمات لإشباع الحاجات العامة، أي التي تؤدي إلى خلق إنتاج جديد، وزيادة الدخل القومي بصورة مباشرة، مثل النفقات المخصصة للدفاع وللخدمات المدنية والتعليم والقضاء والمواصلات والبريد، والنفقات التحويلية تلك النفقات التي تخصص للمدفوعات التي تتم دون مقابل، مثل إعانات المرض والبطالة والمعاشات والإعانات الاقتصادية التي تدفع إلى بعض المنتجين، لتخفيض أسعار السلع والخدمات التي ينتجونها، وفوائد الدين العام، أي أن النفقات التحويلية لا تؤدي إلى استخدام مباشر لموارد المجتمع، ومن ثم لا تؤدي إلى زيادة مباشرة في الإنتاج القومي.
ولكن يبدو أن هناك صعوبة في اعتبار النفقات العامة حقيقية أو تحويلية عندما يتعلق الأمر بشراء سلع وخدمات سبق إنتاجها قبل شرائها، والواقع أن هذه النفقات المخصصة لشراء السلع والخدمات المنتجة نفقات حقيقية، لأنها تؤدي إلى خلق طلب جديد على عوامل الإنتاج، وبالتالي تؤدي في حقيقة الأمر إلى خلق إنتاج جديد، وبخاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار عنصر التوقع في طبيعة الطلب الفعلي ودوره في تحديد الإنتاج (1) .
3- معيار من يقوم بالاستهلاك الفعلي المباشر للموارد الاقتصادية للمجتمع:
من المعروف أن الإنتاج يعني استهلاك جزء من عناصر الإنتاج، وبذلك فإننا يمكن أن نفرق بين النفقات الحقيقية، والتحويلية بالاعتماد على تأثيرها في استهلاك الموارد المادية وعناصر الإنتاج، ومن يقوم بهذا الاستهلاك هل هو الشخص العام الذي قام بالإنفاق أم الأفراد، ونكون أمام نفقات حقيقية إذا كانت الدولة (الشخص العام) هي التي تستخدم وبصورة مباشرة الموارد العينية وعناصر الإنتاج، مثل رواتب وأجور الموظفين والعمال، أو ما يعرف بالاستهلاك الحكومي المباشر، أما النفقات التحويلية فهي النفقات التي تؤدي إلى استهلاك الموارد العينية وعناصر الإنتاج استهلاكا" غير مباشر، مثل إعانات البطالة والمرض والشيخوخة والعجز والطفولة، فالأفراد الذين تتحول هذه النفقات لحسابهم للمستفيدين، هم الذين يقومون بالإنفاق وباستهلاك جزء من الموارد الاقتصادية للمجتمع وليست الدولة.
إن تبويب النفقات العامة إلى نفقات عامة حقيقية، ونفقات عامة تحويلية، قد استند في أساسه إلى ما يترتب على النفقات العامة من آثار مباشرة في الإنتاج القومي، وقد أدى هذا الأساس ببعض الكتّاب إلى التعبير عن هذا التبويب تعبيرا" أكثر صراحة في إظهار هذا الأساس، وتبعا" لذلك قام هؤلاء الكّتاب بتقسيم النفقات العامة إلى ”نفقات عامة منتجة“ و ”نفقات عامة موزعة“ وهم يقصرون أثر النفقات العامة الموزعة على إعادة توزيع الدخل القومي دون زيادته ودون أن ينكروا على النفقات العامة المنتجة، أنها تؤدي هي الأخرى إلى آثار توزيعية.
