| فهرس الجزء الأول | |
|
الوحدة
الثانية:آياتها:30 - 39 موضوعها:قصة آدم
واستخلافه |
|
|
ملاحظة يمكنك ملاحظة الآيات معلمة باللون الأصفر من خلال النص |
|
يرد القصص في القرآن في مواضع ومناسبات .
وهذه المناسبات التي يساق القصص من أجلها هي
التي تحدد مساق القصة ، والحلقة التي تعرض
منها ، والصورة التي تأتي عليها ، والطريقة
التي تؤدى بها . تنسيقا للجو الروحي والفكري
والفني الذي تعرض فيه . وبذلك تؤدي دورها
الموضوعي ، وتحقق غايتها النفسية ، وتلقي
إيقاعها المطلوب
.
ويحسب
أناس أن هنالك تكرارا في القصص القرآني ، لأن
القصة الواحدة قد يتكرر عرضها في سور شتى .
ولكن النظرة الفاحصة تؤكد أنه ما من قصة ، أو
حلقة من قصة قد تكررت في صورة واحدة ، من ناحية
القدر الذي يساق ، وطريقة الأداء في السياق .
وأنه حيثما تكررت حلقة كان هنالك جديد تؤديه ،
ينفي حقيقة التكرار
.
ويزيغ
أناس فيزعمون أن هنالك خلقا للحوادث أو تصرفا
فيها ، يقصد به إلى مجرد الفن - بمعنى التزويق
الذي لا يتقيد بواقع - ولكن الحق الذي يلمسه كل
من ينظر في هذا القرآن ، وهو مستقيم الفطرة ،
مفتوح البصيرة ، هو أن المناسبة الموضوعية هي
التي تحدد القدر الذي يعرض من القصة في كل
موضع ، كما تحدد طريقة العرض وخصائص الأداء .
والقرآن كتاب دعوة ، ودستور نظام ، ومنهج حياة
، لا كتاب رواية ولا تسلية ولا تاريخ . وفي
سياق الدعوة يجيء القصص المختار ، بالقدر
وبالطريقة التي تناسب الجو والسياق ، وتحقق
الجمال الفني الصادق ، الذي لا يعتمد على
الخلق والتزويق ، ولكن يعتمد على إبداع العرض
، وقوة الحق ، وجمال الأداء
.
وقصص
الأنبياء في القرآن يمثل موكب الإيمان في
طريقه الممتد الواصل الطويل . ويعرض قصة
الدعوة إلى الله واستجابة البشرية لها جيلا
بعد جيل ؛ كما يعرض طبيعة الإيمان في نفوس هذه
النخبة المختارة من البشر ، وطبيعة تصورهم
للعلاقة بينهم وبين ربهم الذي خصهم بهذا
الفضل العظيم . . وتتبع هذا الموكب الكريم في
طريقه اللاحب يفيض على القلب رضى ونورا
وشفافية ؛ ويشعره بنفاسة هذا العنصر العزيز -
عنصر الإيمان - وأصالته في الوجود . كذلك يكشف
عن حقيقة التصور الإيماني ويميزه في الحس من
سائر التصورات الدخيلة
. .
ومن ثم كان القصص شطرا كبيرا من كتاب الدعوة
الكريم .
فلننظر
الآن في قصة آدم - كما جاءت هنا - في ضوء هذه
الإيضاحات . .
إن
السياق - فيما سبق - يستعرض موكب الحياة ، بل
موكب الوجود كله . ثم يتحدث عن الأرض - في معرض
آلاء الله على الناس - فيقرر أن الله خلق كل ما
فيها لهم . . فهنا في هذا الجو تجيء قصة استخلاف
آدم في الأرض ، ومنحه مقاليدها ، على عهد من
الله وشرط ، وإعطائه المعرفة التي يعالج بها
هذه الخلافة . كما أنها تمهد للحديث عن
استخلاف بني إسرائيل في الأرض بعهد من الله ؛
ثم عزلهم عن هذه الخلافة وتسليم مقاليدها
للأمة المسلمة الوافية بعهد الله
[ كما سيجيء ] فتتسق
القصة مع الجو الذي تساق فيه كل الاتساق
.
