
مشاركة: مسؤولية البنك عن الخزائن الخاصة
مسؤولية المصرف:
تقوم مسؤولية المصرف في الحالة التي يحدث فيها ضرر يلحق بمحتويات الخزانة أو عندما يخل المصرف بأحد إلتزاماته المترتبة على العقد.
وقد تنوعت إتجاهات الفقه والقضاء في تحديد مضمون هذه المسؤولية وحدودها، وهو تنوع يعكس حول تكييف عقد الخزائن والآثار المترتبة على كل تكييف.
ولقد أشرنا في بداية هذا البحث إلى تعداد الآراء التي قيلت في تكييف هذا العقد( )، وفيما يبدو أن موضوع التكييف يفقد أهميته مع التدخلات التشريعية التي تنأولت هذا العقد وحسمت الكثير من مشاكله.
والواقع أننا في الحالة التي يتدخل فيها المشرع وينظم هذا العقد فإنا لانرى فائدة من محأولة جره إلى عقد آخر ذلك أنه بإستقلال أحكامه لايبدو عمليا الإصرار على تقريبه إلى عقد مسمى آخر.
والأمر يمكن حسمه بالقول أنه أصبح عقدا مستقلا يحظى بعناية المشرع، وبالتالي فإنه يستمد أحكامه وطبيعته الخاصة من النصوص التي تنظمه وبالكيفية التي رآها المشرع، وكأي عقد آخر يخضع في أحكامه العامة للقواعد التي تحكم العقود بشكل عام.
وحتى لو استعمل فيه المشرع لفظا ينطبق على عقد آخر كما هو الحال في القانون المصري وبعض القوانين الأخرى التي أطلقت عليه عقد إيجار، فإن ذلك لا يجعله من قبيل عقد الإيجار العادي للأشياء، وله أحكامه الخاصة به( ).
وفيما يخص موضوع مسؤولية المصرف الناشئة عن هذا العقد، فإنها بلاشك تنطلق من تحديد طبيعة التزام المصرف في العقد، ولبيان ذلك يجب التركيز على مجموع الأحكام الخاصة التي أوردها المشرع وعلى الظروف التي تحيط بهذه المعاملة والإطار الذي تقوم فيه.
وفي الحالة التي لا تكون فيها النصوص صريحة بالشكل الذي يفصح بوضوح عن طبيعة الإلتزام فإن الاجتهاد يجب أن ينصب على ما قصده المشرع وعلى الغاية التي يستهدفها من خلال وضعه للنصوص الخاصة بالعقد، وليس من محأولة تقريبه إلى عقد الإيجار تارة أو إلى عقد الوديعة تارة أخرى.
إن عقد استغلال الخزائن يأتي في إطار العمليات المصرفية وهذه بدورها تقوم على إعتبارات معروفة بدأت تعطي الملامح الرئيسية لفرع قانوني بدأت تتوافر له عناصر الإستقلال وهو القانون المصرفي.
فهذا القانون وإن كان ينظم أعمالا بطبيعتها تجارية إلا أنها تشتمل على خصوصية مستمدة من الطبيعة الخاصة للعمل المصرفي الذي نظم فيه المشرع مسائل عديدة وترك غيرها لما يجري عليه العمل وترسخه الأعراف والعادات( ).
ويجب الإعتراف أنه حتى مع وجود النصوص القانونية لازالت هناك حاجة لتحديد طبيعة إلتزام المصرف الناشىء، عن الإلتزام بالحفظ وصون محتويات، وهذه لا يمكن الوصول لها بشكل سليم إلا من خلال النصوص الخاصة بالعقد ومن خلال الإطار الذي تقوم فيه هذه العملية.
وبخصوص بقية التزامات المصرف كالإلتزام بتمكين العميل من إستعمال الخزانة فهو العقد ذاته وهو بالوضوح والتحديد الذي يقيم مسؤولية المصرف في كل مرة يتم الإخلال به، كما ان الإلتزام بالسرية هو واجب عام يطبع كل أعمال المصارف ولا يمكن إلا وفق الإستثناءات التي حددها المشرع.