وقد قسم بعض كتّاب المالية العامة النفقات العامة التحويلية إلى أنواع مختلفة تبعا" للغرض منها، فهناك النفقات العامة التحويلية المباشرة وغير المباشرة، ويقصد بالنفقات التحويلية المباشرة تلك النفقات التي تتحول من الدولة إلى المستفيد على شكل دخول نقدية، وتعرف كذلك بالتحويلات النقدية، أما النفقات التحويلية غير المباشرة فهي أن يتلقى المستفيد منها سلعة أو خدمة بالمجان أو أن يدفع ثمنا" يقل عن تكلفة إنتاجها، وتسمى التحويلات العينية. وتقسم كذلك النفقات التحويلية إلى ثلاثة أنواع:
1- النفقات العامة التحويلية الاجتماعية: وتتم بلا مقابل، وتهدف إلى رفع مستوى معيشة بعض الأفراد، أو الطبقات الاجتماعية، مثل إعانات المرض والعجز والشيخوخة والبطالة وإعانات دعم الاستهلاك.
2- النفقات العامة التحويلية الاقتصادية: وهي الإعانات التي تمنح لبعض المشروعات الإنتاجية، أو لبعض فروع الإنتاج، بهدف تخفيض نفقات الإنتاج، وتصريف المنتجات بأثمان منخفضة أو لرفع معدلات الربح.
3- النفقات العامة التحويلية المالية: وتتمثل بفوائد الدين العام واستهلاكه، بالمفهوم التقليدي.
وتختلف الأهمية النسبية لكل من النفقات العامة الحقيقية، والنفقات العامة التحويلية من دولة إلى أخرى وفي الدولة الواحدة من وقت إلى آخر، حسب المرحلة التي يمر بها الاقتصاد القومي، وتشكل النفقات التحويلية نسبة مرتفعة من إجمالي النفقات العامة، ويرجع ذلك إلى أسباب عديدة، أهمها زيادة الأخذ بنظام التأمينات الاجتماعية، وازدياد الإعانات الاجتماعية، وإعانات تحسين مستوى المعيشة، وازدياد اللجوء إلى القروض العامة، وزيادة انتشار الأزمات الاقتصادية وانتشار البطالة.
إن تبويب النفقات العامة وتقسيمها، إلى نفقات عامة حقيقية ونفقات عامة تحويلية يقع على قدر كبير من الأهمية، وبخاصة في مجال التحليل الاقتصادي، والتعرف على مستوى الطلب الفعلي، ويساعد كذلك الدول التي ترغب في اتباع سياسة ضغط النفقات العامة، على التعرف على حصة كل من النفقات الحقيقية والتحويلية، والتركيز على ضغط النفقات العامة التحويلية، وبخاصة في الدول النامية، التي تقضي ظروفها المحافظة على مستوى مرتفع من النفقات المنتجة، لتحقيق أهدافها في التنمية والتطوير (1)
المبحث الثاني
التبويب الوضعي للنفقات العامة
بعد أن استعرضنا أهم أنواع التبويب العلمي الموضوعي للنفقات العامة وتقسيماتها يطرح السؤال نفسه ما هو موقف المشرع المالي من هذه التقسيمات العلمية وإلى أي مدى يأخذ بها في تصنيفه للنفقات العامة في الموازنة العامة للدولة؟
فالتقسيمات العلمية ليست ملزمة، ومن ثم فإنه من الصعب أن نضع قواعد تحدد تبويبا" واحدا" للنفقات العامة تتبناه جميع الدول، فالتبويب الوضعي يختلف من دولة إلى أخرى حسب نظامها الاقتصادي والسياسي والمالي، وحسب مرحلة التطور التي تمر بها ويلاحظ أن الدول المختلفة تتبنى أنواعا" من التبويب تختلف في أحيان كثيرة عن التبويب العلمي، ولكنها في أغلب الأحيان تجمع بين معايير عديدة، وبخاصة التقسيمات الإدارية، والتقسيمات الوظيفية يحكمها في ذلك الاعتبارات السياسية والإدارية والتاريخية والوظيفية.
وسوف نستعرض بعض أنواع التبويب الوضعي لعدد من الدول المختلفة.
أولا"- تبويب النفقات العامة في موازنة الولايات المتحدة الأمريكية (1) :
يجري تبويب النفقات العامة في موازنة الولايات المتحدة على أساس التبويب الوظيفي والتبويب الإداري منذ زمن بعيد، ويتضمن التبويب الوظيفي أي تبعا" للوظائف التي يتم عليها الإنفاق، أو الغرض الذي تهدف إليه النفقة، الأقسام التالية:
- الدفاع الوطني.
