![]() |
مشاركة: لماذا تقدم اليهود وتفوقوا علي المسلمين
* * * ونكتفي في هذا الفصل بهذه الأمثلة الثلاثة من مغالبة الفطرة للواقع، وانتفاضها من تحت الركام والانقاض، وانتصارها على الواقع الخارجي الذي أنشأته الجاهليات... وهي تمثل واقع العقيدة والتصور. وواقع الأوضاع والتقاليد... وواقع الاقتصاد والتعامل... وهي اقوى ألوان "الواقع" الذي يراه من لا يدركون قوة العقيدة، وقوة الفطرة، وكأنه هو الحقيقة الساحقة التي لا قبل بها لفطرة ولا عقيدة!. ان الاسلام لم يقف مستسلما عاجزاً مكتوف اليدين امام هذا "الواقع" ولكنه ألغاه، أو بدله، وأقام مكانه بناءه السامق الفريد، على أساسه القوي العميق. وما حدث مرة يمكن ان يحدث مرة اخرى. فقد حدث ما حدث وفق سنة جارية، ولا وفق معجزة خارقة. وقد قام ذلك البناء على رصيد الفطرة المدخر لكل من يستنقذ هذا الرصيد، ويجمعه ، ويوجهه، ويطلقه في اتجاهه الصحيح. والبشرية اليوم قد تكون أقدر على هذا الاتجاه الصحيح، بما استقر في تاريخها وفي حياتها من آثار ذلك المد الأول، الذي واجه أقسى المعارضة. ثم انساح في طريقه، وخلف من بعده أعمق الآثار… |
مشاركة: لماذا تقدم اليهود وتفوقوا علي المسلمين
رصيد التجـربة عندما واجه الإسلام البشرية - أول مرة - كان يواجه هذا الواقع برصيد الفطرة وحده. كان رصيد الفطرة مع هذا الدين، على الرغم من الأجيال الطويلة التي انقضت وهي تراكم فوقه انقاض الواقع الجاهلي العريض... ولكن انتفاض الفطرة كان اقوى من كل ذلك الركام؛ وكانت استجابة الفطرة كافية لنفض ذلك الركام. وكانت تلك الفترة العجيبة. وكانت تلك القمة السامقة، وكان ذلك الجيل الفارع. وكانت تلك المنارة الوضيئة... كانت - كما قلنا- قدراً من أقدار الله - وتدبيرا من تدبيره، لتتجسم هذه الصورة الفريدة، في أوضاع حياة واقعية، يمكن - فيما بعد- الرجوع اليها في صورتها الواقعية، ومحاولة تكرارها على مدى الزمن، بقدر ما تتهيأ لها البشرية!. إنها لم تكن ثمرة طبيعية لبيئتها - وقتذاك- ولكنها كانت ثمرة الرصيد المتجمع للفطرة؛ عندما وجدت المنهج والقيادة والتربية والحركة التي تجمع هذا الرصيد وتدفعه هذه الدفعة القوية ... ولكن البشرية - بجملتها - لم تكن قد تهيأت بعد للاستقامة طويلاً على تلك القمة السامقة. التي تسنمتها تلك الجماعة المختارة على عين الله... فلما انساح الاسلام في مشارق الأرض ومغاربها بتلك السرعة العجيبة التي لم يعرف لها التاريخ نظيراً، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وأصبحت كثرة الأمة الإسلامية ليست هي التي تلقت تلك التربية الفريدة العميقة البطيئة التي تلقتها الجماعة المختارة. لما وقع هذا كله أخذ ضغط الرواسب الجاهلية في نفوس الجماهير الغفيرة، والكثرة الكاثرة في جموع الأمة التي دانت للإسلام "يثـقـل" ويجذب الجسم كله من تلك القمة السامقة، إلى الأرض المستوية!. الجسم الذي لا يرفعه الى تلك القمة السابقة إلا الوثبة الكبرى، التي وثبتها تلك الجماعة المختارة. بدفعة التربية الفريدة العميقة البطيئة، التي جمعت رصيد الفطرة وأطلقته في هذا الاتجاه البعيد!. ومن ثم استوى المجتمع المسلم - قرابة الف عام - لا على تلك القمة السامقة؛ ولكن في مستويات متفاوتة، كلها أرفع من مستويات المجتمعات الأخرى في ارجاء الأرض، وذلك مع استمداد تلك المجتمعات من ذلك المجتمع الرفيع، كما شهد التاريخ المنصف . وما أقل التاريخ المنصف!. * * * |
