بسم
الله الرحمن الرحيم
|
مقدمة في ظلال القران |
|
|
أولا |
|
|
ثانيا |
|
|
ثالثا |
|
| للرجوع للفهرس اضغط Home | |
أولا:من
آثار حياة سيد في ظلال القرآن
الحياة في ظلال القرآن نعمة .
نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها . نعمة ترفع العمر
وتباركه وتزكيه.
والحمد
لله . . لقد منَّ علي بالحياة في ظلال القرآن
فترة من الزمان ، ذقت فيها من نعمته ما لم أذق
قط في حياتي . ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع
العمر وتباركه وتزكيه .
لقد
عشت أسمع الله - سبحانه - يتحدث إلي بهذا
القرآن . . أنا العبد القليل الصغير . . أي تكريم
للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل ؟ أي رفعة
للعمر يرفعها هذا التنزيل ؟ أي مقام كريم
يتفضل به على الإنسان خالقه الكريم ؟
وعشت
- في ظلال القرآن - أنظر من علو إلى الجاهلية
التي تموج في الأرض ، وإلى اهتمامات أهلها
الصغيرة الهزيلة . . أنظر إلى تعاجب أهل هذه
الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال ،
وتصورات الأطفال ، واهتمامات الأطفال . . كما
ينظر الكبير إلى عبث الأطفال ، ومحاولات
الأطفال . ولثغة الأطفال . . وأعجب . . ما بال هذا
الناس ؟! ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة
، ولا يسمعون النداء العلوي الجليل . النداء
الذي يرفع العمر ويباركه ويزكيه ؟
عشت
أتملى - في ظلال القرآن - ذلك التصور الكلامل
الشامل الرفيع النظيف للوجود . . لغاية الوجود
كله ، وغاية الوجود الإنساني . . وأقيس إليه
تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية ، في
شرق وغرب ، وفي شمال وجنوب . . وأسأل . . كيف تعيش
البشرية في المستنقع الآسن ، وفي الدرك
الهابط ، وفي الظلام البهيم وعندها ذلك
المرتع الزكي ، وذلك المرتقى العالي ، وذلك
النور الوضيء ؟
وعشت
- في ظلال القرآن - أحس التناسق الجميل بين
حركة الإنسان كما يريدها الله ، وحركة هذا
الكون الذي أبدعه الله . . ثم أنظر . . فأرى
التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن
السنن الكونية ، والتصادم بين التعاليم
الفاسدة الشريرة التي تملى عليها وبين فطرتها
التي فطرها الله عليها . وأقول في نفسي:أي
شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها إلى هذا
الجحيم ؟ يا حسرة على العباد !!!
وعشت
- في ظلال القرآن - أرى الوجود أكبر بكثير من
ظاهره المشهود . . أكبر في حقيقته ، وأكبر في
تعدد جوانبه . . إنه عالم الغيب والشهادة لا
عالم الشهادة وحده . وإنه الدنيا والآخرة ، لا
هذه الدنيا وحدها . . والنشأة الإنسانية ممتدة
في شعاب هذا المدى المتطاول
كله
إنما هو قسط من ذلك النصيب . وما يفوته هنا من
الجزاء لا يفوته هناك . فلا ظلم ولا بخس ولا
ضياع . على أن المرحلة التي يقطعها على ظهر هذا
الكوكب إنما هي رحلة في كون حي مأنوس ، وعالم
صديق ودود . كون ذي روح تتلقى وتستجيب ، وتتجه
إلى الخالق الواحد الذي تتجه إليه روح المؤمن
في خشوع: ولله
يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها
وظلالهم بالغدو والآصال
. . تسبح له
السماوات السبع والأرض ومن فيهن ، وإن من شيء
إلا يسبح بحمده . . أي
راحة ، وأي سعة وأي أنس ، وأي ثقة يفيضها على
القلب هذا التصور الشامل الكامل الفسيح
الصحيح ؟
وعشت
- في ظلال القرآن - أرى الإنسان أكرم بكثير من
كل تقدير عرفته البشرية من قبل للإنسان ومن
بعد . . إنه إنسان بنفخة من روح الله:
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له
ساجدين . . وهو بهذه
النفخة مستخلف في الأرض:
وإذ قال ربك للملائكة:إني جاعل في الأرض
خليفة . . ومسخر له كل
ما في الأرض: وسخر لكم ما في الأرض جميعا . .
ولأن الإنسان بهذا القدر من الكرامة والسمو
جعل الله الآصرة التي يتجمع عليها البشر هي
الآصرة المستمدة من النفخة الإلهية الكريمة .
جعلها آصرة العقيدة في الله . . فعقيدة المؤمن
هي وطنه ، وهي قومه ، وهي أهله . . ومن ثم يتجمع
البشر عليها وحدها ، لا على أمثال ما تتجمع
عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج ! . .