وعلى هذا الأساس سنركز البحث حول مسؤولية المصرف في هذه الفقرة على استكناه طبيعة التزامه بالحفظ وما ينجر على ذلك من آثار وسنخصص البند أولا لبيان مضمون مسؤولية المصرف من خلال معرفة هل التزامه بالحفظ التزام بتحقيق نتيجة أم التزام ببدل عناية وما يمكن ان يترتب على ذلك من آثار ثم في البند الثاني نحأول معرفة حدود هذه المسؤولية.
أولا مضمون مسؤولية المصرف:
إذا انطلقنا في بيان طبيعة التزام المصرف من بعض التشريعات القائمة، فإننا نجد نصوصها تختلف في تحديد هذا المعنى، فالقانون التجاري الليبي في المادة 228 ينص على انه "يتحمل المصرف المسؤولية قبل العميل عن صلاح محال الخزائن الخاصة للغرض الذي أعدت من أجله وعن حراستها وكذلك خلو الخزائن من العيوب، بإستثناء حالة الحادث الطارىء".
وهذا النص يقيم مسؤولية المصرف عن كل ضرر متصور بشكل لا فكاك منه إلا في حالة القوة القاهرة أو الحادث الطارىء كما وصفها مما يجعل التزام المصرف بالحفظ التزاما بتحقيق نتيجة.
فبمجرد حدوث ضرر ناتج عن عدم صلاحية مكان الخزانة أو عن عيب فيها أو تقصير في حراستها فإن المصرف يعتبر مسؤولا عن ذلك بقوة القانون بإستثناء القوة القاهرة، وفي مثل هذه الحالة لا يفيده أن يثبت أنه قد قام بما يلزم للمحافظة على الخزانة أو لم يقصر في حراستها.
ومثل هذا النص يقطع طريق الجدل في تحديد طبيعة الإلتزام ولا يجعل من فائدة بعد ذلك في تكييف العقد سوى أنه عقد خصه المشرع بأحكام خاصة، كما أنه سيلقي بظلاله على شروط العقد وبنوده حيث لا تكون للمصرف إمكانية إيراد شرط الإعفاء من المسؤولية الذي تتيحه القواعد العامة في حالات أخرى.
أما قانون التجارة المصري الجديد فإنه تضمن نصا في المادة 318/1 فينص:
"1- على البنك إتخاذ التدابير اللازمة لضمان سلامة الخزينة" وهو ما يشير إلى ان واجب المصرف يتمثل في بذل جهوده للقيام بكل ما من شأنه أن يحافظ على الخزانة ومحتوياتها مما يعني أن إلتزامه بالمحافظة هو التزام ببذل عناية وهو يبرأ من المسؤولية إذا أثبت أنه قد اتخذ التدابير الواجب إتخاذها للحفاظ على الخزانة ومحتوياتها.
والفرق واضح بين الإلتزام بتحقيق نتيجة والإلتزام ببذل عناية، إذ سيكون ركن الخطأ في المسؤولية مفترضا في جانب المصرف في الأول بينما هو واجب الإثبات في الثاني كما سنرى، وبالتالي فإن مسؤولية المصرف أشد في الإلتزام بتحقيق نتيجة وسبل التخلص منها لاتكون إلا بإثبات وجود قوة قاهرة بينما هي في الإلتزام ببذل عناية أخف وقد تتعدد أمامه سبل التخلص من المسؤولية.
وبغض النظر عن موقف كل من التشريعين المذكورين فإننا نميل إلى اعتبار إلتزام المصرف في مثل هذه المعاملة هو إلتزام بتحقيق نتيجة( ).
فعمليات الخزائن الخاصة هي من عمليات المصارف التي تختص بالقيام بها ويفترض أنه المكان الاكثر أمناً من غيره، كما ان دافع طلب الأمان من جانب العميل والإستعداد اللازم من جانب المصرف يجعل تصور تنفيذها مؤكدا إلا ما قد يكون طارئا وخارجا عن التوقعات.
والشخص الذي يتوجه بطلب هذه الخدمة من المصرف ليس في ذهنه ما في ذهن المستأجر العادي للأشياء بل هو ينشد نتيجة يريد تحقيقها وهي وضع بعض مقتنياته في المكان الذي لا تطالها فيه سرقته ولا يمسها ضرر من أي نوع، فهو لا يعول على انه قد يحصل فقط على سعة للإنتفاع بها بل دافعه الأساسي هو ما يتوقع أن يقوم به المصرف من مراقبة دائمة وحفظ مؤكد للخزانة ومحتوياتها.