مشاركة: لماذا تقدم اليهود وتفوقوا علي المسلمين
* * * تلك الوثبة الكبرى الفريدة في تاريخ البشرية، وهذه الألف عام من المستويات الرفيعة... لم تذهب كلها سدى، ولم تتبدد من عالم الحياة ضياعاً، ولم تترك البشرية بعدها كما تسلمتها من قبل. كلا! فليس ذلك من سنة الله في الحياة والناس. فالبشرية وحده متماسكة على مدار الزمان، وجسم البشرية جسم حي؛ ينتفع بزاد التجارب، ويدخر رصيد المعرفة، ومهما تجمع فوقه ركام الجاهلية التي ارتدت اليها البشرية؛ ومهما ران عليها العمى والظلام؛ فان الرصيد باق مكنون، بل هو سار في الجسم على العموم!. وإذا كانت الدعوة الى الاسلام في المرة الأولى، لم تجد الا رصيد الفطرة تواجه به واقع البشرية (وذلك دون ان نغفل الرصيد الضئيل المتبقى كالذبالة من بقايا الرسالات الأولى التي كانت رسالات في اقوام، ولم تكن للبشر كافة كالإسلام) فانها اليوم تجد الى جانب رصيد الفطرة المكنون، رصيد الموجة الأولى لهذا المنهج الإلهي في حياة البشرية جمعاء - من آمن بالاسلام، ومن دخل في حكم الاسلام، ومن تأثر على البعد بالمد الإسلامي العريض - كما تجد رصيد التجارب البشرية المريرة، التي عانتها في التيه، حين بعدت عن الله، وعانت في ذلك التيه مرارة الحياة!. والمبادئ والتصورات، والقيم والموازين، والنظم والأوضاع، التي واجه بها الاسلام البشرية اول مرة وليس معه الا رصيد الفطرة فأنكرتها اشد الانكار؛ وتنكرت لها كل التنكر، وقاومتها كل المقاومة، لأنها - يومذاك - كانت غريبة كل الغرابة، وكانت المسافة بينها وبين واقعها سحيقة هائلة... هذه المبادئ والتصورات، والقيم والموازين، والأنظمة والأوضاع، قد استقرت في حياة جماعة من البشر - وهي في صورتها الكاملة - فترة من الزمان، ثم استقرت في حياة العالم الاسلامي العريض - في مستويات متفاوتة - فترة طويلة اخرى. ثم عرفت في حياة الجماعة البشرية كلها تقريباً، خلاف نيف وثلاثمئة وألف عام... عرفت على الأقل دراسة ورؤية وفرجة! ان لم تعرف مزاولة وعملاً وتجربة! ومن ثم لم تعد غريبة - على البشرية- كما كانت يوم جاءها بها الاسلام اول مرة. ولم تعد منكرة في حسها وعرفها كما كانت يومذاك!. حقيقة ان البشرية لم تتذوقها قط، كما تذوقتها الجماعة المختارة، وفي تلك الفترة الفريدة. وحقيقة أنها حين حاولت تطبيق بعضها في أزمنة متفاوتة- بما في ذلك العصر الحديث- لم تدرك روحها فقط، ولم تطبقها بهذه الروح. وحقيقة إنها - حتى اللحظة - ما تزال تطلع وهي تدرج في المرتقى الذي وثبت اليه الجماعة المسلمة الأولى.. كل هذا صحيح . ولكن البشرية بجملتها - من الناحية التصورية الفكرية - قد تكون اقرب الى ادراك طبيعة ذلك المنهج، وأقدر على حمله كذلك - منها يوم جاءها أول مرة، غريباً عليها كل الغرابة. * * * |
مشاركة: لماذا تقدم اليهود وتفوقوا علي المسلمين