فلنعش
لحظات مع قصة البشرية الأولى وما وراءها من
إيحاءات أصيلة:
الدرس
الأول:30 - 39 استخلاف آدم في الأرض على عهد من
الله وشرط
ها نحن أولاء - بعين البصيرة في ومضات
الاستشراف - في ساحة الملأ الأعلى ؛ وها نحن
أولاء نسمع ونرى قصة البشرية الأولى:
وإذ قال ربك للملائكة:إني جاعل في
الأرض خليفة .
وإذن
فهي المشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا الكائن
الجديد في الوجود ، زمام هذه الأرض ، وتطلق
فيها يده ، وتكل إليه إبراز مشيئة الخالق في
الإبداع والتكوين ، والتحليل والتركيب ،
والتحوير والتبديل ؛ وكشف ما في هذه الأرض من
قوى وطاقات ، وكنوز وخامات ، وتسخير هذا
كله
- بإذن الله - في المهمة الضخمة التي وكلها
الله إليه .
وإذن
فقد وهب هذا الكائن الجديد من الطاقات
الكامنة ، والاستعدادات المذخورة كفاء ما في
هذه الأرض من قوى وطاقات ، وكنوز وخامات ؛
ووهب من القوى الخفية ما يحقق المشيئة
الإلهية .
وإذن
فهنالك وحدة أو تناسق بين النواميس التي تحكم
الأرض - وتحكم الكون كله - والنواميس التي تحكم
هذا المخلوق وقواه وطاقاته ، كي لا يقع
التصادم بين هذه النواميس وتلك ؛ وكي لا تتحطم
طاقة الإنسان على صخرة الكون الضخمة
!
وإذن
فهي منزلة عظيمة ، منزلة هذا الإنسان ، في
نظام الوجود على هذه الأرض الفسيحة . وهو
التكريم الذي شاءه له خالقه الكريم
.
هذا
كله بعض إيحاء التعبير العلوي الجليل:
إني جاعل في الأرض خليفة
. . حين نتملاه اليوم بالحس اليقظ والبصيرة
المفتوحة ، ورؤية ما تم في الأرض على يد هذا
الكائن المستخلف في هذا الملك العريض !
قالوا:أتجعل فيها من يفسد فيها
ويسفك الدماء ، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟
.
ويوحي
قول الملائكة هذا بأنه كان لديهم من شواهد
الحال ، أو من تجارب سابقة في الأرض ، أو من
إلهام البصيرة ، ما يكشف لهم عن شيء من فطرة
هذا المخلوق ، أو من مقتضيات حياته على الأرض
؛ وما يجعلهم يعرفون أو يتوقعون أنه سيفسد في
الأرض ، وأنه سيسفك الدماء . . ثم هم - بفطرة
الملائكة البريئة التي لا تتصور إلا الخير
المطلق ، وإلا السلام الشامل - يرون التسبيح
بحمد الله والتقديس له ، هو وحده الغاية
المطلقة للوجود ، وهو وحده العلة الأولى
للخلق . . وهو متحقق بوجودهم هم ، يسبحون بحمد
الله ويقدسون له ، ويعبدونه ولا يفترون عن
عبادته !
لقد
خفيت عليهم حكمة المشيئة العليا ، في بناء هذه
الأرض وعمارتها ، وفي تنمية الحياة وتنويعها
، وفي تحقيق إرادة الخالق وناموس الوجود في
تطويرها وترقيتها وتعديلها ، على يد خليفة
الله في أرضه . هذا الذي قد يفسد أحيانا ، وقد
يسفك الدماء أحيانا ، ليتم من وراء هذا الشر
الجزئي الظاهر خير أكبر وأشمل . خير النمو
الدائم ، والرقي الدائم . خير الحركة الهادمة
البانية . خير المحاولة التي لا تكف ، والتطلع
الذي لا يقف ، والتغيير والتطوير في هذا الملك
الكبير .
عندئذ
جاءهم القرار من العليم بكل شيء ، والخبير
بمصائر الأمور:
قال:إني أعلم ما لا تعلمون
.
