| فهرس الظلال | فهرس الجزء الأول | ||
|
سورة
البقرة مدنية وآياتها ست وثمانون
ومائتان |
|||
|
التعريف
بسورة البقرة |
|||
| الخط
الأول في السورة:كشف عداوة اليهود للدعوة
الإسلامية وهو إلى نهاية الجزء الأول |
|||
|
الخط
الثاني في السورة:أسس بناء الجماعة
المسلمة وإعدادها للخلافة وهو من بداية
الجزء الثاني |
|||
هذه
السورة من أوائل ما نزل من السور بعد الهجرة .
وهي أطول سور القرآن على الإطلاق . والمرجح أن
آياتها لم تنزل متوالية كلها حتى اكتملت قبل
نزول آيات من سور أخرى ؛ فمراجعة أسباب نزول
بعض آياتها وبعض الآيات من السور المدنية
الأخرى - وإن تكن هذه الأسباب ليست قطعية
الثبوت - تفيد أن السور المدنية الطوال لم
تنزل آياتها كلها متوالية ؛ إنما كان يحدث أن
تنزل آيات من سورة لاحقة قبل استكمال سورة
سابقة نزلت مقدماتها ؛ وأن المعول عليه في
ترتيب السور من حيث النزول هو سبق نزول
أوائلها - لا جميعها - وفي هذه السورة آيات في
أواخر ما نزل من القرآن كأيات الربا ، في حين
أن الراجح أن مقدماتها كانت من أول ما نزل من
القرآن في المدينة
.
فأما
تجميع آيات كل سورة في السورة ، وترتيت هذه
الآيات ، فهو توقيفي موحى به . . روى الترمذي -
بإسناده - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال:قلت
لعثمان بن عفان:ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال
وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين ،
وقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر:بسم الله
الرحمن الرحيم ، ووضعتموها في السبع الطوال ؟
وما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان:كان رسول الله
[ ص ] كان مما
يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات
العدد ؛ فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من
كان يكتب ، فيقول: ضعوا
هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا
. وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة ،
وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن ؛ وكانت
قصتها شبيهة بقصتها ، وخشيت أنها منها ؛ وقبض
رسول الله [ ص ]
ولم يبين لنا أنها منها . فمن أجل ذلك قرنت
بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر:بسم الله الرحمن
الرحيم ، ووضعتها
في السبع الطوال
.
فهذه
الرواية تبين أن ترتيب الآيات في كل سورة كان
بتوقيف من رسول الله [ ص ] وقد
روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال
كان النبي [ ص ]
أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في
رمضان حين يلقاه جبريل . وكان جبريل عليه
السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض
عليه النبي [ ص ]
القرآن ، وفي رواية فيدارسه القرآن ، فإذا
لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من
الريح المرسلة . ومن الثابت أن رسول الله
[ ص ] وقد قرأ القرآن كله على جبريل -
عليه السلام - كما أن جبريل قد قرأه عليه . .
ومعنى هذا أنهما قرآه مرتبة
آياته في سوره
.
ومن
ثم يلحظ من يعيش في ظلال القرآن أن لكل سورة من
سوره شخصية مميزة ! شخصية لها روحيعيش معها
القلب كما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح
والسمات والأنفاس ! ولها موضوع رئيسي أو عدة
موضوعات رئيسية مشدودة إلى محور خاص . ولها جو
خاص يظلل موضوعاتها كلها ؛ ويجعل سياقها
يتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة ، تحقق
التناسق بينها وفق هذا الجو . ولها إيقاع
موسيقي خاص - إذا تغير في ثنايا السياق فإنما
يتغير لمناسبة موضوعية خاصة . .
وهذا طابع عام في سور القرآن جميعا . ولا
يشذ عن هذه القاعدة طوال السور كهذه السورة
.
ملابسات
نزول سورة البقرة:وبدايات الهجرة
هذه السورة تضم عدة موضوعات . ولكن المحور
الذي يجمعها كلها محور واحد مزدوج يترابط
الخطان الرئيسيان فيه ترابطا شديدا . . فهي من
ناحية تدور حول موقف بني إسرائيل من الدعوة
الإسلامية في المدينة ، واستقبالهم لها ،
ومواجهتهم لرسولها [
ص ] وللجماعة
المسلمة الناشئة على أساسها . . . وسائر ما
يتعلق بهذا الموقف بما فيه تلك العلاقة
القوية بين اليهود والمنافقين من جهة ، وبين
اليهود والمشركين من جهة أخرى . . وهي من
الناحية الأخرى تدور حول موقف الجماعة
المسلمة في أول نشأتها ؛ وإعدادها لحمل أمانة
الدعوة والخلافة في الأرض ، بعد أن تعلن
السورة نكول بني إسرائيل عن حملها ، ونقضهم
لعهد الله بخصوصها ، وتجريدهم من شرف
الانتساب الحقيقي لإبراهيم - عليه السلام -
صاحب الحنيفية الأولى ، وتبصير الجماعة
المسلمة وتحذيرها من العثرات التي سببت
تجريد
بني إسرائيل من هذا الشرف العظيم . . وكل
موضوعات السورة تدور حول هذا المحور المزدوج
بخطيه الرئيسيين ، كما سيجيء في استعراضها
التفصيلي .