* * * والأمثلة المحددة تقرب هذه الحقيقة وتوضحها. ونحن نكتفي بذكر القليل منها دون الاحاطة بها. وذلك لاعتبارين هامين: أولهما: طبيعة هذا البحث المجمل المختصر؛ الذي لا يزيد على ان يكون مجرد اشارات دالة الى عناصر الموضوع الكبير الذي يـتـناوله موضوع "هذا الدين". وثانيهما: أن الخطوط العريضة التي تركتها موجة المد الطويلة لهذا المنهج، في حياة البشرية كلها، وفي انحاء الأرض جميعاً، اكثر عدداً، وأضخم أثراً، وأوسع مساحة، من أن يحيط بها كاتب واحد، في بحث واحد، وفي عصر واحد، فهذه الآثار قد ترسبت في حياة البشرية كلها، منذ ذلك العهد البعيد؛ وشملت حياة البشرية كلها على نطاق واسع، وتأثرت به جوانب قد لا تكون كلها ظاهرة، وقد لا تكون كلها مما سجلته الملاحظة. وانه ليمكن القول - على وجه الاجمال- أن هذه الظاهرة الكونية، التي تجلت على هذا الكوكب الأرضي، وتمت في حياة هذه البشرية... وهي ظاهرة هذا الدين... لم تدع جانباً واحداً من حياة البشرية منذ ذلك التاريخ، الا وتجلت فيه وتركت فيه تأثيراً تتفاوت درجاته، ولكنه واقع لا شك فيه. وان كل حركة من حركات التاريخ الكبرى قد استمدت مباشرة او غير مباشرة من ذلك الحدث الكبير؛ او - بتعبير أصح - من هذه الظاهرة الكونية الضخمة. * * * |
مشاركة: لماذا تقدم اليهود وتفوقوا علي المسلمين
* * * إن حركة الإصلاح الديني، التي قام بها مارتن لوثر وكالفن في أوربا. وحركة الإحياء التي تقتات منها أوربا حتى اليوم- وحركة تحطيم النظام الاقطاعي في أوربا، والانطلاق من حكم الأشراف. وحركة المساواة واعلان حقوق الانسان التي تجلت في الماجنا كارتا في انجلترا والثورة الفرنسية في فرنسا. وحركة المذهب التجريبي التي قام عليها مجد أوربا العلمي، وانبعثت منها الفتوحات العلمية الهائلة في العصر الحديث... وأمثالها من الحركات الكبرى، التي يحسبها الناس أصولاً في التطور التاريخي... كلها قد استمدت من ذلك المد الاسلامي الكبير، وتأثرت به تأثراً أساسياً عميقاً... جاء في كتاب "ضحى الإسلام" للدكتور أحمد أمين: "ظهر بين النصارى نزعات يظهر فيها أثر الاسلام - من ذلك انه في القرن الثامن الميلادي - أي في القرنين الثاني والثالث الهجريين- ظهرت في سبتمانيا (Septmania) حركة تدعو إلى إنكار الاعتراف أمام القسس وأن ليس للقسس حق في ذلك؛ وأن يضرع الإنسان إلى الله وحده في غفران ما ارتكب من إثم. والاسلام ليس له قسيسون ورهبان وأحبار. فطبيعي ألا يكون فيه اعتراف!. وكذلك قامت حركة تدعو إلى تحطيم الصور والتماثيل الدينية (Iconoclasts). ذلك أنه في القرن الثامن والتاسع للميلاد- أي في القرن الثالث والرابع الهجري- ظهر مذهب نصراني يرفض تقديس الصور والتماثيل. فقد أصدر الامبراطور الروماني "ليو" الثالث أمراً سنة 726م يحرم فيه تقديس الصورة والتماثيل، وأمراً آخر في سنة 730 يعد الاتيان بهذا وثنية. وكذلك كان قسطنطين الخامس وليو الرابع. على حين كان البابا "جريجورى الثاني والثالث" و "جرمانيوس" بطريرك القسطنطينية، والإمبراطورة "ايرينى" من مؤيدي عبادة الصورة. وجرى بين الطائفتين نزاع شديد؛ لا محل لتفصيله. وكل ما نريد أن نذكره ان بعض المؤرخين يذكرون ان الدعوة الى نبذ الصور والتماثيل كانت متأثرة بالاسلام. ويقولون ان كلوديوس (Cloudius) أسقف تورين (الذي عين سنة 828م وحول 213هـ) والذي كان يحرق الصور والصلبان، وينهي عن عبادتها في أسقفيتة ولد وربى في الأندلس الاسلامية.. ... "كذلك وجدت طائفة من النصارى، شرحت عقيدة التثليث بما يقرب من الوحدانية، وانكرت ألوهية المسيح". * * * |