وعلم آدم الأسماء كلها ، ثم عرضهم
على الملائكة ، فقال:أنبئوني بأسماء هؤلاء إن
كنتم صادقين . قالوا:سبحانك لا علم لنا إلا ما
علمتنا . إنك أنت العليم الحكيم . قال:يا آدم
أنبئهم بأسمائهم . فلما أنبأهم بأسمائهم ، قال:ألم
أقل لكم:إني أعلم غيب السماوات والأرض ، وأعلم ما تبدون وما
كنتم تكتمون .
ها
نحن أولاء - بعين البصيرة في ومضات الاستشراف -
نشهد ما شهده الملائكة في الملأ الأعلى . . ها
نحن أولاء نشهد طرفا من ذلك السر الإلهي
العظيم الذي أودعه الله هذا الكائن البشري ،
وهو يسلمه مقاليد الخلافة . سر القدرة على
الرمز بالأسماء للمسميات . سر القدرة على
تسمية الأشخاص والأشياء بأسماء يجعلها - وهي
ألفاظ منطوقة - رموزا لتلك الأشخاص والأشياء
المحسوسة . وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة
الإنسان على الأرض . ندرك قيمتها حين نتصور
الصعوبة الكبرى ، لو لم يوهب الإنسان القدرة
على الرمز بالأسماء للمسميات ، والمشقة في
التفاهم والتعامل ، حين يحتاج كل فرد لكي
يتفاهم مع الآخرين على شيء أن يستحضر هذا
الشيء بذاته أمامهم ليتفاهموا بشأنه . . الشأن
شأن نخلة فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا
باستحضار جسم النخلة ! الشأن شأن جبل . فلا
سبيل إلى التفاهم عليه إلا بالذهاب إلى الجبل
! الشأن شأن فرد من الناس فلا سبيل إلى التفاهم
عليه إلا بتحضير هذا الفرد من الناس . . . إنها
مشقة هائلة لا تتصور معها حياة ! وإن الحياة ما
كانت لتمضي في طريقها لو لم يودع الله هذا
الكائن القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات
.
فأما
الملائكة فلا حاجة لهم بهذه الخاصية ، لأنها
لا ضرورة لها في وظيفتهم . ومن ثم لم توهب لهم .
فلما علم الله آدم هذا السر ، وعرض عليهم ما
عرض لم يعرفوا الأسماء . لم يعرفوا كيف يضعون
الرموز اللفظية للأشياء والشخوص . . وجهروا
أمام هذا العجز بتسبيح ربهم ، والاعتراف
بعجزهم ، والإقرار بحدود علمهم ، وهو ما علمهم
. . وعرف آدم . . ثم كان هذا التعقيب الذي يردهم
إلى إدراك حكمة العليم الحكيم:
قال:ألم أقل لكم:إني أعلم غيب
السماوات والأرض ، وأعلم ما تبدون وما كنتم
تكتمون ؟
.
وإذ قلنا للملائكة:اسجدوا لآدم .
فسجدوا .
إنه
التكريم في أعلى صوره ، لهذا المخلوق الذي
يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، ولكنه وهب من
الأسرار ما يرفعه على الملائكة . لقد وهب سر
المعرفة ، كما وهب سر الإرادة المستقلة التي
تختار الطريق . . إن ازدواج طبيعته ، وقدرته
على تحكيم إرادته في شق طريقه ، واضطلاعه
بأمانة
الهداية إلى الله بمحاولته الخاصة . . إن هذا
كله بعض أسرار تكريمه
.
ولقد
سجد الملائكة امتثالا للأمر العلوي الجليل
. . إلا إبليس أبى واستكبر
وكان من الكافرين .
وهنا
تتبدى خليقة الشر مجسمة:عصيان الجليل سبحانه !
والاستكبار عن معرفة الفضل لأهله . والعزة
بالإثم . والاستغلاق عن الفهم
.
ويوحي
السياق أن إبليس لم يكن من جنس الملائكة ،
إنما كان معهم . فلو كان منهم ما عصى . وصفتهم
الأولى أنهم لا
يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
. . والاستثناء هنا لا يدل على أنه من جنسهم
، فكونه معهم يجيز هذا الاستثناء ، كما تقول:جاء
بنو فلان إلا أحمد .
وليس منهم إنما هو
عشيرهم وإبليس من الجن بنص القرآن ، والله خلق
الجان من مارج من نار . وهذا يقطع بأنه ليس من
الملائكة .