ولكي
يتضح مدى الارتباط بين محور السورة
وموضوعاتها من جهة ، وبين خط سير الدعوة أول
العهد بالمدينة ، وحياة الجماعة المسلمة
وملابساتها من الجهة الأخرى . . يحسن أن نلقي
ضوءا على مجمل هذه الملابسات التي نزلت آيات
السورة لمواجهتها ابتداء . مع التنبيه الدائم
إلى أن
هذه الملابسات في عمومها هي الملابسات التي
ظلت الدعوة الإسلامية وأصحابها يواجهونها -
مع اختلاف يسير - على مر العصور وكر الدهور ؛
من أعدائها وأوليائها على السواء . مما يجعل
هذه التوجيهات القرآنية هي دستور هذه الدعوة
الخالد ؛ ويبث في هذه النصوص حياة تتجدد
لمواجهة
كل عصر وكل طور ؛ ويرفعها معالم للطريق أمام
الأمة المسلمة تهتدي بها في طريقها الطويل
الشاق ، بين العداوات المتعددة المظاهر
المتوحدة الطبيعة . . وهذا هو الإعجاز يتبدى
جانب من جوانبه في هذه السمة الثابتة المميزة
في كل نص قرآني .
لقد
تمت هجرة الرسول [ ص ]
إلى المدينة بعد تمهيد ثابت وإعداد محكم .
تمت تحت تأثير ظروف حتمت هذه الهجرة ؛ وجعلتها
إجراء ضروريا لسير هذه الدعوة في الخط
المرسوم الذي قدره الله لها بتدبيره . . كان
موقف قريش العنيد من الدعوة في مكة - وبخاصة
بعد وفاة خديجة - رضي الله عنها - وموت أبي طالب
كافل النبي وحاميه . . كان هذا الموقف قد انتهى
إلى تجميد الدعوة تقريبا في مكة وما حولها .
ومع استمرار دخول أفراد في الإسلام على الرغم
من جميع الاضطهادات والتدبيرات فإن الدعوة
كانت تعتبر قد تجمدت فعلا في مكة وما حولها ،
بموقف قريش منها ، وتحالفهم على حربها بشتى
الوسائل ، مما جعل بقية العرب تقف موقف التحرز
والانتظار ، في ارتقاب نتيجة المعركة بين
الرسول وعشيرته الأقربين ، وعلى رأسهم أبو
لهب وعمرو بن هشام وأبو سفيان بن حرب وغيرهم
ممن يمتون بصلة القرابة القوية لصاحب الدعوة .
وما كان هناك ما يشجع العرب في بيئة قبلية
لعلاقات القرابة عندها وزن كبير ، على الدخول
في عقيدةرجل تقف منه عشيرته هذا الموقف .
وبخاصة أن عشيرته هذه هي التي تقوم بسدانة
الكعبة ، وهي التي تمثل الناحية الدينية في
الجزيرة !
ومن
ثم كان بحث الرسول [
ص ] عن قاعدة أخرى غير مكة ، قاعدة تحمي
هذه العقيدة وتكفل لها الحرية ، ويتاح لها
فيها أن تخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه
في مكة . حيث تظفر بحرية الدعوة وبحماية
المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة . . وهذا في
تقديري كان هو السبب الأول والأهم للهجرة
.
ولقد
سبق الاتجاه إلى يثرب ، لتكون قاعدة للدعوة
الجديدة ، عدة اتجاهات . . سبقها الاتجاه إلى
الحبشة ، حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين
الأوائل . والقول بأنهم هاجروا إليها لمجرد
النجاة بأنفسهم لا يستند إلى قرائن قوية . فلو
كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس جاها وقوة
ومنعة من المسلمين . غير أن الأمر كان على الضد
من هذا ، فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب
عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة لم
يهاجروا . إنما هاجر رجال ذوو عصبيات ، لهم من
عصبيتهم - في بيئة قبلية - ما يعصمهم من الأذى ،
ويحميهم من الفتنة ؛ وكان عدد القرشيين يؤلف
غالبية المهاجرين ، منهم جعفر بن أبي طالب -
وأبوه وفتيان بني هاشم معه هم الذين كانوا
يحمون النبي [ ص ] ومنهم
الزبير بن العوام ، وعبد الرحمن ابن عوف ،
وأبو سلمة المخزومي ، وعثمان بن عفان الأموي .
