|
الوحدة
الأولى آياتها : 1 - 29 موضوعها : أصناف البشر
الثلاثة ودعوة إلى الإنحياز للمؤمنين
|
|
|
الدرس الثامن:26 - 27 اختلاف أثر
الأمثال القرآنية على المؤمنين والكافرين |
|
| ملاحظة: للعودة الى هذا الفهرس اضغط Home | |
الوحدة
الأولى آياتها : 1 - 29 موضوعها : أصناف البشر
الثلاثة ودعوة إلى الإنحياز للمؤمنين
في هذا المقطع ، الذي يكون افتتاح السورة
الكبيرة ، نجد الملامح الأساسية للطوائف التي
واجهتها الدعوة في المدينة باستثناء طائفة
اليهود التي ترد إشارة صغيرة لها ، ولكنها
كافية ، فإن تسميتهم بشياطين المنافقين تشير
إلى الكثير من صفاتهم ، ومن
حقيقة دورهم ، حتى يرد التفصيل الكامل بعد
قليل .
وفي
رسم هذه الملامح نجد خصائص التعبير القرآنية
، التي تتجلى في قيام الكلمة مقام الخط واللون
، إذ سرعان ما ترتسم الصور من خلال الكلمات ؛
ثم سرعان ما تنبض هذه الصور وكأنها تموج
بالحياة . .
وهنا
. . في عدد قليل من الكلمات والعبارات في أول
السورة ترتسم ثلاث صور لثلاثة أنماط من
النفوس . كل نمط منها نموذج حي لمجموعات ضخمة
من البشر . نموذج أصيل عميق متكرر في كل زمان
ومكان . حتى ما تكاد البشرية كلها في جميع
أعصارها وأقطارها تخرج عن تلك الأنماط
الثلاثة . . وهذا هو الإعجاز . .
في
تلك الكلمات القلائل والآيات المعدودات
ترتسم هذه الصور واضحة كاملة ، نابضة بالحياة
، دقيقة السمات ، مميزة الصفات . حتى ما يبلغ
الوصف المطول والإطناب المفصل شيئا وراء هذه
اللمسات السريعة المبينة ، الجميلة النسق ،
الموسيقية الإيقاع .
فإذا
انتهى السياق من عرض هذه الصور الثلاث دعا
الناس . . الناس جميعا . . إلى الصورة الأولى ؛
وناداهم . .
ناداهم كافة . . أن يفيئوا إليها . أن يفيئوا
إلى عبادة الله الواحد ، والخالق الواحد ،
والرازق الواحد ، بلا شركاء ولا أنداد . وتحدى
الذين يرتابون في رسالة النبي
[ ص ] وتنزيل الكتاب عليه أن يأتوا بسورة
من مثله . وأنذرهم إذا تولوا عذابا مفزعا
مرهوبا ؛ وبشر المؤمنين وصور ما ينتظرهم من
نعيم مقيم .
ثم
أخذ يرد على اليهود والمنافقين الذين
استنكروا ضرب الله للأمثال في القرآن ،
واتخذوا منه وسيلة للتشكيك في أنه منزل من عند
الله . وحذرهم ما وراء ضرب الأمثال ، أن يزيدهم
ضلالا - كما يزيد المؤمنين هدى - ثم استنكر أن
يكفروا بالله المحيي المميت الخالق المدبر ،
العليم
بكل شيء في هذا الوجود ، وهو الذي أنعم على
البشر فخلق لهم ما في الأرض جميعا واستخلفهم
في هذا الملك الطويل العريض .
تلك
مجمل الخطوط الرئيسية في هذا الدرس الأول من
سورة البقرة . فلنحاول أن نتناول هذا الإجمال
بشيء من التفصيل .
الدرس
الأول:1 - 5 صفات المتقين
تبدأ السورة بهذه الأحرف الثلاثة المقطعة:"ألف
. لام . ميم" . يليها الحديث عن كتاب الله:
ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدى للمتقين
. .
ومثل
هذه الأحرف يجيء في مقدمة بعض السور القرآنية
. وقد وردت في تفسيرها وجوه كثيرة . نختار منها
وجها . إنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب
مؤلف من جنس هذه الأحرف ، وهي في متناول
المخاطبين به من العرب . ولكنه - مع هذا - هو ذلك
الكتاب المعجز ، الذي لا يملكون أن يصوغوا من
تلك الحروف مثله . الكتاب الذي يتحداهم مرة
ومرة ومرة أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله ،
أو بسورة من مثله فلا يملكون لهذا التحدي
جوابا !
والشأن
في هذا الإعجاز هو الشأن في خلق الله جميعا .
وهو مثل صنع الله في كل شيء وصنع الناس . . أن
هذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة
الصفات . فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما
يصوغونه منها لبنة أو آجرة ، أو آنية أو
اسطوانة ، أو هيكل أو جهاز . كائنا في دقته ما
يكون . . ولكن الله المبدع يجعل من تلك الذرات
حياة . حياة نابضة خافقة . تنطوي على ذلك السر
الإلهي المعجز . . سر الحياة . . ذلك السر الذي
لا يستطيعه بشر ، ولا يعرف سره بشر . . وهكذا
القرآن . . حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما
وأوزانا ، ويجعل منها الله قرآنا وفرقانا ،
والفرق بين صنع البشر وصنع الله من هذه الحروف
والكلمات ، هو الفرق ما بين الجسد الخامد
والروح النابض . . هو الفرق ما بين صورة الحياة
وحقيقة الحياة !
ذلك
الكتاب لا ريب فيه
. .
ومن
أين يكون ريب أو شك ؛ ودلالة الصدق واليقين
كامنة في هذا المطلع ، ظاهرة في عجزهم عن
صياغة مثله ، من مثل هذه الأحرف المتداولة
بينهم ، المعروفة لهم من لغتهم ؟
ذلك
الكتاب لا ريب فيه . . هدى للمتقين
. .
الهدى
حقيقته ، والهدى طبيعته ، والهدى كيانه ،
والهدى ماهيته . . ولكن لمن ؟ لمن يكون ذلك
الكتاب هدى ونورا ودليلا ناصحا مبينا ؟ . .
للمتقين . . فالتقوى في القلب هي التي تؤهله
للانتفاع بهذا الكتاب . هيالتي تفتح مغاليق
القلب له فيدخل ويؤدي دوره هناك . هي التي تهيء
لهذا القلب أن يلتقط وأن يتلقى وأن يستجيب
.
لا
بد لمن يريد أن يجد الهدى في القرآن أن يجيء
إليه بقلب سليم . بقلب خالص . ثم أن يجيء إليه
بقلب يخشى ويتوقى ، ويحذر أن يكون على ضلالة ،
أو أن تستهويه ضلالة . . وعندئذ يتفتح القرآن
عن أسراره وأنواره ، ويسكبها في هذا القلب
الذي جاء إليه متقيا ، خائفا ، حساسا ، مهيأ
للتلقي . . ورد أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له:أما سلكت
طريقا ذا شوك ؟ قال بلى ! قال:فما عملت ؟ قال:شمرت
واجتهدت . قال:فذلك التقوى . .
فذلك
التقوى . . حساسية في الضمير ، وشفافية في
الشعور ، وخشية مستمرة ، وحذر دائم ، وتوق
لأشواك الطريق . . طريق الحياة . . الذي تتجاذبه
أشواك الرغائب والشهوات ، وأشواك المطامع
والمطامح ، وأشواك المخاوف والهواجس ، وأشواك
الرجاء الكاذب فيمن لا يملك إجابة رجاء
، والخوف
الكاذب ممن لا يملك نفعا ولا ضرا . وعشرات
غيرها من الأشواك !
ثم
يأخذ السياق في بيان صفة المتقين ؛ وهي صفة
السابقين من المؤمنين في المدينة كما أنها
صفة الخلص من مؤمني هذه الأمة في كل حين:
الذين
يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم
ينفقون ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما
أنزل من قبلك ، وبالآخرة هم يوقنون
. .
إن
السمة الأولى للمتقين هي الوحدة الشعورية
الإيجابية الفعالة . الوحدة التي تجمع في
نفوسهم بين الإيمان بالغيب ، والقيام
بالفرائض ، والإيمان بالرسل كافة ، واليقين
بعد ذلك بالآخرة . . هذا التكامل الذي تمتاز به
العقيدة الإسلامية ، وتمتاز به النفس المؤمنة
بهذه العقيدة
، والجدير بأن تكون عليه العقيدة الأخيرة
التي جاءت ليلتقي عليها الناس جميعا ،
ولتهيمن على البشرية جميعا ، وليعيش الناس في
ظلالها بمشاعرهم وبمنهج حياتهم حياة متكاملة
، شاملة للشعور والعمل ، والإيمان والنظام
.
فإذا
نحن أخذنا في تفصيل هذه السمة الأولى للمتقين
إلى مفرداتها التي تتألف منها ، انكشفت لنا
هذه المفردات عن قيم أساسية في حياة البشرية
جميعا . .
الذين
يؤمنون بالغيب . .
فلا تقوم حواجز الحس دون الاتصال بين أرواحهم
والقوة الكبرى التي صدرت عنها ، وصدر عنها هذا
الوجود ؛ ولا تقوم حواجز الحس بين أرواحهم
وسائر ما وراء الحس من حقائق وقوى وطاقات
وخلائق وموجودات .