والآن
. لقد انكشف ميدان المعركة الخالدة . المعركة
بين خليقة الشر في إبليس ، وخليفة الله في
الأرض . المعركة الخالدة في ضمير الإنسان .
المعركة التي ينتصر فيها الخير بمقدار ما
يستعصم الإنسان بإرادته وعهده مع ربه ،
وينتصر فيها الشر بمقدار ما يستسلم الإنسان
لشهوته . ويبعد عن ربه:
وقلنا:يا آدم اسكن أنت وزوجك
الجنة ، وكلا منها رغدا حيث شئتما ، ولا تقربا
هذه الشجرة ، فتكونا من الظالمين
.
لقد
أبيحت لهما كل ثمار الجنة . . إلا شجرة . . شجرة
واحدة ، ربما كانت ترمز للمحظور الذي لا بد
منه في حياة الأرض . فبغير محظور لا تنبت
الإرادة ، ولا يتميز الإنسان المريد من
الحيوان المسوق ، ولا يمتحن صبر الإنسان على
الوفاء بالعهد والتقيد بالشرط . فالإرادة هي
مفرق الطريق . والذين يستمتعون بلا إرادة هم
من عالم البهيمة ، ولو بدوا في شكل الآدميين
!
فأزلهما الشيطان عنها ، فأخرجهما
مما كانا فيه .
ويا
للتعبير المصور: أزلهما
. . إنه لفظ يرسم صورة الحركة التي يعبر
عنها . وإنك لتكاد تلمح الشيطان وهو يزحزحهما
عن الجنة ، ويدفع بأقدامهما فتزل وتهوي
!
عندئذ
تمت التجربة:نسي آدم عهده ، وضعف أمام الغواية
. وعندئذ حقت كلمة الله ، وصرح قضاؤه:
وقلنا:اهبطوا . . بعضكم لبعض عدو ،
ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين
.
وكان
هذا إيذانا بانطلاق المعركة في مجالها المقدر
لها . بين الشيطان والإنسان . إلى آخر الزمان
.
ونهض
آدم من عثرته ، بما ركب في فطرته ، وأدركته
رحمة ربه التي تدركه دائما عندما يثوب إليها
ويلوذ بها .
فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه
، إنه هو التواب الرحيم .
وتمت
كلمة الله الأخيرة ، وعهده الدائم مع آدم
وذريته . عهد الاستخلاف في هذه الأرض ، وشرط
الفلاح فيها أو البوار
.
قلنا:اهبطوا منها جميعا . فإما
يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم
ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا
أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
.
وانتقلت
المعركة الخالدة إلى ميدانها الأصيل ،
وانطلقت من عقالها ما تهدأ لحظة وما تفتر .
وعرف الإنسان في فجر البشرية كيف ينتصر إذا
شاء الانتصار ، وكيف ينكسر إذا اختار لنفسه
الخسار . . .
وبعد فلا بد من عودة إلى مطالع القصة . قصة
البشرية الأولى .
لقد
قال الله تعالى للملائكة:
إني جاعل في الأرض خليفة
. . وإذن فآدم مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة
الأولى . ففيم إذن كانت تلك الشجرة المحرمة ؟
وفيم إذن كان بلاء آدم ؟ وفيم إذن كان الهبوط
إلى الأرض ، وهو مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة
الأولى ؟
لعلني
المح أن هذه التجربة كانت تربية لهذا الخليفة
وإعدادا . كانت إيقاظا للقوى المذخورة في
كيانه . كانت تدريبا له على تلقي الغواية ،
وتذوق العاقبة ، وتجرع الندامة ، ومعرفة
العدو ، والالتجاء بعد ذلك إلى الملاذ الأمين
.
إن
قصة الشجرة المحرمة ، ووسوسة الشيطان باللذة
، ونسيان العهد بالمعصية ، والصحوة من بعد
السكرة ، والندم وطلب المغفرة . . إنها هي هي
تجربة البشرية المتجددة المكرورة
!
لقد
اقتضت رحمة الله بهذا المخلوق أن يهبط إلى مقر
خلافته ، مزودا بهذه التجربة التي سيتعرض
لمثلها طويلا ، استعدادا للمعركة الدائبة
وموعظة وتحذيرا
. .