. . . وغيرهم . وهاجرت نساء كذلك من أشرف بيوتات
مكة ما كان الأذى لينالهن أبدا . . وربما كان
وراء هذه الهجرة أسباب أخرى كإثارة هزة في
أوساط البيوت الكبيرة في قريش ؛ وأبناؤها
الكرام المكرمون يهاجرون بعقيدتهم ، فرارا من
الجاهلية ، تاركين وراءهم كل وشائج القربى ،
في بيئة قبلية تهزها هذه الهجرة على هذا النحو
هزا عنيفا ؛ وبخاصة حين يكون من بين المهاجرين
مثل أم حبيبة ، بنت أبي سفيان ، زعيم الجاهلية
، وأكبر المتصدين لحرب العقيدة الجديدة
وصاحبها . . ولكن مثل هذه الأسباب لا ينفي
احتمال أن تكون الهجرة إلى الحبشة أحد
الاتجاهات المتكررة في البحث عن قاعدة حرة ،
أو آمنة على الأقل للدعوة الجديدة . وبخاصة
حين نضيف إلى هذا الاستنتاج ما ورد عن إسلام
نجاشي الحبشة . ذلك الإسلام الذي لم يمنعه من
إشهاره نهائيا إلا ثورة البطارقة عليه ، كما
ورد في روايات صحيحة .
كذلك
يبدو اتجاه الرسول [
ص ] إلى الطائف محاولة أخرى لإيجاد
قاعدة حرة أو آمنة على الأقل للدعوة . . وهي
محاولة لم تكلل بالنجاح لأن كبراء ثقيف
استقبلوا رسول الله [
ص ] أسوأ استقبال ،
وسلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم يرجمونه
بالحجارة ، حتى أدموا قدميه الشريفتين ، ولم
يتركوه حتى آوى إلى حائط
[ أي حديقة ] لعتبة
وشيبة إبني ربيعة . . وهناك انطلق لسانه بذلك
الدعاء الخالص العميق: اللهم
أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على
الناس . يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين
وأنت ربي . إلى من تكلني ؟ إلى عدو ملكته أمري !
أم بعيد يتجهمني ؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا
أبالي . ولكن عافيتك أوسع لي . أعوذ بنور وجهك
الذي أشرقت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا
والآخرة ، أن تنزل بي غضبك ، أو تحل علي سخطك .
لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك
.
بعد
ذلك فتح الله على الرسول
[ ص ] وعلى الدعوة من حيث لا يحتسب ،
فكانت بيعة العقبة الأولى ، ثم بيعة العقبة
الثانية . وهما ذواتا صلة قوية بالموضوع الذي
نعالجه في مقدمة هذه السورة ، وبالملابسات
التي وجدت حول الدعوة في المدينة
.
التي
تفتح مغاليق القلب له فيدخل ويؤدي دوره هناك .
هي التي تهيء لهذا القلب أن يلتقط وأن يتلقى
وأن يستجيب .
لا
بد لمن يريد أن يجد الهدى في القرآن أن يجيء
إليه بقلب سليم . بقلب خالص . ثم أن يجيء إليه
بقلب يخشى ويتوقى ، ويحذر أن يكون على ضلالة ،
أو أن تستهويه ضلالة . . وعندئذ يتفتح القرآن
عن أسراره وأنواره ، ويسكبها في هذا القلب
الذي جاء إليه متقيا ، خائفا ، حساسا ، مهيأ
للتلقي . . ورد أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له:أما سلكت
طريقا ذا شوك ؟ قال بلى ! قال:فما عملت ؟ قال:شمرت
واجتهدت . قال:فذلك التقوى . .
فذلك
التقوى . . حساسية في الضمير ، وشفافية في
الشعور ، وخشية مستمرة ، وحذر دائم ، وتوق
لأشواك الطريق . . طريق الحياة . . الذي تتجاذبه
أشواك الرغائب والشهوات ، وأشواك المطامع
والمطامح ، وأشواك المخاوف والهواجس ، وأشواك
الرجاء الكاذب فيمن لا يملك إجابة رجاء
، والخوف
الكاذب ممن لا يملك نفعا ولا ضرا . وعشرات
غيرها من الأشواك !
ثم
يأخذ السياق في بيان صفة المتقين ؛ وهي صفة
السابقين من المؤمنين في المدينة كما أنها
صفة الخلص من مؤمني هذه الأمة في كل حين:
الذين
يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم
ينفقون ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما
أنزل من قبلك ، وبالآخرة هم يوقنون
. .
إن
السمة الأولى للمتقين هي الوحدة الشعورية
الإيجابية الفعالة . الوحدة التي تجمع في
نفوسهم بين الإيمان بالغيب ، والقيام
بالفرائض ، والإيمان بالرسل كافة ، واليقين
بعد ذلك بالآخرة . . هذا التكامل الذي تمتاز به
العقيدة الإسلامية ، وتمتاز به النفس المؤمنة
بهذه العقيدة
، والجدير بأن تكون عليه العقيدة الأخيرة
التي جاءت ليلتقي عليها الناس جميعا ،
ولتهيمن على البشرية جميعا ، وليعيش الناس في
ظلالها بمشاعرهم وبمنهج حياتهم حياة متكاملة
، شاملة للشعور والعمل ، والإيمان والنظام
.