والإيمان
بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان ،
فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما
تدركه حواسه ، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن
الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير
المحدد الذي تدركه الحواس - أو الأجهزة التي
هي امتداد للحواس - وهي نقلة بعيدة الأثر في
تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة
وجوده الذاتي ، ولحقيقة القوى المنطلقة في
كيان هذا الوجود ، وفي إحساسه بالكون وما وراء
الكون من قدرة وتدبير . كما أنها بعيدة الأثر
في حياته على الأرض ؛ فليس من يعيش في الحيز
الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون
الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته ؛ ويتلقى
أصداءه وإيحاءاته في أطوائهوأعماقه ، ويشعر
أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما
يدركه وعيه في عمره القصير المحدود ، وأن وراء
الكون ظاهره وخافيه ، حقيقة أكبر من الكون ،
هي التي صدر عنها ، واستمد من وجودها وجوده . .
حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار
ولا تحيط بها العقول .
وعندئذ
تصان الطاقة الفكرية المحدودة المجال عن
التبدد والتمزق والانشغال بما لم تخلق له ،
وما لم توهب القدرة للإحاطة به ، وما لا يجدي
شيئا أن تنفق فيه . إن الطاقة الفكرية التي
وهبها الإنسان ، وهبها ليقوم بالخلافة في هذه
الأرض ، فهي موكلة بهذه الحياة الواقعة
القريبة ، تنظر
فيها ، وتتعمقها وتتقصاها ، وتعمل وتنتج ،
وتنمي هذه الحياة وتجملها ، على أن يكون لها
سند من تلك الطاقة الروحية التي تتصل مباشرة
بالوجود كله وخالق الوجود ، وعلى أن تدع
للمجهول حصته في الغيب الذي لا تحيط به العقول
. فأما محاولة إدراك ما وراء الواقع بالعقل
المحدود الطاقة بحدود هذه الأرض والحياة
عليها ، دون سند من الروح الملهم والبصيرة
المفتوحة ، وترك حصة للغيب لا ترتادها العقول
. . فأما هذه المحاولة فهي محاولة فاشلة أولا ،
ومحاولة عابثة أخيرا . فاشلة لأنها تستخدم
أداة لم تخلق لرصد هذا المجال . وعابثه لأنها
تبدد طاقة العقل التي لم تخلق لمثل هذا المجال
. . ومتى سلم العقل البشري بالبديهية العقلية
الأولى ، وهي أن المحدود لا يدرك المطلق ،
لزمه - احتراما لمنطقه ذاته - أن يسلم بأن
إدراكه للمطلق مستحيل ؛ وإن عدم إدراكه
للمجهول لا ينفي وجوده في ضمير الغيب
المكنون
؛ وأن عليه أن يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير
طاقة العقل ؛ وأن يتلقى العلم في شأنه من
العليم الخبير الذي يحيط بالظاهر والباطن ،
والغيب والشهادة . . وهذا الاحترام لمنطق
العقل في هذا الشأن هو الذي يتحلى به المؤمنون
، وهو الصفة الأولى من صفات المتقين
.
لقد
كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء
الإنسان عن عالم البهيمة . ولكن جماعة
الماديين في هذا الزمان ، كجماعة الماديين في
كل زمان ، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقري
. . إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير
المحسوس ! ويسمون هذا "تقدمية " وهو
النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها ، فجعل
صفتهم المميزة ، صفة: الذين
يؤمنون بالغيب والحمد
لله على نعمائه ، والنكسة للمنتكسين
والمرتكسين !
ويقيمون
الصلاة . . فيتجهون
بالعبادة لله وحده ، ويرتفعون بهذا عن عبادة
العباد ، وعبادة الأشياء . يتجهون إلى القوة
المطلقة بغير حدود ويحنون جباههم لله لا
للعبيد ؛ والقلب الذي يسجد لله حقا ، ويتصل به
على مدار الليل والنهار ، يستشعر أنه موصول
السبب بواجب الوجود ، ويجد لحياته غاية أعلى
من أن تستغرق في الأرض وحاجات الأرض ، ويحس
أنه أقوى من المخاليق لأنه موصول بخالق
المخاليق . . وهذا كله مصدر قوة للضمير ، كما
أنه مصدر تحرج وتقوى ، وعامل هام من عوامل
تربية الشخصية ، وجعلها ربانية التصور ،
ربانية الشعور ، ربانية السلوك
.
ومما
رزقناهم ينفقون . .
فهم يعترفون ابتداء بأن المال الذي في أيديهم
هو من رزق الله لهم ، لا من خلق أنفسهم ؛ ومن
هذا الاعتراف بنعمة الرزق ينبثق البر بضعاف
الخلق ، والتضامن بين عيال الخالق ، والشعور
بالآصرة الإنسانية ، وبالأخوة البشرية . .
وقيمة هذا كله تتجلى في تطهير النفس من الشح ،
وتزكيتها بالبر . وقيمتها أنها ترد الحياة
مجال تعاون لا معترك تطاحن ، وأنها تؤمن
العاجز والضعيف والقاصر ، وتشعرهم أنهم
يعيشون بين قلوب ووجوه ونفوس ، لا بين أظفار
ومخالب ونيوب !
والإنفاق
يشمل الزكاة والصدقة ، وسائر ما ينفق في وجوه
البر . وقد شرع الإنفاق قبل أن تشرع الزكاة ،
لأنه الأصل الشامل الذي تخصصه نصوص الزكاة
ولا تستوعبه . وقد ورد في حديث رسول الله
[ ص ] بإسناده لفاطمة بنت قيس
إن في المال حقا سوى الزكاة
. . وتقرير المبدأ على شموله هو المقصود في
هذا النص السابق على فريضة الزكاة
والذين
يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك
. . وهي الصفة اللائقة بالأمة المسلمة ،
وارثة العقائد السماوية ، ووارثة النبوات منذ
فجر البشرية ، والحفيظة على تراث العقيدة
وتراث النبوة ، وحادية موكب الإيمان في الأرض
إلى آخر الزمان . وقيمة هذه الصفة هي الشعور
بوحدة البشرية ، ووحدة دينها ، ووحدة رسلها ،
ووحدة معبودها . . قيمتها هي تنقية الروح من
التعصب الذميم ضد الديانات والمؤمنين
بالديانات ما داموا على الطريق الصحيح . .
قيمتها هي الاطمئنان إلى رعاية الله للبشرية
على تطاول أجيالها وأحقابها . هذه الرعاية
البادية في توالي الرسل والرسالات بدين واحد
وهدى واحد . قيمتها هي الاعتزاز بالهدى الذي
تتقلب الأيام والأزمان ، وهو ثابت مطرد ،
كالنجم الهادي في دياجير الظلام
وبالآخرة
هم يوقنون . . وهذه
خاتمة السمات . الخاتمة التي تربط الدنيا
بالآخرة ، والمبدأ بالمصير ، والعمل بالجزاء
؛ والتي تشعر الإنسان أنه ليس لقى مهملا ،
وأنه لم يخلق عبثا ، ولن يترك سدى ؛ وأن
العدالة المطلقة في انتظاره ، ليطمئن قلبه ،
وتستقر بلابله ، ويفيء إلى العمل الصالح ،
وإلى عدل الله روحمته في نهاية المطاف
.
واليقين
بالآخرة هو مفرق الطريق بين من يعيش بين جدران
الحس المغلقة ، ومن يعيش في الوجود المديد
الرحيب . بين من يشعر أن حياته على الأرض هي كل
ما له في هذا الوجود ، ومن يشعر أن حياته على
الأرض ابتلاء يمهد للجزاء ، وأن الحياة
الحقيقية إنما هي هنالك ، وراء هذا
الحيز
الصغير المحدود .
وكل
صفة من هذه الصفات - كما رأينا - ذات قيمة في
الحياة الإنسانية ، ومن ثم كانت هي صفات
المتقين . وهناك تساوق وتناسق بين هذه الصفات
جميعا ، هو الذي يؤلف منها وحدة متناسقة
متكاملة . فالتقوى شعور في الضمير ، وحالة في
الوجدان ، تنبثق منها اتجاهات وأعمال ؛
وتتوحد بها المشاعر الباطنة والتصرفات
الظاهرة ؛ وتصل الإنسان بالله في سره وجهره .
وتشف معها الروح فتقل الحجب بينها وبين الكلي
الذي يشمل عالمي الغيب والشهادة ، ويلتقي فيه
المعلوم والمجهول . ومتى شفت الروح وانزاحت
الحجب بين الظاهر والباطن ، فإن الإيمان
بالغيب عندئذ يكون هو الثمرة الطبيعية لإزالة
الحجب الساترة ، واتصال الروح بالغيب
والاطمئنان إليه . ومع التقوى والإيمان
بالغيب عبادة الله في الصورة التي اختارها ،
وجعلها صلة بين العبد والرب . ثم السخاء بجزء
من الرزق اعترافا بجميل العطاء ، وشعورا
بالإخاء . ثم سعة الضمير لموكب الإيمان العريق
، والشعور بآصرة القربى لكل مؤمن ولكل نبي
ولكل رسالة . ثم اليقين بالآخرة بلا تردد ولا
تأرجح في هذا اليقين . . وهذه كانت صورة
الجماعة المسلمة التي قامت في المدينة يوم
ذاك ، مؤلفة من السابقين الأولين من
المهاجرين والأنصار . وكانت هذه الجماعة بهذه
الصفات شيئا عظيما . شيئا عظيما حقا بتمثل هذه
الحقيقة الإيمانية فيها . ومن ثم صنع الله
بهذه الجماعة أشياء عظيمة في الأرض ، وفي حياة
البشر جميعا . . ومن ثم كان هذا التقرير:
أولئك
على هدى من ربهم ، وأولئك هم المفلحون
. .