وحتى لو أطلق على هذه العملية في بعض التشريعات إيجار فإن إلتزام المصرف، كما لاحظنا لا يقف عند تمكين العميل من استغلال الخزانة والاستفادة منها، بل إلى جانب ذلك يقع على عاتقه التزام آخر ليس تبعيا ولا إضافيا، بل هو رئيسي وهو الإلتزام بحراسة الخزانة ومحتوياتها( ).
ولقد كان المشرع الليبي صريحا في النص على إلزام المصرف بحراسة الخزانة في المادة 228 من القانون التجاري كإلتزام رئيسي على المصرف وأقام مسؤوليته على الإخلال به إلا في حالة القوة القاهرة، ومما يجعلنا نسير في هذا الاتجاه ما يجب أن تأخذ به المصارف من شدة في أعمالها إذ أنها تؤديها كمحترف ومتخصص لا ينتظر منها فقط ما ينتظر من غيرها( )، ولا يكتفي من يتوجه لطلب خدمتها بمجرد بذل العناية بل ان ما يطلبه هو تحقيق النتيجة.
فموضوع هذا العقد وهدفه لا يتحدد بإستغلال الخزانة ووضع الأشياء فيها بمجرد أن المصرف سببذل عنايته في حفظها بل يتحدد بأن هذه المحتويات قد وضعت في المكان المضمون الذي يبعدها عن أي خطر( ).
ومن أهم الآثار المترتبة على القول بأن إلتزام المصرف هو إلتزام بتحقيق نتيجة تكون على صعيد الإثبات، فالدائن في الإلتزام بتحقيق نتيجة يكفيه اثبات عدم تحقيقها.
وهو ما يؤدي إلى القول بأن عدم التنفيذ كان من فعل المدين ويكون ركن الخطأ في المسؤولية مفترضا في جانبه ولا يحتاج إلى اثبات( ).
وفي هذه الحالة لايكون أمام المدين بالإلتزام للتخلص من المسؤولية إلا اثبات وجود القوة القاهرة التي حالت دونه ودون تنفيذ التزامه.
أما في الإلتزام ببذل عناية فإن ركن الخطأ في المسؤولية غير مفترض، وهو واجب الإثبات، والدائن في الإلتزام مطالب بإثباته إذ عليه أن يقيم الدليل على أن المدين لم يقم بالعناية اللازمة التي يتطلبها تنفيذ الإلتزام وتكون امام هذا المدين فرصة أوسع لدفع المسؤولية بإثبات أنه قد قام بما يتطلبه منه العقد من اهتمام وعناية لتنفيذ الإلتزام( ).
وفي عقد الخزائن الخاصة يكون قدر الحماية للدائن في الإلتزام بتحقيق نتيجة أكبر منه في الإلتزام يبدل عناية، وهو ما يجعلنا نرجح الأول على الثاني لاختلاف مركز المتعاقدين، فالمصرف بما يتوفر له من امكانيات وأدوات وعاملين لا يتسأوى مع العميل الذي استأمن المصرف على مقتنياته، وبموجب الثقة في المصرف قام بوضع هذه الأشياء في حمايته بحيث لا يمكنه بعد ذلك أن يطالب بها أحدا غير المصرف.
كما أن القدرة الإدارية والقانونية للمصرف هي في وضع أقوى مما يجعل من غير العادل أن نضع المصرف والعميل في كفتين متقابلين لحسم مسألة الإثبات في ركن الخطأ، وفيما يخص توزيع الإلتزامات فإن وجود الأشياء في خزانة المصرف لا يسمح بتحميل العميل اي عبء لحراستها أو تقاسمه معه بحيث يتحمل بعض وزر فقدها، فالعبء الأكبر يجب ان يكون على عاتق الأقوى وهو ما يتحقق يجعل التزام المصرف بتحقيق نتيجة.
هذا فيما يخص إثبات الخطأ في ركن المسؤولية اما ما يتعلق بركن الضرر فإن إثباته يقع على عاتق العميل في عقد الخزائن الخاصة( ).
وتكتسي عملية الإثبات هذه صعوبة كبيرة بالنسبة للعميل خاصة في الحالة التي يكون فيها الضرر بنقص محتويات الخزانة كالسرقة( ). أو هلاك الموجودات كليا، إذ سيتعين على المضرور أن يثبت حالة الموجودات وقت السرقة أو الهلاك.