فإذا
نحن أخذنا في تفصيل هذه السمة الأولى للمتقين
إلى مفرداتها التي تتألف منها ، انكشفت لنا
هذه المفردات عن قيم أساسية في حياة البشرية
جميعا . .
الذين
يؤمنون بالغيب . .
فلا تقوم حواجز الحس دون الاتصال بين أرواحهم
والقوة الكبرى التي صدرت عنها ، وصدر عنها هذا
الوجود ؛ ولا تقوم حواجز الحس بين أرواحهم
وسائر ما وراء الحس من حقائق وقوى وطاقات
وخلائق وموجودات .
والإيمان
بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان ،
فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما
تدركه حواسه ، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن
الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير
المحدد الذي تدركه الحواس - أو الأجهزة التي
هي امتداد للحواس - وهي نقلة بعيدة الأثر في
تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة
وجوده الذاتي ، ولحقيقة القوى المنطلقة في
كيان هذا الوجود ، وفي إحساسه بالكون وما وراء
الكون من قدرة وتدبير . كما أنها بعيدة الأثر
في حياته على الأرض ؛ فليس من يعيش في الحيز
الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون
الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته ؛ ويتلقى
أصداءه وإيحاءاته في أطوائهوقصة ذلك في
اختصار:أن النبي [ ص ]
التقى قبل الهجرة إلى يثرب بسنتين بجماعة
من الخزرج في موسم الحج ، حيث كان يعرض نفسه
ودعوته على الوافدين للحج ؛ ويطلب حاميا
يحميه حتى يبلغ دعوة ربه . وكان سكان يثرب من
العرب - الأوس والخزرج - يسمعون من اليهود
المقيمين معهم ، أن هنالك نبيا قد أطل زمانه ؛
وكانت يهود تستفتح به على العرب ، أي تطلب أن
يفتح لهم على يديه ، وأن يكون معهم على كل من
عداهم . فلما سمع وفد الخزرج دعوة النبي
[ ص ] قال بعضهم
لبعض:تعلمن والله إنه للنبي الذي توعدكم به
يهود ، فلا تسبقنكم إليه . . وأجابوه لما دعاهم
. وقالوا له:إننا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم
من العداوة والشر ما بينهم . فعسى الله أن
يجمعهم بك . . ولما عادوا إلى قومهم ، وعرضوا
الأمر عليهم ، ارتاحوا له ، ووافقوا عليه
.
فلما
كان العام التالي وافى الموسم جماعة من الأوس
والخزرج ، فالتقوا بالنبي [ ص ] وبايعوه
على الإسلام . وقد أرسل معهم من يعلمهم أمر
دينهم .
وفي
الموسم التالي وفد عليه جماعة كبيرة من الأوس
والخزرج كذلك ، فطلبوا أن يبايعوه ، وتمت
البيعة بحضور العباس عم النبي
[ ص ] على أن
يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم .
وتسمى هذه البيعة الثانية بيعة العقبة الكبرى
. . ومما وردت به الروايات في هذه البيعة
ما قاله محمد بن
كعب القرظي:قال عبد الله بن رواحة - رضي الله
عنه - لرسول الله [ ص ]
يعني ليلة العقبة:اشترط لربك ولنفسك ما
شئت . فقال: اشترط
لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ؛ واشترط
لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم
وأموالكم . قال:فما
لنا إذا فعلنا ذلك ؟ قال:
الجنة . قالوا:ربح
البيع ولا نقيل ولا نستقبل
!
وهكذا
أخذوا الأمر بقوة . . ومن ثم فشا الإسلام في
المدينة ، حتى لم يبق فيها بيت لم يدخله
الإسلام . وأخذ المسلمون في مكة يهاجرون إلى
المدينة تباعا ، تاركين وراءهم كل شيء ، ناجين
بعقيدتهم وحدها ، حيث لقوا من إخوانهم الذين
تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ، من الإيثار
والإخاء ما لم تعرف له الإنسانية نظيرا قط . ثم
هاجر رسول الله [ ص ]
وصاحبه الصديق . هاجر إلى القاعدة الحرة
القوية الآمنة التي بحث عنها من قبل طويلا . .
وقامت الدولة الإسلامية في هذه القاعدة منذ
اليوم الأول لهجرة الرسول
[ ص ]
.
الخط
الأول في السورة:كشف عداوة اليهود للدعوة
الإسلامية وهو إلى نهاية الجزء الأول
من أولئك السابقين من المهاجرين والأنصار
تكونت طبقة ممتازة من المسلمين نوه القرآن
بها في مواضع كثيرة . وهنا نجد السورة تفتتح
بتقرير مقومات الإيمان ، وهي تمثل صفة
المؤمنين الصادقين إطلاقا . ولكنها أولا تصف
ذلك الفريق من المسلمين الذي كان قائما
بالمدينة حينذاك: الم ذلك الكتاب لا ريب فيه ،
هدى للمتقين ، الذين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون
الصلاة ، ومما رزقناهم ينفقون . والذين يؤمنون
بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، وبالآخرة هم
يوقنون . أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم
المفلحون . .