وكذلك
اهتدوا وكذلك أفلحوا . والطريق للهدى والفلاح
هو هذا الطريق المرسوم .
الدرس
الثاني:6 - 7 صفات الكافرين
فأما
الصورة الثانية فهي صورة الكافرين . وهي تمثل
مقومات الكفر في كل أرض وفي كل حين:
إن
الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم
تنذرهم لا يؤمنون . ختم الله على قلوبهم وعلى
سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ، ولهم عذاب عظيم
. .
وهنا
نجد التقابل تاما بين صورة المتقين وصورة
الكافرين . . فإذا كان الكتاب بذاته هدى
للمتقين ، فإن الإنذار وعدم الإنذار سواء
بالقياس إلى الكافرين . إن النوافذ المفتوحة
في أرواح المتقين ، والوشائج التي تربطهم
بالوجود وبخالق الوجود ، وبالظاهر والباطن
والغيب والحاضر . . إن هذه النوافذ المفتحة
كلها هناك ، مغلقة كلها هنا . وإن الوشائج
الموصولة كلها هناك ، مقطوعة كلها هنا:
ختم
الله على قلوبهم وعلى سمعهم
ختم عليها فلا تصل إليها حقيقة من الهدى
ولا صدى .
وعلى
أبصارهم غشاوة . .
فلا نور يوصوص لها ولا هدى . ! وقد طبع الله على
قلوبهم وعلى سمعهم وغشي على أبصارهم جزاء
وفاقا على استهتارهم بالإنذار ، حتى تساوى
لديهم الإنذار وعدم الإنذار .
إنها
صورة صلدة ، مظلمة ، جامدة ، ترتسم من خلال
الحركة الثابتة الجازمة . حركة الختم على
القلوب والأسماع ، والتغشية على العيون
والأبصار . .
ولهم
عذاب عظيم . . وهي
النهاية الطبيعية للكفر العنيد ، الذي لا
يستجيب للنذير ؛ والذي يستوي عنده الإنذار
وعدم الإنذار ؛ كما علم الله من طبعهم المطموس
العنيد .
الدرس
الثالث:8 - 16 صفات المنافقين
ثم ننتقل - مع السياق - إلى الصورة الثالثة
. أو إلى النموذج الثالث
إنها
ليست في شفافية الصورة الأولى وسماحتها .
وليست في عتامة الصورة الثانية وصفاقتها .
ولكنها تتلوى في الحس . وتروغ من البصر ، وتخفى
وتبين . . إنها صورة المنافقين:
ومن
الناس من يقول:آمنا بالله وباليوم الآخر ، وما
هم بمؤمنين . يخادعون الله والذين آمنوا ، وما
يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون . في قلوبهم مرض
فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا
يكذبون . وإذا قيل لهم:لا تفسدوا في الأرض ،
قالوا:إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون
ولكن لا يشعرون . وإذا قيل لهم:آمنوا كما آمن
الناس ، قالوا:أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ ألا
إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون . وإذا لقوا
الذين آمنوا قالوا:آمنا . وإذا خلوا إلى
شياطينهم قالوا:إنا معكم ، إنما نحن مستهزئون
. الله يستهزئ بهم ، ويمدهم في طغيانهم يعمهون
. أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ، فما
ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين
. .
لقد
كانت هذه صورة واقعة في المدينة ؛ ولكننا حين
نتجاوز نطاق الزمان والمكان نجدها نموذجا
مكرورا في أجيال البشرية جميعا . نجد هذا
النوع من المنافقين من علية الناس الذين لا
يجدون في أنفسهم الشجاعة ليواجهوا الحق
بالإيمان الصريح ، أو يجدون في نفوسهم الجرأة
ليواجهوا الحق بالإنكار الصريح . وهم في الوقت
ذاته يتخذون لأنفسهم مكان المترفع على جماهير
الناس ، وعلى تصورهم للأمور ! ومن ثم نميل إلى
مواجهة هذه النصوص كما لو كانت مطلقة من
مناسبتها التاريخية ، موجهة إلى هذا الفريق
من المنافقين في كل جيل . وإلى صميم النفس
الإنسانية الثابت في كل جيل
إنهم
يدعون الإيمان بالله واليوم الآخر . وهم في
الحقيقة ليسوا بمؤمنين . إنما هم منافقون لا
يجرؤون على الإنكار والتصريح بحقيقة شعورهم
في مواجهة المؤمنين . وهم يظنون في أنفسهم
الذكاء والدهاء والقدرة على خداع هؤلاء
البسطاء ؛ ولكن القرآن يصف حقيقة فعلتهم ، فهم
لا يخادعون المؤمنين ، إنما يخادعون الله
كذلك أو يحاولون:
يخادعون
الله والذين آمنوا
. .
وفي
هذا النص وأمثاله نقف أمام حقيقة كبيرة ،
وأمام تفضل من الله كريم . . تلك الحقيقة هي
التي يؤكدها القرآن دائما ويقررها ، وهي
حقيقة الصلة بين الله والمؤمنين . إنه يجعل
صفهم صفه ، وأمرهم أمره . وشأنهم شأنه . يضمهم
سبحانه إليه ، ويأخذهم في كنفه ، ويجعل عدوهم
عدوه ، وما يوجه إليهم من مكر موجها إليه -
سبحانه - وهذا هو التفضل العلوي الكريم . .
التفضل الذي يرفع مقام المؤمنين وحقيقتهم إلى
هذا المستوى السامق ؛ والذي يوحي بأن حقيقة
الإيمان في هذا الوجود هي أكبر وأكرم الحقائق
، والذي يسكب في قلب المؤمن طمأنينة لا حد
لها ، وهو يرى
الله - جل شأنه - يجعل قضيته هي قضيته ، ومعركته
هي معركته ، وعدوه هو عدوه ، ويأخذه في صفة ،
ويرفعه إلى جواره الكريم . . فماذا يكون العبيد
وكيدهم وخداعهم وأذاهم الصغير ؟!
وهو
في ذات الوقت تهديد رعيب للذين يحاولون خداع
المؤمنين والمكر بهم ، وإيصال الأذى إليهم .
تهديد لهم بأن معركتهم ليست مع المؤمنين
وحدهم إنما هي مع الله القوي الجبار القهار .
وأنهم إنما يحاربون الله حين يحاربون أولياءه
، وإنما يتصدون لنقمة الله حين يحاولون هذه
المحاولة اللئيمة .
وهذه
الحقيقة من جانبيها جديرة بأن يتدبرها
المؤمنون ليطمئنوا ويثبتوا ويمضوا في طريقهم
لا يبالون كيد الكائدين ، ولا خداع الخادعين ،
ولا أذى الشريرين . ويتدبرها أعداء المؤمنين
فيفزعوا ويرتاعوا ويعرفوا من الذي يحاربونه
ويتصدون لنقمته حين يتصدون للمؤمنين
. .
ونعود
إلى هؤلاء الذين يخادعون الله والذين آمنوا
بقولهم:آمنا بالله وباليوم الآخر . ظانين في
أنفسهم الذكاء والدهاء . . ولكن يا للسخرية ! يا
للسخرية التي تنصب عليهم قبل أن تكتمل الآية:
وما
يخدعون إلا أنفسهم ، وما يشعرون
. .
إنهم
من الغفلة بحيث لا يخدعون إلا أنفسهم في غير
شعور ! إن الله بخداعهم عليم ؛ والمؤمنون في
كنف الله فهو حافظهم من هذا الخداع اللئيم .
أما أولئك الأغفال فهم يخدعون أنفسهم
ويغشونها . يخدعونها حين يظنون أنهم أربحوها
وأكسبوها بهذا النفاق ، ووقوها مغبة المصارحة
بالكفر بين المؤمنين . وهم في الوقت ذاته
يوردونها موارد التهلكة بالكفر الذي يضمرونه
، والنفاق الذي يظهرونه . وينتهون بها إلى شر
مصير !
ولكن
لماذا يحاول المنافقون هذه المحاولة ؟ ولماذا
يخادعون هذا الخداع
في
قلوبهم مرض
. .
في
طبيعتهم آفة . في قلوبهم علة . وهذا ما يحيد بهم
عن الطريق الواضح المستقيم . ويجعلهم يستحقون
من الله أن يزيدهم مما هم فيه:
فزادهم
الله مرضا
. .
فالمرض
ينشىء المرض ، والانحراف يبدأ يسيرا ، ثم
تنفرج الزاوية في كل خطوة وتزداد . سنة لا
تتخلف . سنة الله في الأشياء والأوضاع ، وفي
المشاعر والسلوك . فهم صائرون إذن إلى مصير
معلوم . المصير الذي يستحقه من يخادعون الله
والمؤمنين:
ولهم
عذاب أليم بما كانوا يكذبون
. .