وبعد
. . مرة أخرى . . فأين كان هذا الذي كان ؟ وما
الجنة التي عاش فيها آدم وزوجه حينا من الزمان
؟ ومن هم الملائكة ؟ ومن هو إبليس ؟ . . كيف قال
الله تعالى لهم ؟ وكيف أجابوه ؟
. . .
هذا
وأمثاله في القرآن الكريم غيب من الغيب الذي
استأثر الله تعالى بعلمه ؛ وعلم بحكمته أن لا
جدوى للبشر في معرفة كنهه وطبيعته ، فلم يهب
لهم القدرة على إدراكه والإحاطة به ، بالأداة
التي وهبهم إياها لخلافة الأرض ، وليس من
مستلزمات الخلافة أن نطلع على هذا الغيب .
وبقدر ما سخر الله للإنسان من النواميس
الكونية وعرفه بأسرارها ، بقدر ما حجب عنه
أسرار الغيب ، فيما لا جدوى له في معرفته . وما
يزال الإنسان مثلا على الرغم من كل ما فتح له
من الأسرار الكونية يجهل ما وراء اللحظة
الحاضرة جهلا مطلقا ، ولا يملك بأي أداة من
أدوات المعرفة المتاحة له أن يعرف ماذا سيحدث
له بعد لحظة ، وهل النفس الذي خرج من فمه عائد
أم هو آخر أنفاسه ؟ وهذا مثل من الغيب المحجوب
عن البشر ، لأنه لا يدخل في مقتضيات الخلافة ،
بل ربما كان معوقا لها لو كشف للإنسان عنه !
وهنالك الوان من مثل هذه الأسرار المحجوبة عن
الإنسان ، في طي الغيب الذي لا يعلمه إلا الله .
ومن
ثم لم يعد للعقل البشري أن يخوض فيه ، لأنه لا
يملك الوسيلة للوصول إلى شيء من أمره . وكل جهد
يبذل في هذه المحاولة هو جهد ضائع ، ذاهب سدى ،
بلا ثمرة ولا جدوى
.
وإذا
كان العقل البشري لم يوهب الوسيلة للاطلاع
على هذا الغيب المحجوب ؛ فليس سبيله إذن أن
يتبجح فينكر . . فالإنكار حكم يحتاج إلى
المعرفة . والمعرفة هنا ليست من طبيعة العقل ،
وليست في طوق وسائله ، ولا هي ضرورية له في
وظيفته !
إن
الاستسلام للوهم والخرافة شديد الضرر بالغ
الخطورة . ولكن أضر منه وأخطر ، التنكر
للمجهول كله وإنكاره ، واستبعاد الغيب لمجرد
عدم القدرة على الإحاطة به . . إنها تكون نكسة
إلى عالم الحيوان الذي يعيش في المحسوس وحده ،
ولا ينفذ من أسواره إلى الوجود الطليق
.
فلندع
هذا الغيب إذن لصاحبه ، وحسبنا ما يقص لنا عنه
، بالقدر الذي يصلح لنا في حياتنا ، ويصلح
سرائرنا ومعاشنا . ولنأخذ من القصة ما تشير
إليه من حقائق كونية وإنسانية ، ومن تصور
للوجود وارتباطاته ، ومن إيحاء بطبيعة
الإنسان وقيمه وموازينه . . فذلك وحده أنفع
للبشرية وأهدى .
وفي اختصار يناسب ظلال القرآن سنحاول أن نمر
بهذه الإيحاءات والتصورات والحقائق مرورا
مجملا سريعا .
إن
أبرز إيحاءات قصة آدم - كما وردت في هذا الموضع
- هو القيمة الكبرى التي يعطيها التصور
الإسلامي للإنسان ولدوره في الأرض ، ولمكانه
في نظام الوجود ، وللقيم التي يوزن بها . ثم
لحقيقة ارتباطه بعهد الله ، وحقيقة هذا العهد
الذي قامت خلافته على أساسه
. .
وتتبدى
تلك القيمة الكبرى التي يعطيها التصور
الإسلامي للإنسان في الإعلان العلوي الجليل
في الملأ الأعلى الكريم ، أنه مخلوق ليكون
خليفة في الأرض ؛ كما تتبدى في أمر الملائكة
بالسجود له . وفي طرد إبليس الذي استكبر وأبى ،
وفي رعاية الله له أولا وأخيرا
. .