ثم
نجد بعدها مباشرة في السياق وصفا للكفار ؛ وهو
يمثل مقومات الكفر على الإطلاق . ولكنه أولا
وصف مباشر للكفار الذين كانت الدعوة تواجههم
حينذاك ، سواء في مكة أو فيما حول المدينة
ذاتها من طوائف الكفار:
إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم
تنذرهم لا يؤمنون . ختم الله على قلوبهم وعلى
سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ، ولهم عذاب عظيم
. .
كذلك
كانت هناك طائفة المنافقين . ووجود هذه
الطائفة نشأ مباشرة من الأوضاع التي أنشأتها
الهجرة النبوية إلى المدينة في ظروفها التي
تمت فيها ، والتي أشرنا إليها من قبل ؛ ولم يكن
لها وجود بمكة . فالإسلام في مكة لم تكن له
دولة ولم تكن له قوة ، بل لم تكن له عصبة
يخشاها أهل مكة فينافقونها . على الضد من ذلك
كان الإسلام مضطهدا ، وكانت الدعوة مطاردة ،
وكان الذين يغامرون بالانضمام إلى الصف
الإسلامي هم المخلصون في عقيدتهم ، الذين
يؤثرونها على كل شيء ويحتملون في سبيلها كل
شيء . فأما في يثرب التي أصبحت منذ اليوم تعرف
باسم المدينة - أي
مدينة الرسول - فقد أصبح الإسلام قوة يحسب
حسابها كل أحد ؛ ويضطر لمصانعتها كثيرا أو
قليلا - وبخاصة بعد غزوة بدر وانتصار المسلمين
فيها انتصارا عظيما - وفي مقدمة من كان مضطرا
لمصانعتها نفر من الكبراء ، دخل أهلهم
وشيعتهم في الإسلام وأصبحوا هم ولا بد لهم لكي
يحتفظوا بمقامهم الموروث بينهم وبمصالحهم
كذلك أن يتظاهروا باعتناق الدين الذي اعتنقه
أهلهم وأشياعهم . ومن هؤلاء عبد الله بن أبي بن
سلول الذي كان قومه ينظمون له الخرز ليتوجوه
ملكا عليهم قبيل مقدم الإسلام على المدينة
. .
وسنجد
في أول السورة وصفا مطولا لهؤلاء المنافقين ،
ندرك من بعض فقراته أن المعني بهم في الغالب
هم أولئك الكبراء الذين أرغموا على التظاهر
بالإسلام ، ولم ينسوا بعد ترفعهم على جماهير
الناس ، وتسمية هذه الجماهير بالسفهاء على
طريقة العلية المتكبرين !: ومن الناس من يقول
آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين .
يخادعون الله والذين آمنوا ، وما يخدعون إلا
أنفسهم وما يشعرون . في قلوبهم مرض فزادهم
الله مرضا ؛ ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون .
وإذا قيل لهم:لا تفسدوا في الأرض قالوا:إنما
نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون
ولكن لا يشعرون .
وإذا قيل لهم:آمنوا كما آمن الناس قالوا:أنؤمن
كما آمن السفهاء ؟ ألا إنهم هم السفهاء ولكن
لا يعلمون . وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا:آمنا
، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا:إنا معكم إنما
نحن مستهزؤون . الله يستهزئ بهم ويمدهم في
طغيانهم يعمهون . أولئك الذين اشتروا الضلالة
بالهدى فما ربحت تجارتهم ، وما كانوا مهتدين .
مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما
حوله ذهب الله بنورهم ، وتركهم في ظلمات لا
يبصرون . صم بكم عمي فهم لا يرجعون . أو كصيب من
السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ، يجعلون أصابعهم
في آذانهم من الصواعق حذر الموت ، والله محيط
بالكافرين . يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما
أضاء لهم مشوا فيه ، وإذا أظلم عليهم قاموا ،
ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ، إن الله
على كل شيء قدير . .
وفي
ثنايا هذه الحملة على المنافقين - الذين في
قلوبهم مرض - نجد إشارة إلى شياطينهم .
والظاهر من سياق السورة ومن سياق الأحداث في
السيرة أنها تعني اليهود ، الذين تضمنت
السورة حملات شديدة عليهم فيما بعد . أما
قصتهم مع الدعوة فنلخصها في هذه السطور
القليلة:
لقد
كان اليهود هم أول من اصطدم بالدعوة في
المدينة ؛ وكان لهذا الاصطدام أسبابه الكثيرة
. . كان لليهود في يثرب مركز ممتاز بسبب أنهم
أهل كتاب بين الأميين من العرب - الأوس
والخزرج - ومع أن مشركي العرب لم يظهروا ميلا
لاعتناق ديانة أهل الكتاب هؤلاء ، إلا أنهم
كانوا يعدونهم أعلم منهم وأحكم بسبب ما لديهم
من كتاب . ثم كان هنالك ظرف موات لليهود فيما
بين الأوس والخزرج من فرقة وخصام - وهي البيئة
التي يجد اليهود دائما لهم فيها عملا ! - فلما
أن جاء الإسلام سلبهم هذه المزايا جميعا . .