- الشؤون الدولية وتمويلها.
- المساعدات والخدمات الخاصة بالمحاربين القدماء.
- الرفاهية والصحة والتعليم.
- الزراعة والموارد الزراعية.
- الثروة الطبيعية.
- التجارة والقوة العاملة.
- الإدارة الحكومية.
- فوائد الدين العام.
ثم يستمر تبويب الموازنة العامة بعد ذلك داخل الإطار الوظيفي تبعا" للسلطات الإدارية التي تقوم بالإنفاق وهي الوزارات والمصالح الحكومية والهيئات.
ثانيا"- تبويب النفقات العامة في الموازنة العامة للملكة الأردنية الهاشمية (1) :
يقوم النظام المالي في المملكة الأردنية الهاشمية على وجود عدد من الموازنات، يمكن تبويبها إلى أربع مجموعات وهي:
1- الموازنة العامة للدولة بفرعيها الاستثماري والجاري.
2- موازنات المؤسسات ذات النشاط الإنتاجي، ويبلغ عددها (16) موازنة مستقلة.
3- موازنات الشركات العامة المتمثلة بشركات القطاع المختلط، حيث تأخذ هذه الشركات شكل الشركات المساهمة، تساهم الدولة بجزء من رأسمالها، وتسمى الموازنات المستقلة.
4- موازنات الوحدات ذات النشاط الإداري وهي أيضا" موازنات مستقلة مثل الموازنات الخاصة بالجامعات، معهد الإدارة العامة، مؤسسة التدريب المهني، مجمع اللغة العربية، مستشفى الجامعة الأردنية، الجمعية العلمية الملكية، المصرف المركزي الأردني.
وتبوب النفقات العامة في الموازنة العامة للدولة، وفق تبويب مركب يتكون من ثلاثة عناصر أساسية وهي:
-التبويب الإداري – التبويب النوعي – التبويب القطاعي.
ويلاحظ أن المشرع المالي الأردني قد دمج التبويب الوظيفي مع التبويب الإداري للنفقات في كشف واحد، حيث تظهر النفقات العامة مبوبة حسب الإدارات الحكومية الرئيسة، وكذلك حسب الوظائف التي تخدمها هذه النفقات، وقد أطلق على كل إدارة حكومية رئيسة مصطلح الفصل، وأعطيت الفصول أرقاما" متسلسلة دون الإشارة إلى أي ترميز عشري.
وسوف نستعرض التبويب الوضعي في سورية:
يقوم النظام المالي في الجمهورية العربية السورية على وجود عدد من الموازنات يمكن تبويبها إلى ما يلي:
1- الموازنة العامة الموحدة للدولة وتتضمن اعتمادات الإنفاق العام وتقديرات الإيرادات العامة بشقيها الجاري والاستثماري.
2- الموازنات التقديرية للمؤسسات العامة ذات الطابع الاقتصادي، وهي موازنات لاعتمادات الإنفاق الجاري للمؤسسات والشركات والمنشآت العامة ذات الطابع الاقتصادي تعد استنادا" إلى الخطط السنوية لكل منها، وترتبط بالموازنة العامة للدولة وفق قاعدة الصوافي.
3- الموازنات المنفصلة لكل من الوحدات الإدارية المحلية ومديريات الأوقاف، وهي موازنات منفصلة عن الموازنة العامة للدولة وترتبط بها وفق قاعدة الصوافي.
وتجدر الإشارة إلى أن اعتمادات الإنفاق الجاري للجهات العامة ذات الطابع الإداري (هيئات عامة، وحدات حسابية مستقلة) ترصد في الموازنة العامة للدولة في الأبواب (1و2و4و5).
المبحث الثالث
تبويب النفقات العامة في الجمهورية العربية السورية
حدد القانون المالي الأساسي للدولة في سورية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم (92) لعام 1967 وتعديلاته تبويب النفقات العامة في سورية بما يلي:
- تبويب وظيفي: وهو التبويب الذي يظهر نفقات الموازنة على أساس وظائف الدولة المختلفة (الدفاع، الأمن الداخلي، التعليم، الخدمات الصحية والثقافية..).