مشاركة: لماذا تقدم اليهود وتفوقوا علي المسلمين
* * * وحينما عادت جيوش الصليبيين المتبربرة مرتدة عن الشرق الاسلامي في القرن الحادي عشر الميلادي، عادت ومعها صورة من حياة المجتمع الاسلامي. وعلى كل ما كان قد وقع من الانحرافات في هذا المجتمع، فإن الظاهرة البارزة فيه - بالقياس إلى ذلك القطيع الصليبي المتبربر- كانت ظاهرة الشريعة الواحدة، التي يخضع لها الحاكم والمحكوم؛ والتي لا تستمد من إرادة الشريف أو هوى صاحب الإقطاعية - كما كان الحال في أوربا؛ وظاهرة الحرية الشخصية في اختيار نوع العمل ومكان الإقامة، وظاهرة الملكية الفردية وحرية الاستثمار، وظاهرة انعدام الطبقية الوراثية واستطاعة كل فرد في أي وقت أن يرتفع بدرجته في المجتمع وفق جده واجتهاده وعمله. هذه الظواهر البارزة، التي لا تخطئها عين الأوربي الذي كان يعيش في نظام الاقطاع، رقيقاً للأرض، قانونه هو ارادة السيد، وطبقته حتمية لأن "الشرف" وراثي!. ومن هنا - بمساعدة العوامل الاقتصادية الأخرى في حياة المجتمع الأوربي- انطلقت الصيحات التي حطمت النظام الاقطاعي تدريجياً؛ وأعلنت تحرير الأفراد من رق الأرض. وان لم تحررهم من سائر القيود الأخرى. ولم ترفع مجتمعهم الى مستوى المجتمع الاسلامي! * * * |
مشاركة: لماذا تقدم اليهود وتفوقوا علي المسلمين
* * * ونكتفي بهذا القدر من الآثار الواقعية للمنهج الاسلامي وللحياة الاسلامية، في تاريخ البشرية، وفي الحركات العالمية الكبرى. نكتفى بهذا القدر بوصفه مجرد اشارة الى هذه الحقيقة الضخمة الممتدة الأطراف التي كثيراً ما ننساها، ونحن نشهد البناء الحضاري الراهن، ويخيل إلينا- في سذاجة وغفلة - أنه لا نصيب لنا فيه، ولا أثر لنا في نشأته؛ وأنه شيء أضخم منا ومن تاريخنا الذي نجهله مع الأسف الشديد، ثم نتلقاه من أفواه أعدائنا؛ الذين لا هم لهم الا ان يملأوا قلوبنا باليأس من امكان الحياة الاسلامية، وفق المنهج الاسلامي. وهم أصحاب مصلحة في هذا اليأس؛ لأنه يؤمنهم من الكرة عليهم، ومن استرداد زمام القيادة العالمية منهم... فما بالنا نحن نرى يا ترى نتلقف ما يقولونه، ونردده كالببغاوات والقرود؟ وعلى أي حال فهذا ليس موضوعنا هنا. إنما نحن نمهد بهذه الاشارة إلى إشارة اخرى نحو الخطوط العريضة التي خطها المد الاسلامي الأول، وعرفها للبشرية؛ فأصبحت البشرية اليوم أقدر على ادراكها وتصورها. وهي الرصيد الجديد الذي يضاف إلى رصيد الفطرة القديم!. |
مشاركة: لماذا تقدم اليهود وتفوقوا علي المسلمين
خُطُـوط مُسْتَقِـرة عندما انحسرت موجة المد الاسلامي العالية عن هذه الأرض؛ وحينما استردت الجاهلية زمام القيادة، التي كان الإسلام قد انتزعها منها؛ وعندما عاد الشيطان ينفض غبار المعركة عن كاهله، وينهض من عثرته، ويهتف لحزبه الذي عاد يتسلم الزمامَ!. عندما حدث هذا كله لم ترتد حياة البشرية تماماً إلى أوضاعها المتخلفة في الجاهلية الأولى... لقد كان الإسلام هناك - حتى وهو يتراجع عن مكان الصدارة في الأرض - وكانت هنالك من ورائه خطوط عريضة، ومبادئ ضخمة، قد استقرت في حياة البشرية، وصارت مألوفة للناس، وزالت عنها الغرابة التي استقبلوها بها يوم جاءهم بها الاسلام اول مرة. هذه الخطوط العريضة، وهذه المبادئ الضخمة هي التي سنحاول الإشارة إلى نماذج قليلة منها في هذا الفصل على سبيل الاجمال. * * * |