ومكمن الصعوبة يتمثل في تحديد مقدار الضرر عند قيام مسؤولية المصرف، ذلك ان إستعمال الخزانة مقتصر على العميل وهو الذي يعلم بالأشياء الموجودة فيها وقيمتها وأنه يتمتع في إستعمالها بما يعطيه له السر المصرفي من ميزات، وبإعتبار أن المسؤولية عقدية فإن مقدار التعويض يتحدد بالضرر الحاصل.
وتبعا لذلك سيكون على العميل أن يقدم الدليل الكافي على كل ما يدعيه( ) ذلك أن الفقه، تؤيده بعض احكام القضاء، لا يعتبر كافيا ما يدلي به العميل وحده عن قيمة الموجودات،
وحتى لو تم العثور على السارق في حالة السرقة فإن إعترافه ليس له إلا قيمة نسبية( ). ويرى الفقه أن العميل يمكنه أن يستعمل كافة طرق الإثبات( ) ذلك أن الأمر يتعلق بإثبات واقعة( ). وفي الحالة التي يستحيل فيها تقدير قيمة الأشياء بأية طريقة يمكن للقاضي أن يوجه للمدعي اليمين المتممة، غير أن ذلك مشروط بوجود بداية دليل، أي ألا تكون الدعوى خالية من اي دليل( ).
وحتى في هذه الحالة فإن الأمر لا يخلو من صعوبة، إذ أن شروط توجيه اليمين قد لا تتوفر مع تطلب وجود بداية دليل مما يتعذر على العميل( ).
وتوجد إشكالية أكبر تجعل من تحديد قيمة الضرر أكثر صعوبة وهي التي تقوم في الحالة التي تكون فيها الخزانة مشتركة وتستعمل من عدة أشخاص ففي حالة السرقة مثلا بإمكان المصرف أن يتمسك بأن السرقة قد تمت من أحد مستعملي الخزانة( ).
والواقع أن الميزة التي يحظى بها مستعمل الخزانة – فردا كان أو مجموعة – في الإستقلال بإستعمال الخزانة بحرية وسرية يقابلها عيب لا يظهر إلا عند الحاجة لتقدير قيمة ما تحتويه الخزانة في حالة قيام المسؤولية، ولا يبدو أن هناك حل لهذه المشكلة، إذ أن أي محأولة لإعداد دليل مسبق بالمحتويات تكون له حجية سينتقص بدون شك من الميزات التي يعطيها هذا العقد للعميل.
ونخلص للقول بأن مسؤولية المصرف النابعة من إخلاله بإلتزامه بالحفظ في عقد الخزائن تنبني على خطأ مفترض في جانبه عند وقوع الضرر تبعا لإعتبار أن التزامه بالمحافظة والأمان هو التزام بتحقيق نتيجة، غير انه يقع على العميل المتضرر أن يثبت قيمة الضرر الذي لا يكون سهلا في كل الأحوال. أمام هذا التشديد في مسؤولية المصرف( ) بوصفه محترفا يلتزم بواجبات خاصة تفرضها أصول مهنته فإن عادة ما يحرص على تضمين عقد الخزائن بعض الشروط التي يمكن أن تستبعد مسؤوليته أو تخفيفيها عند قيامها بالنظر إلى أن الفكاك من هذه المسؤولية لا يكون إلا في حالة القوة القاهرة فإلى أي مدى يمكنه ذلك؟
ثانيا حدود مسؤولية المصرف:
إذا ما توافرت أركان مسؤولية المصرف فإن سبيله الوحيد لدفعها هو محأولة قطع علاقة السببية بين خطأه المفترض والضرر الحاصل وذلك بنسبة الضرر إلى سبب اجنبي وهو القوة القاهرة بالتحديد وهو ما يجعلنا نبحث في بند أول دفع المسؤولية لنركز في البند الثاني عما يمكن أن يحتاط له المصرف عند إنعقاد العقد ويضعه من شروط لاستبعاد المسؤولية أو تحديدها.
__________________
لا الـــــــــــه إلا الله
if you fail to plan you plan to fail
كلنا نملك القدرة علي إنجاز ما نريد و تحقيق ما نستحق
محمد عبد الحكيم