- تبويب إداري: وهو التبويب الذي يظهر نفقات كل وحدة إدارية على حده، من وزارة أو إدارة أو مؤسسة عامة بالشكل الذي يخصص فيه لكل وزارة قسم مستقل ولكل إدارة أو مؤسسة عامة تابعة لها فرع مستقل.
- تبويب نوعي: وهو التبويب الذي يظهر نفقات كل وحدة إدارية على أساس طبيعة النفقة، وذلك بالشكل الذي يظهر فيه التبويب نفقاتها الاستثمارية وعناصر نفقاتها الجارية (من أجور ونفقات عامة ونفقات تحويلية...الخ). ولكل نوع من هذه النفقات باب مستقل. وتقسم النفقات إلى خمسة أبواب (الرواتب والأجور- النفقات الإدارية- المشاريع الاستثمارية- النفقات التحويلية- الديون والالتزامات واجبة الأداء)، كما تتوزع نفقات كل باب من أبواب الموازنة العامة للدولة على بنود وفقرات.
- تبويب إقليمي: وهو التبويب الذي يظهر بصورة مستقلة نفقات الإدارة المركزية في جهاز الدولة، ونفقات كل محافظة على حدة..
وقد اعتمدت الموازنة العامة للدولة حتى عام 1983 أسلوب (التبويب الإداري)، ويقوم هذا التبويب بطريقة تحليلية بعرض الموازنة العامة للدولة على مستوى وزارات الدولة وإداراتها ومؤسساتها وهيئاتها العامة.
ويفيد هذا التبويب عند إقرار الموازنة والتصويت عليها من قبل مجلس الشعب (الهيئة البرلمانية) على مستوى كل قسم (وزارة)، وفرع (هيئة أو مؤسسة تابعة للوزارة)، وكذلك على مستوى الأبواب لكل قسم أو فرع على حده، وفقا" لأحكام الدستور. ولا يقدم هذا التبويب أي خدمة لأغراض التجميع والتحليل والتخطيط.
ونظرا" لأهمية تبويب الموازنة العامة للدولة باعتبارها من أهم أدوات التخطيط المالي فقد تم إدخال تطور جزئي في تبويبها باستخدام أسلوب التبويب الإداري/القطاعي لاعتمادات الموازنة العامة للدولة، وذلك منذ عام 1984، وتم تطبيق هذا التبويب على الحاسوب الإلكتروني في وزارة المالية بدءا" من موازنة عام 1985. ويقوم هذا التبويب على تقسيم اعتمادات الجهات العامة في الدولة وفقا" للقطاعات المكونة للاقتصاد الوطني.
ويهدف هذا النوع من التبويب إلى ربط تدفقات بيانات الشركات والمؤسسات العامة ذات الطابع الاقتصادي ببيانات الموازنة العامة للدولة، وقطع الحساب الختامي لها، وكذلك ربط هذه البيانات ببيانات الخطة الخمسية. مما يسهل انسياب البيانات من جهة، ويساعد على إجراء الدراسات والمقارنات والتحليل وتقويم الأداء والنتائج من جهة أخرى.
وتجدر الإشارة إلى أن التبويب الجديد للموازنة العامة في سورية يعد خليطا" بين التبويب (الوظيفي والإداري) أو (قطاعي/إداري)، حيث توزع الاعتمادات على القطاعات المكونة للاقتصاد الوطني وكل وزارة مع مؤسساتها وشركاتها التابعة على حده، وتوزع هذه الاعتمادات نوعيا" على الأبواب الخمسة للموازنة العامة للدولة، وذلك بأسلوب تقسيمات الخطة الخمسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتبويبها نفسه.
__________________
لا الـــــــــــه إلا الله
if you fail to plan you plan to fail
كلنا نملك القدرة علي إنجاز ما نريد و تحقيق ما نستحق
محمد عبد الحكيم