مشاركة: لماذا تقدم اليهود وتفوقوا علي المسلمين
* * * إنسانية واحدة : من العصبية القبلية، بل عصبية العشيرة، بل عصبية البيت، التي كانت تسود الجزيرة العربية... ومن عصبية البلد، وعصبية الوطن؛ وعصبية اللون؛ وعصبية الجنس.. التي كانت تسود وجه الأرض كله ... من هذه العصبيات الصغيرة التي لم تكن البشرية تتصور غيرها في ذلك الزمان، جاء الاسلام ليقول للناس: إن هناك انسانية واحدة، ترجع إلى أصل واحد، وتتجه إلى إله واحد. وإن اختلاف الأجناس والألوان، واختلاف الرقعة والمكان، واختلاف العشائر والآباء... كل أولئك لم يكن، ليتفرق الناس ويختصموا، ويتحوصلوا وينعزلوا. ولكن ليتعارفوا ويتآلفوا؛ وتتوزع بينهم وظائف الخلافة في الأرض؛ ويرجعوا بعد ذلك الى الله الذي ذرأهم في الأرض واستخلفهم فيها. وقال لهم الله سبحانه في القرآن الكريم: " يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. ان اكرمكم عند الله اتقاكم. ان الله عليم خبير" (الحجرات:13) " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام. إن الله كان عليكم رقيباً "... (النساء:1) " ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف السنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين".. (الروم: 22) ولم تكن هذه مبادئ نظرية؛ ولكنها كانت أوضاعاً عملية.. لقد انساح الإسلام في رقعة من الأرض فسيحة؛ تكاد تضم جميع الأجناس وجميع الألوان... وذابت كلها في النظام الإسلامي. ولم تقف وراثة لون، ولا وراثة جنس، ولا وراثة طبقة، ولا وراثة بيت، دون أن يعيش الجميع إخواناً؛ ودون ان يبلغ كل فرد منهم ما تؤهله له استعداداته الشخصية. وما تكفله له صفته الانسانية. واستقر هذا الخط العريض في الأرض؛ بعد أن كان غريباً فيها أشد الغرابة، ومستنكراً فيها كل الاستنكار.. وحتى بعد انحسار المد الاسلامي لم تستطع البشرية ان تتنكر له كل التنكر؛ ولم تعد تستغربه كل الاستغراب… حقيقة: أنها لم تستطع أن تتمثله كما تمثلته الجماعة المسلمة؛ ولم يستقر فيها استقراره في المجتمع الإسلامي. وحقيقة: إن عصبيات شتى صغيرة ما تزال تعيش، عصبيات الأرض والوطن. وعصبيات الجنس والقوم. وعصبيات اللون والسان. وحقيقة: إن الملونين في أمريكا وجنوب افريقيا يؤلفون مشكلة حادة بارزة، كما يؤلفون مشكلة ناعمة مستترة في أوربا كلها!. ولكن فكرة الانسانية الواحدة ما تزال خطاً عريضاً في هتافات البشرية اليوم؛ وما يزال هذا الخط الذي خطه الإسلام هو أصل التفكير البشري - من الناحية النظرية- وما تزال تلك العصبيات الصغيرة تبزغ وتختفي؛ لأنها ليست أصيلة ولا قويمة!. لقد انحسر المد الاسلامي الأول، الذي استمد من رصيد الفطرة وحده ما خط به هذا الخط العريض... ولكنه ترك للمد التالي رصيد الفطرة ورصيده الذاتي. لتستمد منه الجولة القادمة. والبشرية أكثر إدراكاً، وأكثر استعداداً، وقد زالت عنها دهشة المفاجأة بهذا الخط الجديد!!. * * * |
مشاركة: لماذا تقدم اليهود وتفوقوا علي المسلمين