فلقد جاء بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتاب
ومهيمن عليه . ثم إنه أزال الفرقة التي كانوا
ينفذون من خلالها للدس والكيد وجر المغانم ،
ووحد الصف الإسلامي الذي ضم الأوس والخزرج ،
وقد أصبحوا منذ اليوميعرفون بالأنصار ، إلى
المهاجرين ، وألف منهم جميعا ذلك المجتمع
المسلم المتضام المتراص الذي لم تعهد له
البشرية من قبل ولا من بعد نظيرا على الإطلاق
.
ولقد
كان اليهود يزعمون أنهم شعب الله المختار ،
وأن فيهم الرسالة والكتاب . فكانوا يتطلعون أن
يكون الرسول الأخير فيهم كما توقعوا دائما .
فلما أن جاء من العرب ظلوا يتوقعون أن يعتبرهم
خارج نطاق دعوته ، وأن يقصر الدعوة على
الأميين من العرب ! فلما وجدوه يدعوهم -
أول
من يدعو - إلى كتاب الله ، بحكم أنهم أعرف به من
المشركين ، وأجدر بالاستجابة له من المشركين .
. أخذتهم العزة بالإثم ، وعدوا توجيه الدعوة
إليهم إهانة واستطالة !
ثم
إنهم حسدوا النبي [ ص
] حسدا شديدا . حسدوه
مرتين:مرة لأن الله اختاره وأنزل عليه الكتاب
- وهم لم يكونوا يشكون في صحته - وحسدوه لما
لقيه من نجاح سريع شامل في محيط المدينة
.
على
أنه كان هناك سبب آخر لحنقهم ولموقفهم من
الإسلام موقف العداء والهجوم منذ الأيام
الأولى:ذلك هو شعورهم بالخطر من عزلهم عن
المجتمع المدني الذي كانوا يزاولون فيه
القيادة العقلية والتجارة الرابحة والربا
المضعف ! هذا أو يستجيبوا للدعوة الجديدة .
ويذوبوا في المجتمع الإسلامي . وهما أمران - في
تقديرهم - أحلاهما مر !
لهذا
كله وقف اليهود من الدعوة الإسلامية هذا
الموقف الذي تصفه سورة البقرة ، [ وسور غيرها كثيرة ]
في تفصيل دقيق ، نقتطف هنا بعض الآيات
التي تشير إليه . . جاء في مقدمة الحديث عن بني
إسرائيل هذ النداء العلوي لهم:
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت
عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون
. وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم . ولا
تكونوا أول كافر به ، ولا تشتروا بآياتي ثمنا
قليلا ، وإياي فاتقون . ولا تلبسوا الحق
بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون . وأقيموا
الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين .
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ؟ وأنتم
تتلون الكتاب ؟ أفلا تعقلون ؟
. . وبعد تذكيرهم طويلا بمواقفهم مع نبيهم
موسى - عليه السلام - وجحودهم لنعم الله عليهم
، وفسوقهم عن كتابهم وشريعتهم . . ونكثهم لعهد
الله معهم . . جاء في سياق الخطاب لتحذير
المسلمين منهم: أفتطمعون
أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام
الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ؟
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا:آمنا ، وإذا خلا
بعضهم إلى بعض قالوا:أتحدثونهم بما فتح الله
عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ؟ أفلا تعقلون ؟
. . وقالوا:لن
تمسنا النار إلا أياما معدودة . قل:أتخذتم عند
الله عهدا فلن يخلف الله عهده ؟ أم تقولون على
الله ما لا تعلمون ؟ . . ولما
جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا
من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم
ما عرفوا كفروا به ، فلعنة الله على الكافرين
. . . وإذا قيل
لهم:آمنوا بما أنزل الله . قالوا:نؤمن بما أنزل
علينا ، ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما
معهم . . . ولما جاءهم رسول من عند الله
مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب
كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون . . . ما
يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين
أن ينزل عليكم من خير من ربكم
. . . ود كثير من
أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا
حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق
. . . وقالوا:لن
يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى . تلك
أمانيهم . . .
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع
ملتهم . . . الخ الخ
.
وكانت
معجزة القرآن الخالدة أن صفتهم التي دمغهم
بها هي الصفة الملازمة لهم في كل أجيالهم من
قبلالإسلام ومن بعده إلى يومنا هذا . مما جعل
القرآن يخاطبهم - في عهد النبي
[ ص ] كما لو
كانوا هم أنفسهم الذين كانوا على عهد موسى -
عليه السلام - وعلى عهود خلفائه من
أنبيائهم
باعتبارهم جبلة واحدة . سماتهم هي هي ، ودورهم
هو هو ، وموقفهم من الحق والخلق موقفهم على
مدار الزمان ! ومن ثم يكثر الالتفات في السياق
من خطاب قوم موسى ، إلى خطاب اليهود في
المدينة ، إلى خطاب أجيال بين هذين الجيلين .