وصفة أخرى من صفاتهم - وبخاصة الكبراء منهم
الذين كان لهم في أول العهد بالهجرة مقام في
قومهم ورياسة وسلطان كعبد الله بن أبي بن سلول
- صفة العناد وتبرير ما يأتون من الفساد ،
والتبجح حين يأمنون أن يؤخذوا بما يفعلون:
وإذا
قيل لهم:لا تفسدوا في الأرض ، قالوا:إنما نحن
مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون ، ولكن لا
يشعرون .
.
إنهم
لا يقفون عند حد الكذب والخداع ، بل يضيفون
اليهما السفه والادعاء: وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض
. . لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد
، بل تجاوزوه إلى التبجح والتبرير:
قالوا:إنما نحن مصلحون
. .
والذين
يفسدون أشنع الفساد ، ويقولون:إنهم مصلحون ،
كثيرون جدا في كل زمان . يقولونها لأن
الموازين مختلة في أيديهم . ومتى اختل ميزان
الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر
الموازين والقيم . والذين لا يخلصون سريرتهم
لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم ، لأن
ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم
يتأرجح مع الأهواء الذاتية ، ولا يثوب إلى
قاعدة ربانية . .
ومن
ثم يجيء التعقيب الحاسم والتقرير الصادق:
ألا
إنهم هم المفسدون ، ولكن لا يشعرون
. .
ومن
صفتهم كذلك التطاول والتعالي على عامة الناس
، ليكسبوا لأنفسهم مقاما زائفا في أعين الناس:
وإذا
قيل لهم:آمنوا كما آمن الناس ، قالوا:أنؤمن
كما آمن السفهاء ؟ ألا إنهم هم السفهاء ، ولكن
لا يعلمون
. .
وواضح
أن الدعوة التي كانت موجهة إليهم في المدينة
هي أن يؤمنوا الإيمان الخالص المستقيم
المتجرد من الأهواء . إيمان المخلصين الذين
دخلوا في السلم كافة ، وأسلموا وجوههم لله ،
وفتحوا صدورهم لرسول الله
[ ص ] يوجههم
فيستجيبون بكليتهم مخلصين متجردين . . هؤلاء
هم الناس الذين كان المنافقون يدعون ليؤمنوا
مثلهم هذا الإيمان الخالص الواضح المستقيم
. .
وواضح
أنهم كانوا يأنفون من هذا الاستسلام للرسول
[ ص ] ويرونه خاصا
بفقراء الناس غير لائق بالعلية ذوي المقام !
ومن ثم قالوا قولتهم هذه:
أنؤمن كما آمن السفهاء ؟
. . ومن ثم جاءهم الرد الحاسم ، والتقرير
الجازم:
ألا
إنهم هم السفهاء ، ولكن لا يعلمون
. .
ومتى
علم السفيه أنه سفيه ؟ ومتى استشعر المنحرف
أنه بعيد عن المسلك القويم ؟!
ثم
تجيء السمة الأخيرة التي تكشف عن مدى
الارتباط بين المنافقين في المدينة واليهود
الحانقين . . إنهم لا يقفون عند حد الكذب
والخداع ، والسفه والادعاء ، إنما يضيفون
إليها الضعف واللؤم والتآمر في الظلام:
وإذا
لقوا الذين آمنوا قالوا:آمنا ، وإذا خلوا إلى
شياطينهم قالوا:إنا معكم ، إنما نحن مستهزؤون
. .
وبعض
الناس يحسب اللؤم قوة ، والمكر السيىء براعة .
وهو في حقيقته ضعف وخسة . فالقوي ليس لئيما ولا
خبيثا ، ولا خادعا ولا متآمرا ولا غمازا في
الخفاء لمازا . وهؤلاء المنافقون الذين كانوا
يجبنون عن المواجهة ،ويتظاهرون بالإيمان عند
لقاء المؤمنين ، ليتقوا الأذى ، وليتخذوا هذا
الستار وسيلة للأذى . . هؤلاء كانوا إذا خلوا
إلى شياطينهم - وهم غالبا - اليهود الذين كانوا
يجدون في هؤلاء المنافقين أداة لتمزيق الصف
الإسلامي وتفتيته ، كما أن هؤلاء كانوا يجدون
في اليهود سندا وملاذا . . هؤلاء المنافقون
كانوا إذا خلوا إلى
شياطينهم قالوا:إنا معكم إنما نحن مستهزئون
- أي بالمؤمنين - بما نظهره من الإيمان
والتصديق !
وما
يكاد القرآن يحكي فعلتهم هذه وقولتهم ، حتى
يصب عليهم من التهديد ما يهد الرواسي:
الله
يستهزئ بهم ، ويمدهم في طغيانهم يعمهون
. .
وما
أبأس من يستهزيء به جبار السماوات والأرض وما
أشقاه !! وإن الخيال ليمتد إلى مشهد مفزع رعيب .
وإلى مصير تقشعر من هوله القلوب
.
وهو
يقرأ: الله
يستهزئ بهم ، ويمدهم في طغيانهم يعمهون
. . فيدعهم يخبطون على غير هدى في طريق لا
يعرفون غايته ، واليد الجبارة تتلقفهم في
نهايته ، كالفئران الهزيلة تتواثب في الفخ ،
غافلة عن المقبض المكين . . وهذا هو الاستهزاء
الرعيب ، لا كاستهزائهم الهزيل الصغير
.
وهنا
كذلك تبدو تلك الحقيقة التي أشرنا من قبل
إليها . حقيقة تولي الله - سبحانه - للمعركة
التي يراد بها المؤمنون . وما وراء هذا التولي
من طمأنينة كاملة لأولياء الله ، ومصير رعيب
بشع لأعداء الله الغافلين ، المتركين في
عماهم يخبطون ، المخدوعين بمد الله لهم في
طغيانهم
، وإمهالهم بعض الوقت في عدوانهم ، والمصير
الرعيب ينتظرهم هنالك ، وهم غافلون يعمهون
!
والكلمة
الأخيرة التي تصور حقيقة حالهم ، ومدى
خسرانهم:
أولئك
الذين اشتروا الضلالة بالهدى ، فما ربحت
تجارتهم وما كانوا مهتدين . . فلقد كانوا يملكون الهدى لو
أرادوا . كان الهدى مبذولا لهم . وكان في
أيديهم . وكلنهم اشتروا
الضلالة بالهدى ،
كأغفل ما يكون المتجرون:
فما
ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين
. .
الدرس
الرابع:17 -20 مثلان مصوران لخسارة المنافقين
ولعلنا نلمح أن الحيز الذي استغرقه رسم
هذه الصورة الثالثة قد جاء أفسح من الحيز الذي
استغرفه رسم الصورة الأولى والصورة الثانية
. .
ذلك
أن كلا من الصورتين الأوليين فيه استقامة على
نحو من الأنحاء وفيه بساطة على معنى من
المعاني . . الصورة الأولى صورة النفس الصافية
المستقيمة في اتجاهها ، والصورة الثانية صورة
النفس المعتمة السادرة في اتجاهها . أما
الصورة الثالثة فهي صورة النفس الملتوية
المريضة المعقدة المقلقلة . وهي في حاجة إلى
مزيد من اللمسات ، ومزيد من الخطوط كيما تتحدد
وتعرف بسماتها الكثيرة . .
على
أن هذه الإطالة توحي كذلك بضخامة الدور الذي
كان يقوم به المنافقون في المدينة لإيذاء
الجماعة المسلمة ، ومدى التعب والقلق
والاضطراب الذي كانوا يحدثونه ؛ كما توحي
بضخامة الدور الذي يمكن أن يقوم به المنافقون
في كل وقت داخل الصف المسلم ، ومدى الحاجة
للكشف عن ألاعيبهم ودسهم اللئيم
.
وزيادة
في الإيضاح ، يمضي السياق يضرب الأمثال لهذه
الطائفة ويكشف عن طبيعتها ، وتقلباتها
وتأرجحها ليزيد هذه الطبيعة جلاء وإيضاحا: مثلهم
كمثل الذي استوقد نارا ، فلما أضاءت ما حوله ،
ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون .
صم بكم عمي فهم لا يرجعون
. .
. إنهم
لم يعرضوا عن الهدى ابتداء ، ولم يصموا آذانهم
عن السماع ، وعيونهم عن الرؤية وقلوبهم عن
الإدراك ، كما صنع الذين كفروا . ولكنهم
استحبوا العمى على الهدى بعد ما استوضحوا
الأمر وتبينوه . . لقد استوقدوا النار ، فلما
أضاء لهم نورها لم ينتفعوا بها وهم طالبوها .
عندئذ ذهب الله
بنورهم الذي طلبوه
ثم تركوه: وتركهم في
ظلمات لا يبصرون جزاء
إعراضهم عن النور !
وإذا
كانت الآذان والألسنة والعيون ، لتلقي
الأصداء والأضواء ، والانتفاع بالهدى والنور
، فهم قد عطلوا آذانهم فهم
صم وعطلوا ألسنتهم فهم
بكم وعطلوا
عيونهم فهم عمي . .
فلا رجعة لهم إلى الحق ، ولا أوبة لهم إلى
الهدى . ولا هداية لهم إلى النور
!
ومثل
آخر يصور حالهم ويرسم ما في نفوسهم من اضطراب
وحيرة وقلق ومخافة:
أو
كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ، يجعلون
أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت .
والله محيط بالكافرين . يكاد البرق يخطف
أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه ، وإذا أظلم
عليهم قاموا ، ولو شاء الله لذهب بسمعهم
وأبصارهم . إن الله على كل شيء قدير
. .