ومن
هذه النظرة للإنسان تنبثق جملة اعتبارات ذات
قيمة كبيرة في عالم التصور وفي عالم الواقع
على السواء .
وأول
اعتبار من هذه الاعتبارات هو أن الإنسان سيد
هذه الأرض ، ومن أجله خلق كل شيء فيها - كما
تقدم ذلك نصا - فهو إذن أعز وأكرم وأغلى من كل
شيء مادي ، ومن كل قيمة مادية في هذه الأرض
جميعا . ولا يجوز إذن أن يستعبد أو يستذل لقاء
توفير قيمة مادية أو شيء مادي . . لا
يجوز أن يعتدي على أي مقوم من مقومات إنسانيته
الكريمة ، ولا أن تهدر أية قيمة من قيمه لقاء
تحقيق أي كسب مادي ، أو إنتاج أي شيء مادي ، أو
تكثير أي عنصر مادي . . فهذه الماديات كلها
مخلوقة - أو مصنوعة - من أجله . من أجل تحقيق
إنسانيته . من أجل تقريروجوده الإنساني . فلا
يجوز إذن أن يكون ثمنها هو سلب قيمة من قيمه
الإنسانية ، أو نقص مقوم من مقومات كرامته
.
والاعتبار
الثاني هو أن دور الإنسان في الأرض هو الدور
الأول . فهو الذي يغير ويبدل في أشكالها وفي
ارتباطاتها ؛ وهو الذي يقود اتجاهاتها
ورحلاتها . وليست وسائل الإنتاج ولا توزيع
الإنتاج ، هي التي تقود الإنسان وراءها ذليلا
سلبيا كما تصوره المذاهب المادية التي تحقر
من دور الإنسان وتصغر ، بقدر ما تعظم في دور
الآلة وتكبر !
إن
النظرة القرآنية تجعل هذا الإنسان بخلافته في
الأرض ، عاملا مهما في نظام الكون ، ملحوظا في
هذا النظام . فخلافته في الأرض تتعلق
بارتباطات شتى مع السماوات ومع الرياح ومع
الأمطار ، ومع الشموس والكواكب . . وكلها ملحوظ
في تصميمها وهندستها إمكان قيام الحياة على
الأرض ، وإمكان قيام هذا الإنسان بالخلافة . .
فأين هذا المكان الملحوظ من ذلك الدور الذليل
الصغير الذي تخصصه له المذاهب المادية ، ولا
تسمح له أن يتعداه ؟
!
وما
من شك أن كلا من نظرة الإسلام هذه ونظرة
المادية للإنسان تؤثر في طبيعة النظام الذي
تقيمه هذه وتلك للإنسان ؛ وطبيعة احترام
المقومات الإنسانية أو إهدارها ؛ وطبيعة
تكريم هذا الإنسان أو تحقيره . . وليس ما نراه
في العالم المادي من إهدار كل حريات الإنسان
وحرماته ومقوماته في سبيل توفير الإنتاج
المادي وتكثيره ، إلا أثرا من آثار تلك النظرة
إلى حقيقة الإنسان ، وحقيقة دوره في هذه الأرض
!
كذلك
ينشأ عن نظرة الإسلام الرفيعة إلى حقيقة
الإنسان ووظيفته إعلاء القيم الأدبية في وزنه
وتقديره ، وإعلاء قيمة الفضائل الخلقية ،
وتكبير قيم الإيمان والصلاح والإخلاص في
حياته . فهذه هي القيم التي يقوم عليها عهد
استخلافه: فإما
يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم
ولا هم يحزنون . . . وهذه
القيم أعلى وأكرم من جميع القيم المادية - هذا
مع أن من مفهوم الخلافة تحقيق هذه القيم
المادية ، ولكن بحيث لا تصبح هي الأصل ولا
تطغى على تلك القيم العليا - ولهذا وزنه في
توجيه القلب البشري إلى الطهارة والارتفاع
والنظافة في حياته . بخلاف ما توحيه المذاهب
المادية من استهزاء بكل القيم الروحية ،
وإهدار لكل القيم الأدبية ، في سبيل الاهتمام
المجرد بالإنتاج والسلع ومطالب
البطون
كالحيوان !