ومن ثم تبقى كلمات القرآن حية كأنما تواجه
موقف الأمة المسلمة اليوم وموقف اليهود منها .
وتتحدث عن استقبال يهود لهذه العقيدة ولهذه
الدعوة اليوم وغدا كما استقبلتها بالأمس
تماما ! وكأن هذه الكلمات الخالدة هي التنبيه
الحاضر والتحذير الدائم للأمة المسلمة ، تجاه
أعدائها الذين واجهوا أسلافها بما يواجهونها
اليوم به من دس وكيد ، وحرب منوعة المظاهر ،
متحدة الحقيقة !
الخط
الثاني في السورة:أسس بناء الجماعة المسلمة
وإعدادها للخلافة وهو من بداية الجزء الثاني
وهذه السورة التي تضمنت هذا الوصف ، وهذا
التنبيه ، وهذا التحذير ، تضمنت كذلك بناء
الجماعة المسلمة وإعدادها لحمل أمانة
العقيدة في الأرض بعد نكول بني إسرائيل عن
حملها
قديما ، ووقوفهم في وجهها هذه الوقفة أخيرا
. .
تبدأ
السورة - كما أسلفنا - بوصف تلك الطوائف التي
كانت تواجه الدعوة أول العهد بالهجرة - بما في
ذلك تلك الإشارة إلى الشياطين اليهود الذين
يرد ذكرهم فيما بعد مطولا - وتلك الطوائف هي
التي تواجه هذه الدعوة على مدار التاريخ بعد
ذلك . ثم تمضي السورة على محورها بخطيه
الأساسيين إلى نهايتها . في وحدة ملحوظة ،
تمثل الشخصية الخاصة للسورة ، مع تعدد
الموضوعات التي تتناولها وتنوعها
.
فبعد
استعراض النماذج الثلاثة الأولى:المتقين .
والكافرين . والمنافقين . وبعد الإشارة
الضمنية لليهود الشياطين . . نجد دعوة للناس
جميعا إلى عبادة الله والإيمان بالكتاب
المنزل على عبده . وتحدي المرتابين فيه أن
يأتوا بسورة من مثله . وتهديد الكافرين بالنار
وتبشير المؤمنين بالجنة . . ثم نجد التعجيب من
أمر الذين يكفرون بالله:
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ،
ثم يميتكم ثم يحييكم ، ثم إليه ترجعون ! هو
الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ، ثم استوى إلى
السماء فسواهن سبع سماوات ، وهو بكل شيء عليم
. .
وعند
هذا المقطع الذي يشير إلى خلق ما في الأرض
جميعا للناس تجيء قصة استخلاف آدم في الأرض:
وإذ قال ربك للملائكة:إني جاعل في الأرض
خليفة . . وتمضي
القصة تصف المعركة الخالدة بين آدم والشيطان
حتى تنتهي بعهد الاستخلاف - وهو عهد الإيمان -:
قلنا:اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني
هدى ، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم
يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك
أصحاب النار هم فيها خالدون
. .
بعد
هذا يبدأ السياق جولة واسعة طويلة مع بني
إسرائيل - أشرنا إلى فقرات منها فيما سبق -
تتخللها دعوتهم للدخول في دين الله وما أنزله
الله مصدقا لما معهم مع تذكيرهم بعثراتهم
وخطاياهم والتوائهم وتلبيسهم منذ أيام موسى -
عليه السلام - وتستغرق هذه الجولة كل هذا
الجزء الأول من السورة .
ومن
خلال هذه الجولة ترتسم صورة واضحة لاستقبال
بني إسرائيل للإسلام ورسوله وكتابه . . لقد
كانوا أول كافر به . وكانوا يلبسون الحق
بالباطل . وكانوا يأمرون الناس بالبر - وهو
الإيمان - وينسون أنفسهم . وكانوا يسمعون كلام
الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه . وكانوا
يخادعون الذين آمنوا باظهار الإيمان وإذا خلا
بعضهم إلى بعض حذر بعضهم بعضا من إطلاع
المسلمين على ما يعلمونه من أمر النبي وصحة
رسالته ! وكانوا يريدونإن يردوا المسلمين
كفارا . وكانوا يدعون من أجل هذا أن المهتدين
هم اليهود وحدهم - كما كان النصارى يدعون هذا
أيضا - وكانوا يعلنون
عداءهم لجبريل - عليه السلام - بما أنه هو الذي
حمل الوحي إلى محمد دونهم ! وكانوا يكرهون كل
خير للمسلمين ويتربصون بهم السوء . وكانوا
ينتهزون كل فرصة للتشكيك في صحة الأوامر
النبوية ومجيئها من عند الله تعالى - كما
فعلوا عند تحويل القبلة - وكانوا مصدر إيحاء
وتوجيه للمنافقين . كما كانوا مصدر تشجيع
للمشركين .