إنه
مشهد عجيب ، حافل بالحركة ، مشوب بالاضطراب .
فيه تيه وضلال ، وفيه هول ورعب ، وفيه فزع
وحيرة ، وفيه أضواء وأصداء . . صيب من السماء
هاطل غزير فيه ظلمات
ورعد وبرق . .
كلما أضاء لهم مشوا فيه
. . وإذا أظلم
عليهم قاموا . . أي
وقفوا حائرين لا يدرون أين يذهبون . وهم
مفزعون: يجعلون
أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت
. .
إن
الحركة التي تغمر المشهد كله:من الصيب الهاطل
، إلى الظلمات والرعد والبرق ، إلى الحائرين
المفزعين فيه ، إلى الخطوات المروعة الوجلة ،
التي تقف عندما يخيم الظلام . . إن هذه الحركة
في المشهد لترسم - عن طريق التأثر الإيحائي -
حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي
يعيش فيها أولئك المنافقون . . بين لقائهم
للمؤمنين ، وعودتهم للشياطين . بين ما يقولونه
لحظة ثم ينكصون عنه فجأة . بين ما يطلبونه من
هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام . . فهو
مشهد حسي يرمز لحالة نفسية ؛ ويجسم صورة
شعورية . وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في
تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس
.
الدرس
الخامس:21 - 22 دعوة الناس للإنحياز إلى المتقين
وعندما يتم استعراض الصور الثلاث يرتد
السياق في السورة نداء للناس كافة ، وأمرا
للبشرية جمعاء ، أن تختار الصورة الكريمة
المستقيمة . الصورة النقية الخالصة . الصورة
العاملة النافعة . الصورة المهتدية المفلحة . .
صورة المتقين:
يا
أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من
قبلكم لعلكم تتقون . الذي جعل لكم الأرض فراشا
، والسماء بناء ، وأنزل من السماء ماء فأخرج
به من الثمرات رزقا لكم ، فلا تجعلوا لله
أندادا وأنتم تعلمون
. .
إنه
النداء إلى الناس كلهم لعبادة ربهم الذي
خلقهم والذين من قبلهم . ربهم الذي تفرد
بالخلق ، فوجب أن يتفرد بالعبادة . . وللعبادة
هدف لعلهم ينتهون إليه ويحققوه:
لعلكم
تتقون . . لعلكم
تصيرون إلى تلك الصورة المختارة من صور
البشرية . صورة العابدين لله . المتقين لله .
الذين أدوا حق الربوبية الخالقة ، فعبدوا
الخالق وحده ؛ رب الحاضرين والغابرين ، وخالق
الناس أجمعين ، ورازقهم كذلك من الأرض
والسماء بلا ند ولا شريك:
الذي
جعل لكم الأرض فراشا
. .
وهو
تعبير يشي باليسر في حياة البشر على هذه الأرض
، وفي إعدادها لهم لتكون لهم سكنا مريحا وملجأ
واقيا كالفراش . . والناس ينسون هذا الفراش
الذي مهده الله لهم لطول ما ألفوه . ينسون هذا
التوافق الذي جعله الله في الأرض ليمهد لهم
وسائل العيش ، وما سخره لهم فيها من وسائل
الراحة والمتاع . ولولا هذا التوافق ما قامت
حياتهم على هذا الكوكب في مثل هذا اليسر
والطمأنينة . ولو فقد عنصر واحد من عناصر
الحياة في هذا الكوكب ما قام هؤلاء الأناسي في
غير البيئة التي تكفل لهم الحياة . ولو نقص
عنصر واحد من عناصر الهواء عن قدره المرسوم
لشق على الناس أن يلتقطوا أنفاسهم حتى لو قدرت
لهم الحياة !
والسماء
بناء .
.
فيها
متانة البناء وتنسيق البناء . والسماء ذات
علاقة وثيقة بحياة الناس في الأرض ، وبسهولة
هذه الحياة . وهي بحرارتها وضوئها وجاذبية
اجرامها وتناسقها وسائر النسب بين الأرض
وبينها ، تمهد لقيام الحياة على الأرض وتعين
عليها . فلا عجب أن تذكر في معرض تذكير الناس
بقدرة
الخالق ، وفضل الرازق ، واستحقاق المعبود
للعبادة من العبيد المخاليق .
وأنزل
من السماء ماء ، فأخرج به من الثمرات رزقا لكم
. .
وذكر
إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به ، ما
يفتأ يتردد في مواضع شتى من القرآن في معرض
التذكير بقدرة الله ، والتذكير بنعمته كذلك . .
والماء النازل من السماء هو مادة الحياة
الرئيسية للأحياء في الأرض جميعا . فمنه تنشأ
الحياة بكل أشكالها ودرجاتها
وجعلنا من الماء كل شيء حي
. . سواء أنبت الزرع مباشرة حين يختلط
بالأرض ، أو كون الأنهار والبحيرات العذبة ،
أو انساح في طبقات الأرض فتألفت منه المياه
الجوفية ، التي تتفجر عيونا أو تحفر آبارا ،
أو تجذب بالآلات إلى السطح مرة أخرى
.
وقصة
الماء في الأرض ، ودوره في حياة الناس ، وتوقف
الحياة عليه في كل صورها وأشكالها . . كل هذا
أمر لا يقبل المماحكة ، فتكفي الإشارة إليه ،
والتذكير به ، في معرض الدعوة إلى عبادة
الخالق الرازق الوهاب .
وفي
ذلك النداء تبرز كليتان من كليات التصور
الإسلامي:وحدة الخالق لكل الخلائق:
الذي خلقكم والذين من قبلكم
. . ووحدة الكون وتناسق وحداته وصداقته
للحياة وللإنسان: الذي
جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء . وأنزل من
السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم
. . فهذا
الكون أرضه مفروشة لهذا الإنسان ، وسماؤه
مبنية بنظام ، معينة بالماء الذي تخرج به
الثمرات رزقا للناس . . والفضل في هذا كله
للخالق الواحد:
فلا
تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون
. .
تعلمون
أنه خلقكم والذين من قبلكم . وتعلمون أنه جعل
لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من
السماء ماء . وأنه لم يكن له شريك يساعد ، ولا
ند يعارض . فالشرك به بعد هذا العلم تصرف لا
يليق ! لعلكم
تتقون . . لعلكم
تصيرون إلى تلك الصورة المختارة من صور
البشرية . صورة العابدين لله . المتقين لله .
الذين أدوا حق الربوبية الخالقة ، فعبدوا
الخالق وحده ؛ رب الحاضرين والغابرين ، وخالق
الناس أجمعين ، ورازقهم كذلك من الأرض
والسماء بلا ند ولا شريك:
الذي
جعل لكم الأرض فراشا
. .
وهو
تعبير يشي باليسر في حياة البشر على هذه الأرض
، وفي إعدادها لهم لتكون لهم سكنا مريحا وملجأ
واقيا كالفراش . . والناس ينسون هذا الفراش
الذي مهده الله لهم لطول ما ألفوه . ينسون هذا
التوافق الذي جعله الله في الأرض ليمهد لهم
وسائل العيش ، وما سخره لهم فيها من وسائل
الراحة والمتاع . ولولا هذا التوافق ما قامت
حياتهم على هذا الكوكب في مثل هذا اليسر
والطمأنينة . ولو فقد عنصر واحد من عناصر
الحياة في هذا الكوكب ما قام هؤلاء الأناسي في
غير البيئة التي تكفل لهم الحياة . ولو نقص
عنصر واحد من عناصر الهواء عن قدره المرسوم
لشق على الناس أن يلتقطوا أنفاسهم حتى لو قدرت
لهم الحياة !
والسماء
بناء .
.
فيها
متانة البناء وتنسيق البناء . والسماء ذات
علاقة وثيقة بحياة الناس في الأرض ، وبسهولة
هذه الحياة . وهي بحرارتها وضوئها وجاذبية
اجرامها وتناسقها وسائر النسب بين الأرض
وبينها ، تمهد لقيام الحياة على الأرض وتعين
عليها . فلا عجب أن تذكر في معرض تذكير الناس
بقدرة
الخالق ، وفضل الرازق ، واستحقاق المعبود
للعبادة من العبيد المخاليق .
وأنزل
من السماء ماء ، فأخرج به من الثمرات رزقا لكم
. .
وذكر
إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به ، ما
يفتأ يتردد في مواضع شتى من القرآن في معرض
التذكير بقدرة الله ، والتذكير بنعمته كذلك . .
والماء النازل من السماء هو مادة الحياة
الرئيسية للأحياء في الأرض جميعا . فمنه تنشأ
الحياة بكل أشكالها ودرجاتها
وجعلنا من الماء كل شيء حي
. . سواء أنبت الزرع مباشرة حين يختلط
بالأرض ، أو كون الأنهار والبحيرات العذبة ،
أو انساح في طبقات الأرض فتألفت منه المياه
الجوفية ، التي تتفجر عيونا أو تحفر آبارا ،
أو تجذب بالآلات إلى السطح مرة أخرى
.
وقصة
الماء في الأرض ، ودوره في حياة الناس ، وتوقف
الحياة عليه في كل صورها وأشكالها . . كل هذا
أمر لا يقبل المماحكة ، فتكفي الإشارة إليه ،
والتذكير به ، في معرض الدعوة إلى عبادة
الخالق الرازق الوهاب .