* * * انسانية كريمة: وجاء الإسلام والكرامة الإنسانية وقف على طبقات معينة، وعلى بيوت خاصة، وعلى مقامات معروفة.. أما الغثاء. غثاء الجماهير. فهو غثاء! لا وزن له ولا قيمة، ولا كرامة! غثاء!!!. وقال الإسلام كلمته المدوية: إن كرامة الانسان مستمدة من "إنسانيته" ذاتها لا من أي عرض آخر كالجنس، أو اللون، او الطبقة، او الثروة، أو المنصب ... إلى آخر هذه الأعراض العارضة الزائلة... والحقوق الأصيلة للإنسان مستمدة إذن من تلك الانسانية. التي ترجع إلى أصل واحد كما أسلفنا. وقال لهم الله في القرآن الكريم: " ولقد كرمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً ". (الإسراء: 70) " وإذ قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة " (البقرة: 30) " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ". (البقرة:34) " وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه " (الجاثية: 13) وعلم الناس منذئذ: أن الإنسان - بجنسه - كريم على الله، وأن كرامته ذاتية أصيلة؛ لا تتبع جنسه، ولا لونه، ولا بلده، ولا قومه، ولا عشيرته، ولا بيته. ولا عرضاً من هذه الأعراض الزائلة الرخيصة . انما تتبع كونه انساناً من هذا الجنس الذي أفاض عليه ربه التكريم. ولم تكن هذه مبادئ نظرية، إنما كانت واقعاً عملياً، تمثل في حياة الجماعة المسلمة، وانساحت به في أرجاء الأرض، فعلمته للناس، وأقرته في أوضاع حياتهم كذلك. وعلمت جمهور الناس... ذلك الغثاء... أنه كريم، وأن له حقوقاً، هي حقوق الانسان، وأن له أن يحاسب حكامه وأمرائه، وأن عليه ألا يقبل الذل والضيم والمهانة، وعلمت الحكام والأمراء ألا تكون لهم حقوق زائدة على حقوق الجماهير من الناس، وأنه ليس لهم أن يهينوا كرامة أحد ممن ليس بحاكم ولا أمير. وكان هذا ميلاداً جديداً "للإنسان"... ميلاداً أعظم من الميلاد الحسي... فما الانسان اذا لم تكن له حقوق الانسان وكرامة الإنسان؟ وإذا لم تكن الحقوق متعلقة بوجوده ذاته وبحقيقته التي لا تتخلف عنه في حال من الأحوال؟ بدأ أبو بكر - رضي الله عنه - عهده بقوله: " لقد وليت عليكم ولست بخيركم. فإن أحسنت فأعينوني. وإن أسأت فقوموني. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله. فان عصيته فلا طاعة لي عليكم "... وخطب عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - فقال يعلم الناس حقوقهم تجاه الأمراء: " يا أيها الناس. إني والله ما أرسل إليكم عمالاً ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا من اموالكم، ولكني أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم. فمن فعل به شيء من ذلك فليرفعه الى. فوالذي نفس عمر بيده لأقصنه منه..." فوثب عمرو بن العاص فقال: " يا أمير المؤمنين أرأيتك ان كان رجل من أمراء المسلمين على رعيته، فأدب بعض رعيته. إنك لتقص منه؟". " قال عمر: أي والذي نفس عمر بيده. إذا لأقصنه منه. وكيف لا أقص منه. وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقص من نفسه. ألا لا تضربوا الناس فتذلوهم. ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم" وكتب عثمان - رضي الله عنه- إلى جميع الأمصار كتاباً قال فيه: " إني آخذ عمالي بموافاتي كل موسم وقد سلطت الأمة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فلا يرفع علىَّ شيء ولا على احد من عمالي إلا أعطيته. وليس لي ولا لعمالي حق قبل الرعية لا متروك لهم. وقد رفع إلى اهل المدينة أن أقواماً يشتمون ويضربون. فمن ادعى شيئاً من ذلك فليواف الموسم، يأخذ حقه حيث كان، مني او من عمالي. أو تصدقوا، ان الله يجزي المتصدقين". والمهم - كما أسلفنا- أن هذه لم تكن مجرد مبادئ نظرية؛ أو مجرد كلمات تقال. فقد طبقت تطبيقاً واقعياً؛ وسرت في أوساط الشعوب حتى اتخذت قاعدة للأوضاع العملية. وحادثة ابن القبطي الذي سابق ابن عمرو بن العاص، فاتح مصر وواليها فسبقه فضربه ابن عمرو، فشكا أبوه الى عمر بن الخطاب - رضى الله عنه- فأقصه منه في موسم الحج وعلى ملأ من الناس... حادثة معروفة. وقد اعتاد الكتاب ان يقفوا فيها عند عدل عمر.. ولكن الحادثة اوسع دلالة على ذلك التيار التحرري الذي أطلقه الإسلام في ضمائر الناس وفي حياتهم. فمصر اذا ذاك بلد مفتوح، حديث عهد بالفتح وبالاسلام. وهذا القبطي لم يزل على دينه، فرداً من جماهير البلد المفتوح. وعمرو بن العاص هو فاتح هذا الإقليم، وأول أمير من قِبل الإسلام... وحكام هذا الاقليم قبل الفتح الإسلامي هم الرومان: أصحاب السياط التي تجلد ظهور شعوب المستعمرات! ولعل ذلك القبطي كان ما يزال ظهره يحمل آثار سياط الرومان!. ولكن المد التحرري الذي أطلقه الإسلام في أنحاء الأرض، أنسى ذلك القبطي سياط الرومان وذلها، وأطلقه إنساناً حراً كريماً؛ يغضب لأن يضرب ابن الأمير ابنه، بعد اشتراكهما في سباق، وهذه أخرى، ثم تحمله هذه الغضبة لكرامة ابنه الجريحة على ان يركب من مصر الى المدينة، لا طيارة ولا سيارة ولا باخرة ولا قطاراً، ولكن جملاً ، يخب به ويضع الأشهر الطوال، كل ذلك ليشكو إلى الخليفة... الخليفة الذي حرره يوم فتح بلده تحت راية الإسلام! والذي علمه الكرامة بعد ان نسيها تحت وقع سياط الرومان!. وهكذا ينبغي أن نفهم، وأن ندرك عمق المد الإسلامي التحرري فليست المسألة فقط أن عمر عادل؛ وأن عدله لا تتطاول إليه الأعناق في جميع الأزمان ولكن المسألة بعد ذلك أن عدل عمر - المستمد من الإسلام ومنهجه ونظامه- قد انطق في الأرض تياراً جارفاً محرراً مكرماً للإنسان... بصفته "الإنسان"... هذا المستوى الرفيع لم ترتفع إليه الإنسانية قط. هذا صحيح... ولكن هذا الخط العريض الذي خطه الإسلام، في كرامة الانسان وحريته وحقوقه تجاه حكامه وأمرائه، قد ترك في حياة البشرية آثاراً لا شك فيها، وبعض هذه الآثار هو الذي يدفع بالبشرية اليوم إلى إعلان "حقوق الانسان".. وحقيقة ان هذا الإعلان لم يأخذ طريقه الواقعي في حياة البشرية. وحقيقة أن "الانسان" ما يزال يلقى المهانة والإذلال والتعذيب والحرمان في شتى انحاء الأرض. وحقيقة أن بعض المذاهب تجعل مقام الإنسان دون مقام الآلة وتقتل حرية الانسان وكرامته وخصائصه العليا في سبيل وفرة الانتاج ومضاعفة الدخل، والتفوق في الأسواق!. كل هذا صحيح. ولكن هذا الخط ما يزال قائماً في مدارك البشرية وتصوراتها. ولم يعد غريباً عليها كما كان يوم جاءها الإسلام. وهي اليوم أقدر على ادراكه وتصوره، حينما تخاطب به في الجولة القادمة بإذن الله. |
الساعة الآن 09:08 AM |
Powered by Nile-Tech® Copyright ©2000 - 2025