ومن
ثم تتضمن السورة حملة قوية على أفاعيلهم هذه ؛
وتذكرهم بمواقفهم المماثلة من نبيهم موسى -
عليه السلام - ومن شرائعهم وأنبيائهم على مدار
أجيالهم . وتخاطبهم في هذا كأنهم جيل واحد
متصل ، وجبلة واحدة لا تتغير ولا تتبدل
.
وتنتهي
هذه الحملة بتيئيس المسلمين من الطمع في
إيمانهم لهم ، وهم على هذه الجبلة الملتوية
القصد ، المؤوفة الطبع . كما تنتهي بفصل
الخطاب في دعواهم أنهم وحدهم المهتدون ، بما
أنهم ورثة إبراهيم . وتبين أن ورثة إبراهيم
الحقيقيين هم الذين يمضون على سنته ،
ويتقيدون بعهده مع ربه ؛ وأن وراثة إبراهيم قد
انتهت إذن إلى محمد [
ص ] والمؤمنين به ،
بعد ما انحرف اليهود وبدلوا ونكلوا عن حمل
أمانة العقيدة ، والخلافة في الأرض بمنهج
الله ؛ ونهض بهذا الأمر محمد والذين معه . وأن
هذا كان استجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل -
عليهما السلام - وهما يرفعان القواعد من البيت: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن
ذريتنا أمة مسلمة لك ، وأرنا مناسكنا ، وتب
علينا ، إنك أنت التواب الرحيم . ربنا وابعث
فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم
الكتاب والحكمة ويزكيهم ، إنك أنت العزيز
الحكيم .
وعند
هذا الحد يبدأ سياق السورة يتجه إلى النبي
[ ص ] وإلى
الجماعة المسلمة من حوله ؛ حيث يأخذ في وضع
الأسس التي تقوم عليها حياة هذا الجماعة
المستخلفة على دعوة الله في الأرض ، وفي تمييز
هذه الجماعة بطابع خاص ، وبمنهج في التصور وفي
الحياة خاص .
ويبدأ
في هذا بتعيين القبلة التي تتجه إليها هذه
الجماعة . وهي البيت المحرم الذي عهد الله
لإبراهيم وإسماعيل أن يقيماه ويطهراه ليعبد
فيه الله وحده ، هذه القبلة التي كان النبي
[ ص ] يرغب ولا
يصرح في الاتجاه إليها: قد
نرى تقلب وجهك في السماء ، فلنولينك قبلة
ترضاها
فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم
فولوا وجوهكم شطره
. .
ثم
تمضي السورة في بيان المنهج الرباني لهذه
الجماعة المسلمة . منهج التصور والعبادة ،
ومنهج السلوك والمعاملة ، تبين لها أن الذين
يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتا بل أحياء .
وأن الإصابة بالخوف والجوع ونقص الأموال
والأنفس والثمرات ليس شرا يراد بها ، إنما هو
ابتلاء ، ينال الصابرون عليه صلوات الله
ورحمته وهداه . وأن الشيطان يعد الناس الفقر
ويأمرهم بالفحشاء والله يعدهم مغفرة منه
وفضلا . وأن الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من
الظلمات إلى النور ، والذين كفروا أولياؤهم
الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات . .
وتبين لهم بعض
الحلال والحرام في المطاعم والمشارب . وتبين
لهم حقيقة البر لا مظاهره وأشكاله . وتبين لهم
أحكام القصاص في القتلى . وأحكام الوصية .
وأحكام الصوم . وأحكام الجهاد . وأحكام الحج .
وأحكام الزواج والطلاق مع التوسع في دستور
الأسرة بصفة خاصة . وأحكام الصدقة وأحكام
الربا . وأحكام الدين والتجارة
. . .
وفي
مناسبات معينة يرجع السياق إلى الحديث عن بني
إسرائيل من بعد موسى . وعن حلقات من
قصةإبراهيم . ولكن جسم السورة - بعد الجزء
الأول منها - ينصرف إلى بناء الجماعة المسلمة
، وإعدادها لحمل أمانة العقيدة ، والخلافة في
الأرض بمنهج الله وشريعته . وتمييزها بتصورها
الخاص
للوجود ، وارتباطها بربها الذي اختارها لحمل
هذه الأمانة الكبرى .
وفي
النهاية نرى ختام السورة ينعطف على افتتاحها
، فيبين طبيعة التصور الإيماني ، وإيمان
الأمة المسلمة بالأنبياء كلهم ، وبالكتب كلها
وبالغيب وما وراءه ، مع السمع والطاعة: آمن
الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ، كل
آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، لا نفرق
بين
أحد من رسله ، وقالوا:سمعنا وأطعنا ، غفرانك
ربنا وإليك المصير . لا يكلف الله نفسا إلا
وسعها ، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، ربنا
لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، ربنا ولا
تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا
، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ،
واعف
عنا واغفر لنا ، وارحمنا ، أنت مولانا ،
فانصرنا على القوم الكافرين . .
ومن
ثم يتناسق البدء والختام ، وتتجمع موضوعات
السورة بين صفتين من صفات المؤمنين وخصائص
الإيمان .