وفي
ذلك النداء تبرز كليتان من كليات التصور
الإسلامي:وحدة الخالق لكل الخلائق:
الذي خلقكم والذين من قبلكم
. . ووحدة الكون وتناسق وحداته وصداقته
للحياة وللإنسان: الذي
جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء . وأنزل من
السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم
. . فهذا
الكون أرضه مفروشة لهذا الإنسان ، وسماؤه
مبنية بنظام ، معينة بالماء الذي تخرج به
الثمرات رزقا للناس . . والفضل في هذا كله
للخالق الواحد:
فلا
تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون
. .
تعلمون
أنه خلقكم والذين من قبلكم . وتعلمون أنه جعل
لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من
السماء ماء . وأنه لم يكن له شريك يساعد ، ولا
ند يعارض . فالشرك به بعد هذا العلم تصرف لا
يليق !
والأنداد التي يشدد القرآن في النهي عنها
لتخلص عقيدة التوحيد نقية واضحة ، قد لا تكون
آلهة تعبد مع الله على النحو الساذج الذي كان
يزاوله المشركون . فقد تكون الأنداد في صور
أخرى خفية . قد تكون في تعليق الرجاء بغير الله
في أي صورة ، وفي الخوف من غير الله في أي
صورة
. وفي الاعتقاد بنفع أو ضر في غير الله في أي
صورة . . عن ابن عباس قال:" الأنداد هو الشرك
أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة
الليل . وهو أن يقول:والله وحياتك يا فلان
وحياتي . ويقول:لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص
البارحة ، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص .
وقول الرجل لصاحبه:ما شاء الله وشئت ! وقول
الرجل:لولا الله وفلان . . هذا كله به شرك "
. . . وفي الحديث أن رجلا قال لرسول الله
[ ص ] ما شاء الله
وشئت . قال: أجعلتني
لله ندا ؟
!
هكذا
كان سلف هذه الأمة ينظر إلى الشرك الخفي
والأنداد مع الله . . فلننظر نحن أين نحن من هذه
الحساسية المرهفة ، وأين نحن من حقيقة
التوحيد الكبيرة !!!
الدرس
السادس:23 - 24 تحدي الكفار بمعارضة القرآن
ولقد كان اليهود يشككون في صحة رسالة
النبي [ ص ] وكان المنافقون يرتابون فيها - كما
ارتاب المشركون وشككوا في مكة وغيرها - فهنا
يتحدى القرآن الجميع . إذ كان الخطاب إلى "الناس
" جميعا . يتحداهم بتجربة واقعية تفصل في
الأمر بلا مماحكة:
وإن
كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة
من مثله ، وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم
صادقين .
.
ويبدأ
هذا التحدي بلفتة لها قيمتها في هذا المجال . .
يصف الرسول [ ص ]
بالعبودية لله: وإن
كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا
. . ولهذا الوصف في هذا الموضع دلالات
منوعة متكاملة:فهو أولا تشريف للنبي وتقريب
بإضافة عبوديته لله تعالى ؛ دلالة على أن مقام
العبودية لله هو أسمى مقام يدعى إليه بشر
ويدعى به كذلك . وهو ثانيا تقرير لمعنى
العبودية ، في مقام دعوة الناس كافة إلى عبادة
ربهم وحده ، واطراح الأنداد كلها من دونه . فها
هو ذا النبي في مقام الوحي - وهو أعلى مقام -
يدعى بالعبودية لله ، ويشرف بهذه النسبة في
هذا المقام .
أما
التحدي فمنظور فيه إلى مطلع السورة . . فهذا
الكتاب المنزل مصوغ من تلك الحروف التي في
أيديهم ، فإن كانوا يرتابون في تنزيله ،
فدونهم فليأتوا بسورة من مثله ؛ وليدعوا من
يشهد لهم بهذا - من دون الله - فالله قد شهد
لعبده بالصدق في دعواه .
وهذا
التحدي ظل قائما في حياة الرسول
[ ص ] وبعدها ،
وما يزال قائما إلى يومنا هذا وهو حجة لا سبيل
إلى المماحكة فيها . . وما يزال القرآن يتميز
من كل كلام يقوله البشر تميزا واضحا قاطعا .
وسيظل كذلك أبدا . سيظل كذلك تصديقا لقول الله
تعالى في الآية التالية:
فإن
لم تفعلوا - ولن تفعلوا - فاتقوا النار التي
وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين
. .
والتحدي
هنا عجيب ، والجزم بعدم إمكانه أعجب ، ولو كان
في الطاقة تكذيبه ما توانوا عنه لحظة . وما من
شك أن تقرير القرآن الكريم أنهم لن يفعلوا ،
وتحقق هذا كما قرره هو بذاته معجزة لا سبيل
إلى المماراة فيها . ولقد كان المجال أمامهم
مفتوحا ، فلو أنهم جاءوا بما ينقض هذا التقرير
القاطع لأنهارت حجية القرآن ولكن هذا لم يقع
ولن يقع كذلك فالخطاب للناس جميعا ، ولو أنه
كان في مواجهة جيل من أجيال الناس . . وهذه
وحدها كلمة الفصل التاريخية .
على
أن كل من له دراية بتذوق أساليب الأداء ؛ وكل
من له خبرة بتصورات البشر للوجود وللأشياء ؛
وكل من له خبرة بالنظم والمناهج والنظريات
النفسية أو الاجتماعية التي ينشئها البشر . .
لا يخالجه شك في أن ما جاء به القرآن في هذه
المجالات كلها شيء آخر ليس من مادة ما
يصنعه
البشر . والمراء في هذا لا ينشأ إلا عن جهالة
لا تميز ، أو غرض يلبس الحق بالباطل
. .
ومن
ثم كان هذا التهديد المخيف لمن يعجزون عن هذا
التحدي ثم لا يؤمنون بالحق الواضح:
فاتقوا
النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت
للكافرين
. .
ففيم
هذا الجمع بين الناس والحجارة ، في هذه الصورة
المفزعة الرعيبة ؟ لقد أعدت هذه النار
للكافرين . الكافرين الذين سبق في أول السورة
وصفهم بأنهم ختم
الله على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم
غشاوة . . والذين
يتحداهم القرآن هنا فيعجزون ، ثم لا يستجيبون
. . فهم إذن حجارة من
الحجارة ! وإن تبدوا في صورة آدمية من الوجهة
الشكلية ! فهذا الجمع بين الحجارة من الحجر
والحجارة من الناس هو الأمر المنتظر
!
على
أن ذكر الحجارة هنا يوحي إلى النفس بسمة أخرى
في المشهد المفزع:مشهد النار التي تأكل
الأحجار . ومشهد الناس الذين تزحمهم هذه
الأحجار . . في النار . .
الدرس
السابع:25 مشهد لنعيم المؤمنين
وفي مقابل ذلك المشهد المفزع يعرض المشهد
المقابل . مشهد النعيم الذي ينتظر المؤمنين:
وبشر
الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات
تجري من تحتها الأنهار ، كلما رزقوا منها من
ثمرة رزقا قالوا:هذا الذي رزقنا من قبل ،
وأتوا به متشابها ، ولهم فيها أزواج مطهرة ،
وهم فيها خالدون
. .
وهي
ألوان من النعيم يستوقف النظر منها - إلى جانب
الأزواج المطهرة - تلك الثمار المتشابهة ،
التي يخيل إليهم أنهم رزقوها من قبل - أما ثمار
الدنيا التي تشبهها بالاسم أو الشكل ، وأما
ثمار الجنة التي رزقوها من قبل - فربما كان في
هذا التشابه الظاهري والتنوع الداخلي مزية
المفاجأة في كل مرة . . وهي ترسم جوا من الدعابة
الحلوة ، والرضى السابغ ، والتفكه الجميل ،
بتقديم المفاجأة بعد المفاجأة ، وفي كل مرة
ينكشف التشابه الظاهري عن شيء جديد
!
وهذا
التشابه في الشكل ، والتنوع في المزية ، سمة
واضحة في صنعة الباريء تعالى ، تجعل الوجود
أكبر في حقيقته من مظهره . ولنأخذ الإنسان
وحده نموذجا كاشفا لهذه الحقيقة الكبيرة . .
الناس كلهم ناس ، من ناحية قاعدة التكوين:رأس
وجسم وأطراف . لحم ودم وعظام وأعصاب . عينان
وأذنان وفم ولسان . خلايا حية من نوع الخلايا
الحية . تركيب متشابه في الشكل والمادة . . ولكن
أين غاية المدى في السمات والشيات ؟ ثم أين
غاية المدى في الطباع والاستعدادات ؟ إن فارق
ما بين إنسان وإنسان - على هذا التشابه - ليبلغ
أحيانا أبعد مما بين الأرض والسماء
!
وهكذا
يبدو التنوع في صنعة الباريء هائلا يدير
الرؤوس:التنوع في الأنواع والأجناس ، والتنوع
في الأشكال والسمات ، والتنوع في المزايا
والصفات . . وكله . . كله مرده إلى الخلية
الواحدة المتشابهة التكوين والتركيب
. فمن ذا الذي لا
يعبد الله وحده ، وهذه آثار صنعته ، وآيات
قدرته ؟ ومن ذا الذي يجعل لله اندادا ، ويد
الإعجاز واضحة الآثار ، فيما تراه الأبصار ،
وفيما لا تدركه الأبصار ؟
الدرس الثامن:26 - 27 اختلاف أثر
الأمثال القرآنية على المؤمنين والكافرين
بعد ذلك يجيء الحديث عن الأمثال التي
يضربها الله في القرآن:
إن
الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما ، بعوضة فما
فوقها ، فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من
ربهم ، وأما الذين كفروا فيقولون:ماذا أراد
الله بهذا مثلا ؟ يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا
، وما يضل به إلا الفاسقين . الذين ينقضون عهد
الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به
أن يوصل ، ويفسدون في الأرض . . أولئك هم
الخاسرون
. .