وفي
التصور الإسلامي اعلاء من شأن الإرادة في
الإنسان فهي مناط العهد مع الله ، وهي مناط
التكليف والجزاء . . إنه يملك الارتفاع على
مقام الملائكة بحفظ عهده مع ربه عن طريق تحكيم
إرادته ، وعدم الخضوع لشهواته ، والاستعلاء
على الغواية التي توجه إليه . بينما يملك أن
يشقي نفسه ويهبط من عليائه ، بتغليب الشهوة
على الإرادة ، والغواية على الهداية ، ونسيان
العهد الذي يرفعه إلى مولاه . وفي هذا مظهر من
مظاهر التكريم لا شك فيه ، يضاف إلى عناصر
التكريم الأخرى . كما أن فيه تذكيرا دائما
بمفرق الطريق بين السعادة والشقاوة ، والرفعة
والهبوط ، ومقام الإنسان المريد ودرك الحيوان
المسوق !
وفي
أحداث المعركة التي تصورها القصة بين الإنسان
والشيطان مذكر دائم بطبيعة المعركة . إنها بين
عهد الله وغواية الشيطان بين الإيمان والكفر .
بين الحق والباطل . بين الهدى والضلال . .
والإنسان هو نفسه ميدان المعركة . وهو نفسه
الكاسب أو الخاسر فيها . وفي هذا إيحاء دائم له
باليقظة ؛ وتوجيه دائم له بأنه جندي في ميدان
؛ وأنه هو صاحب الغنيمة أو السلب في هذا
الميدان !
وأخيرا
تجيء فكرة الإسلام عن الخطيئة والتوبة . . إن
الخطيئة فردية والتوبة فردية . في تصور واضح
بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض . . ليست هنالك
خطيئة مفروضة على الإنسان قبل مولده - كما
تقول نظرية الكنيسة - وليس هنالك تكفير لاهوتي
، كالذي تقول الكنيسة إن عيسى - عليه السلام -
[ ابن الله بزعمهم ] قام
به بصلبه ، تخليصا لبني آدم من خطيئة آدم ! . .
كلا ! خطيئة آدم كانت خطيئته الشخصية ،
والخلاص منها كان بالتوبة المباشرة في يسر
وبساطة . وخطيئة كل ولد من أولاده خطيئة كذلك
شخصية ، والطريق مفتوح للتوبة في يسر وبساطة .
. تصور مريح صريح . يحمل كل إنسان وزره ، ويوحي
إلى كل إنسان بالجهد والمحاولة وعدم اليأس
والقنوط . . إن الله
تواب رحيم
. .
هذا
طرف من إيحاءات قصة آدم - في هذا الموضع - نكتفي
به في ظلال القرآن . وهو وحده ثروة من الحقائق
والتصورات القويمة ؛ وثروة من الإيحاءات
والتوجيهات الكريمة ؛ وثروة من الأسس التي
يقوم عليها تصور اجتماعي وأوضاع اجتماعية ،
يحكمها الخلق والخير والفضيلة . ومن هذا الطرف
نستطيع أن ندرك أهمية القصص القرآني في تركيز
قواعد التصور الإسلامي ؛ وإيضاح القيم التي
يرتكز عليها . وهي القيم التي تليق بعالم صادر
عن الله ، متجه إلى الله ، صائر إلى الله في
نهاية المطاف . . عقد الاستخلاف فيه قائم على
تلقي الهدى من الله ، والتقيد بمنهجه في
الحياة . ومفرق الطريق فيه أن يسمع الإنسان
ويطيع لما يتلقاه من الله ، أو أن يسمع
الإنسان ويطيع لما يمليه عليه الشيطان . وليس
هناك طريق ثالث . . إما الله وإما الشيطان . إما
الهدى وإما الضلال . إما الحق وإما الباطل .
إما الفلاح وإما الخسران . . وهذه الحقيقة هي
التي يعبر عنها القرآن كله ، بوصفها الحقيقة
الأولى ، التي تقوم عليها سائر التصورات ،
وسائر الأوضاع في عالم الإنسان
. .