وهذه
الآيات تشي بأن المنافقين الذين ضرب الله لهم
مثل الذي استوقد نارا ومثل الصيب من السماء
فيه ظلمات ورعد وبرق - وربما كان اليهود كذلك
والمشركون - قد اتخذوا من ورود هذه الأمثال في
هذه المناسبة ، ومن وجود أمثال أخرى في القرآن
المكي الذي سبق نزوله وكان يتلى
في
المدينة ، كالذي ضربه الله مثلا للذين كفروا
بربهم كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن
البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون
. . وكالذي ضربه الله مثلا لعجز آلهتهم
المدعاة عن خلق الذباب: إن
الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو
اجتمعوا له وإن يسلبهم
الذباب شيئا لا
يستنقذوه منه . ضعف الطالب والمطلوب
. .
نقول:إن
هذه الآيات تشي بأن المنافقين - وربما كان
اليهود والمشركون - قد وجدوا في هذه المناسبة
منفذا للتشكيك في صدق الوحي بهذا القرآن ،
بحجة أن ضرب الأمثال هكذا بما فيها من تصغير
لهم وسخرية منهم لا تصدر عن الله ، وأن الله لا
يذكر هذه الأشياء الصغيرة كالذباب
والعنكبوت
في كلامه ! . . وكان هذا طرفا من حملة التشكيك
والبلبلة التي يقوم بها المنافقون واليهود في
المدينة ، كما كان يقوم بها المشركون في مكة
.
فجاءت
هذه الآيات دفعا لهذا الدس ، وبيانا لحكمة
الله في ضرب الأمثال ، وتحذيرا لغير المؤمنين
من عاقبة الاستدراج بها ، وتطمينا للمؤمنين
أن ستزيدهم إيمانا
.
إن
الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما ، بعوضة فما
فوقها
. .
فالله
رب الصغير والكبير ، وخالق البعوضة والفيل ،
والمعجزة في البعوضة هي ذاتها المعجزة في
الفيل . إنها معجزة الحياة . معجزة السر المغلق
الذي لا يعلمه إلا الله . . على أن العبرة في
المثل ليست في الحجم والشكل ، إنما الأمثال
أدوات للتنوير والتبصير . وليس في ضرب الأمثال
ما يعاب وما من شأنه الاستحياء من ذكره . والله
- جلت حكمته - يريد بها اختبار القلوب ،
وامتحان النفوس:
فأما
الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم . .
ذلك
أن إيمانهم بالله يجعلهم يتلقون كل ما يصدر
عنه بما يليق بجلاله ؛ وبما يعرفون من حكمته .
وقد وهبهم الإيمان نورا في قلوبهم ، وحساسية
في أرواحهم ، وتفتحا في مداركهم ، واتصالا
بالحكمة الإلهية في كل أمر وفي كل قول يجيئهم
من عند الله .
وأما
الذين كفروا فيقولون:ماذا أراد الله بهذا
مثلا ؟
. .
وهو
سؤال المحجوب عن نور الله وحكمته ، المقطوع
الصلة بسنة الله وتدبيره . ثم هو سؤال من لا
يرجو للهوقارا ، ولا يتأدب معه الأدب اللائق
بالعبد أمام تصرفات الرب . يقولونها في جهل
وقصور في صيغة الاعتراض والاستنكار ، أو في
صورة التشكيك في صدور مثل هذا القول عن الله
!
هنا
يجيئهم الجواب في صورة التهديد والتحذير بما
وراء المثل من تقدير وتدبير:
يضل
به كثيرا ، ويهدي به كثيرا ، وما يضل به إلا
الفاسقين
. .
والله
- سبحانه - يطلق الابتلاءات والامتحانات تمضي
في طريقها ، ويتلقاها عباده ، كل وفق طبيعته
واستعداده ، وكل حسب طريقه ومنهجه الذي اتخذه
لنفسه . والابتلاء واحد . . ولكن آثاره في
النفوس تختلف بحسب اختلاف المنهج والطريق . .
الشدة تسلط على شتى النفوس ، فأما المؤمن
الواثق بالله وحكمته ورحمته فتزيده الشدة
التجاء إلى الله وتضرعا وخشية . وأما الفاسق
أو المنافق فتزلزله وتزيده من الله بعدا ،
وتخرجه من الصف إخراجا . والرخاء يسلط على شتى
النفوس ، فأما المؤمن التقي فيزيد الرخاء
يقظة وحساسية وشكرا . وأما الفاسق أو المنافق
فتبطره النعمة ويتلفه الرخاء ويضله الابتلاء
. . وهكذا المثل الذي يضربه الله للناس . . يضل به كثيرا .
. ممن لا يحسنون استقبال ما يجيئهم من الله ،
ويهدي به كثيرا ممن
يدركون حكمة الله . وما
يضل به إلا الفاسقين .
. الذين فسقت قلوبهم من قبل وخرجت عن الهدى
والحق ، فجزاؤهم زيادتهم مما هم فيه
!
ويفصل
السياق صفة الفاسقين هؤلاء ، كما فصل في أول
السورة صفة المتقين ؛ فالمجال ما يزال - في
السورة - هو مجال الحديث عن تلك الطوائف ، التي
تتمثل فيها البشرية في شتى العصور:
الذين
ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما
أمر الله به أن يوصل ، ويفسدون في الأرض .
أولئك هم الخاسرون
. .
فأي
عهد من عهود الله هو الذي ينقضون ؟ وأي أمر مما
أمر الله به أن يوصل هو الذي يقطعون ؟ وأي لون
من الفساد في الأرض هو الذي يفسدون ؟
لقد
جاء السياق هنا بهذا الإجمال لأن المجال مجال
تشخيص طبيعة ، وتصوير نماذج ، لا مجال تسجيل
حادثة ، أو تفصيل واقعة . . إن الصورة هنا هي
المطلوبة في عمومها . فكل عهد بين الله وبين
هذا النموذج من الخلق فهو منقوض ؛ وكل ما أمر
الله به أن يوصل فهو بينهم مقطوع ؛
وكل
فساد في الأرض فهو منهم مصنوع . . إن صلة هذا
النمط من البشر بالله مقطوعة ، وإن فطرتهم
المنحرفة لا تستقيم على عهد ولا تستمسك بعروة
ولا تتورع عن فساد . إنهم كالثمرة الفجة التي
انفصلت من شجرة الحياة ، فتعفنت وفسدت
ونبذتها الحياة . . ومن ثم يكون ضلالهم بالمثل
الذي يهدي المؤمنين ؛ وتجيء غوايتهم بالسبب
الذي يهتدي به المتقون
.
وننظر
في الآثار الهدامة لهذا النمط من البشر الذي
كانت الدعوة تواجهه في المدينة في صورة
اليهود والمنافقين والمشركين ؛ والذي ظلت
تواجهه وما تزال تواجهه اليوم في الأرض مع
اختلاف سطحي في الأسماء والعنوانات
!
الذين
ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه
. .
وعهد
الله المعقود مع البشر يتمثل في عهود كثيرة:إنه
عهد الفطرة المركوز في طبيعة كل حي . . أن يعرف
خالقه ، وأن يتجه إليه بالعبادة . وما تزال في
الفطرة هذه الجوعة للاعتقاد بالله ، ولكنها
تضل وتنحرف فتتخذ من دون الله أندادا وشركاء .
. وهو عهد الاستخلاف في الأرض الذي أخذه الله
على آدم - كماسيجيء -: فإما
يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم
ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا
أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . . وهو عهوده الكثيرة في الرسالات
لكل قوم أن يعبدوا الله وحده ، وأن يحكموا في
حياتهم منهجه وشريعته . . وهذه العهود كلها هي
التي ينقضها الفاسقون . وإذا نقض عهد الله من
بعد ميثاقه ، فكل عهد دون الله منقوض . فالذي
يجرؤ على عهد الله لا يحترم بعده عهدا من
العهود .
ويقطعون
ما أمر الله به أن يوصل
. .
والله
أمر بصلات كثيرة . . أمر بصلة الرحم والقربى .
وأمر بصلة الإنسانية الكبرى . وأمر قبل هذا
كله بصلة العقيدة والأخوة الإيمانية ، التي
لا تقوم صلة ولا وشيجة إلا معها . . وإذا قطع ما
أمر الله به أن يوصل فقد تفككت العرى ، وانحلت
الروابط ، ووقع الفساد في الأرض ، وعمت الفوضي
.
ويفسدون
في الأرض
. .
والفساد
في الأرض ألوان شتى ، تنبع كلها من الفسوق عن
كلمة الله ، ونقض عهد الله ، وقطع ما أمر الله
به أن يوصل . ورأس الفساد في الأرض هو الحيدة
عن منهجه الذي اختاره ليحكم حياة البشر
ويصرفها . هذا مفرق الطريق الذي ينتهي إلى
الفساد حتما ، فما يمكن أن يصلح أمر هذه الأرض
، ومنهج الله بعيد عن تصريفها ، وشريعة الله
مقصاة عن حياتها . وإذا انقطعت العروة بين
الناس وربهم على هذا النحو فهو الفساد الشامل
للنفوس والأحوال ، وللحياة والمعاش ؛ وللأرض
كلها وما عليها من ناس وأشياء
.
إنه
الهدم والشر والفساد حصيلة الفسوق عن طريق
الله . . ومن ثم يستحق أهله أن يضلهم الله بما
يهدي به عباده المؤمنين
.
الدرس التاسع:28 - 29 استنكار كفر
الكفار بالله
وعند هذا البيان الكاشف لآثار الكفر
والفسوق في الأرض كلها يتوجه إلى الناس
باستنكار كفرهم بالله المحيي المميت الخالق
الرازق المدبر العليم:
كيف
تكفرون بالله ، وكنتم أمواتا فأحياكم ، ثم
يميتكم ، ثم يحييكم ، ثم إليه ترجعون ؟ هو الذي
خلق لكم ما في الأرض جميعا ؛ ثم استوى إلى
السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم
. .
والكفر
بالله في مواجهة هذه الدلائل والآلاء كفر
قبيح بشع ، مجرد من كل حجة أو سند . . والقرآن
يواجه البشر بما لا بد لهم من مواجهته ،
والاعتراف به ، والتسليم بمقتضياته . يواجههم
بموكب حياتهم وأطوار وجودهم . لقد كانوا
أمواتا فأحياهم . كانوا في حالة موت فنقلهم
منها
إلى حالة حياة ولا مفر من مواجهة هذه الحقيقة
التي لا تفسير لها إلا بالقدرة الخالقة . إنهم
أحياء ، فيهم حياة . فمن الذي أنشأ لهم هذه
الحياة ؟ من الذي أوجد هذه الظاهرة الجديدة
الزائدة على ما في الأرض من جماد ميت ؟ إن
طبيعة الحياة شيء آخر غير طبيعة الموت
المحيط
بها في الجمادات . فمن أين جاءت ؟ إنه لا جدوى
من الهروب من مواجهة هذا السؤال الذي يلح على
العقل والنفس ؛ ولا سبيل كذلك لتعليل مجيئها
بغير قدرة خالقة ذات طبيعة أخرى غير طبيعة
المخلوقات . من أين جاءت هذه الحياة التي تسلك
في الأرض سلوكا آخر متميزا عن كل ما عداها من
الموات ؟ . . لقد جاءت من عند الله . . هذا هو
أقرب جواب . . وإلا فليقل من لا يريد التسليم:أين
هو الجواب !
وهذه
الحقيقة هي التي يواجه بها السياق الناس في
هذا المقام: كيف تكفرون بالله
وكنتم أمواتا فأحياكم ؟
. .
كنتم
أمواتا من هذا الموات الشائع من حولكم في
الأرض فأنشا فيكم الحياة
فأحياكم . . فكيف
يكفر بالله من تلقى منه الحياة ؟
ثم
يميتكم
. .
ولعل
هذه لا تلقى مراء ولا جدلا ، فهي الحقيقة التي
تواجه الأحياء في كل لحظة ، وتفرض نفسها عليهم
فرضا ، ولا تقبل المراء فيها ولا الجدال
.
ثم
يحييكم
. .
وهذه
كانوا يمارون فيها ويجادلون ؛ كما يماري فيها
اليوم ويجادل بعض المطموسين ، المنتكسين إلى
تلك الجاهلية الأولى قبل قرون كثيرة . وهي حين
يتدبرون النشأة الأولى ، لا تدعو إلى العجب ،
ولا تدعو إلى التكذيب
.
ثم
إليه ترجعون
. .
كما
بدأكم تعودون ، وكما ذرأكم في الأرض تحشرون ،
وكما انطلقتم بإرادته من عالم الموت إلى عالم
الحياة ، ترجعون إليه ليمضي فيكم حكمه ويقضي
فيكم قضاءه . .
وهكذا
في آية واحدة قصيرة يفتح سجل الحياة كلها
ويطوى ، وتعرض في ومضة صورة البشرية في قبضة
الباريء:ينشرها من همود الموت أول مرة ، ثم
يقبضها بيد الموت في الأولى ، ثم يحييها كرة
أخرى ، وإليه مرجعها في الآخرة ، كما كانت منه
نشأتها في الأولى . . وفي هذا الاستعراض السريع
يرتسم ظل القدرة القادرة ، ويلقي في الحس
إيحاءاته المؤثرة العميقة
.
ثم
يعقب السياق بومضة أخرى مكملة للومضة الأولى:
هو
الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ؛ ثم استوى إلى
السماء فسواهن سبع سماوات ؛ وهو بكل شيء عليم
. .
ويكثر
المفسرون والمتكلمون هنا من الكلام عن خلق
الأرض والسماء ، يتحدثون عن القبلية والبعدية
. ويتحدثون عن الاستواء والتسوية . . وينسون أن
"قبل وبعد" اصطلاحان بشريان لا مدلول
لهما بالقياس إلى الله تعالى ؛ وينسون أن
الاستواء والتسوية اصطلاحان لغويان يقربان
إلى التصور البشري المحدود صورة غير المحدود .
. ولا يزيدان . . وما كان الجدل الكلامي الذي
ثار بين علماء المسلمين حول هذه التعبيرات
القرآنية ، إلا آفة من آفات الفلسفة
الإغريقية والمباحث اللاهوتية عند اليهود
والنصارى ، عند مخالطتها للعقلية العربية
الصافية ، وللعقلية الإسلامية الناصعة . . وما
كان لنا نحن اليوم أن نقع في هذه الآفة ، فنفسد
جمال العقيدة وجمال القرآن بقضايا علم الكلام
!!
فلنخلص
إذن إلى ما وراء هذه التعبيرات من حقائق موحية
عن خلق ما في الأرض جميعا للإنسان ، ودلالة
هذه الحقيقة على غاية الوجود الإنساني ، وعلى
دوره العظيم في الأرض ، وعلى قيمته في ميزان
الله ، وما وراء هذا كله من تقرير قيمة
الإنسان في التصور الإسلامي ؛ وفي نظام
المجتمع الإسلامي
. .
هو
الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا
. .
إن
كلمة لكم
هنا ذات مدلول عميق وذات إيحاء كذلك عميق .
إنها قاطعة في أن الله خلق هذا الإنسان لأمر
عظيم . خلقه ليكون مستخلفا في الأرض ، مالكا
لما فيها ، فاعلا مؤثرا فيها . إنه الكائن
الأعلى في هذا الملك العريض ؛ والسيد الأول في
هذا الميراث الواسع . ودوره في الأرض إذن وفي
أحداثها وتطوراتها هو الدور الأول ؛ إنه سيد
الأرض وسيد الآلة ! إنه ليس عبدا للآلة كما هو
في العالم المادي اليوم . وليس تابعا للتطورات
التي تحدثها الآلة في علاقات البشر وأوضاعهم
كما يدعي أنصار المادية المطموسون ، الذين
يحقرون دور الإنسان ووضعه ، فيجعلونه تابعا
للآلة الصماء وهو السيد الكريم ! وكل قيمة من
القيم المادية لا يجوز أن تطغى على قيمة
الإنسان ، ولا أن تستذله أو تخضعه أو تستعلي
عليه ؛ وكل هدف ينطوي على تصغير قيمة الإنسان
، مهما يحقق من مزايا مادية ، هو هدف مخالف
لغاية الوجود الإنساني . فكرامة الإنسان أولا
، واستعلاء الإنسان أولا ، ثم تجيء القيم
المادية تابعة مسخرة
.
والنعمة
التي يمتن الله بها على الناس هنا - وهو يستنكر
كفرهم به - ليست مجرد الإنعام عليهم بما في
الأرض جميعا ، ولكنها - إلى ذلك - سيادتهم على
ما في الأرض جميعا ، ومنحهم قيمة أعلى من قيم
الماديات التي تحويها الأرض جميعا . هي نعمة
الاستخلاف والتكريم فوق نعمة
الملك
والانتفاع العظيم
.
ثم
استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات
. .
ولا
مجال للخوض في معنى الاستواء إلا بأنه رمز
السيطرة ، والقصد بإرادة الخلق والتكوين .
كذلك لا مجال للخوض في معنى السماوات السبع
المقصودة هنا وتحديد أشكالها وأبعادها .
اكتفاء بالقصد الكلي من هذا النص ، وهو
التسوية للكون أرضه وسمائه في معرض استنكار
كفر الناس بالخالق المهيمن المسيطر على الكون
، الذي سخر لهم الأرض بما فيها ، ونسق
السماوات بما يجعل الحياة على الأرض ممكنة
مريحة .
وهو
بكل شيء عليم
. .
بما
أنه الخالق لكل شيء ، المدبر لكل شيء . وشمول
العلم في هذا المقام كشمول التدبير . حافز من
حوافز الإيمان بالخالق الواحد ، والتوجه
بالعبادة للمدبر الواحد ، وإفراد الرازق
المنعم بالعبادة اعترافا بالجميل
.
وهكذا
تنتهي الجولة الأولى في السورة . . وكلها تركيز
على الإيمان ، والدعوة إلى اختيار موكب
المؤمنين المتقين
. .