والمؤمن
ذو نسب عريق ، ضارب في شعاب الزمان . إنه واحد
من ذلك الموكب الكريم ، الذي يقود خطاه ذلك
الرهط الكريم:نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ،
ويعقوب ويوسف ، وموسى وعيسى ، ومحمد . . عليهم
الصلاة والسلام . . وإن
هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون
. .
هذا
الموكب الكريم ، الممتد في شعاب الزمان من
قديم ، يواجه - كما يتجلى في ظلال القرآن -
مواقف متشابهة ، وأزمات متشابهة ، وتجارب
متشابهة على تطاول العصور وكر الدهور ، وتغير
المكان ، وتعدد الأقوام . يواجه الضلال والعمى
والطغيان والهوى ، والاضطهاد والبغي ،
والتهديد والتشريد . ولكنه يمضي في طريقه ثابت
الخطو ، مطمئن الضمير ، واثقا من نصر الله ،
متعلقا بالرجاء فيه ، متوقعا في كل لحظة وعد
الله الصادق الأكيد: وقال الذين كفروا لرسلهم
لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا . فأوحى
إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ، ولنسكننكم
الأرض من بعدهم . ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد
. . موقف واحد وتجربة واحدة . وتهديد واحد .
ويقين واحد . ووعد واحد للموكب الكريم . .
وعاقبة واحدة ينتظرها المؤمنون في نهاية
المطاف . وهم يتلقون الاضطهاد والتهديد
والوعيد . .
وفي ظلال القرآن تعلمت أنه لا مكان في هذا
الوجود للمصادفة العمياء ، ولا للفلتة
العارضة: إنا كل
شيء خلقناه بقدر . .
وخلق كل شيء فقدره تقديرا
. . وكل أمر لحكمة . ولكن حكمة الغيب
العميقة قد لا تتكشف للنظرة الإنسانية
القصيرة: فعسى أن
تكرهوا شيئا ويجعل
الله
فيه خيرا كثيرا . . وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ،
وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم . والله يعلم
وأنتم لا تعلمون . .
والأسباب التي تعارف عليها الناس قد تتبعها
آثارها وقد لا تتبعها ، والمقدمات التي يراها
الناس حتمية قد تعقبها نتائجها وقد لا تعقبها
. ذلك أنه ليست الأسباب والمقدمات هي التي
تنشئ الآثار والنتائج ، وإنما هي الإرادة
الطليقة التي تنشئ الآثار والنتائج كما تنشئ
الأسباب والمقدمات سواء:
لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا
. . وما تشاءون
إلا أن يشاء الله . .
والمؤمن يأخذ بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها
. والله هو الذي يقدر آثارها ونتائجها . .
والاطمئنان إلى رحمة الله وعدله وإلى حكمته
وعلمه هو وحده الملاذ الأمين ، والنجوة من
الهواجس والوساوس: الشيطان
يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ، والله يعدكم
مغفرة منه وفضلا ، والله واسع عليم
. .
ومن
ثم عشت - في ظلال القرآن - هادئ النفس ، مطمئن
السريرة ، قرير الضمير . . عشت أرى يد الله في
كل حادث وفي كل أمر . عشت في كنف الله وفي
رعايته . عشت أستشعر إيجابية صفاته تعالى
وفاعليتها . . أم من
يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ؟
. . وهو
القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير
. . والله غالب
على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
. . واعلموا أن
الله يحول بين المرء وقلبه
. . فعال لما يريد
. . ومن يتق الله
يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ، ومن
يتوكل على الله فهو حسبه . إن الله بالغ أمره
. . ما من دابة
إلا هو آخذ بناصيتها .
. أليس الله بكاف
عبده ويخوفونك بالذين من دونه
. . ومن يهن الله فما له من مكرم
. . ومن يضلل الله
فما له من هاد . . إن
الوجود ليس متروكا لقوانين آلية صماء عمياء .
فهناك دائما وراء السنن الإرادة المدبرة ،
والمشيئة المطلقة . . والله يخلق ما يشاء
ويختار . كذلك تعلمت أن يد الله تعمل . ولكنها
تعمل بطريقتها الخاصة ؛ وأنه ليس لنا أن
نستعجلها ؛ ولا أن نقترح على الله شيئا .
فالمنهج الإلهي - كما يبدو في ظلال القرآن -
موضوع ليعمل في كل بيئة ، وفي كل مرحلة من
مراحل النشأة الإنسانية ، وفي كل حالة من
حالات النفس البشرية الواحدة . . وهو موضوع
لهذا الإنسان الذي يعيش في هذه الأرض ، آخذ في
الاعتبار فطرة هذا الإنسان وطاقاته
واستعداداته ، وقوته وضعفه ، وحالاته
المتغيرة التي تعتريه . . إن ظنه لا يسوء بهذا
الكائن فيحتقر دوره في الأرض ، أو يهدر قيمته
في صورة من صور حياته ، سواء وهو فرد أو وهو
عضو في جماعة . كذلك هو لا يهيم مع الخيال
فيرفع هذا الكائن فوق قدره وفوق طاقته وفوق
مهمته التي أنشأه الله لها يوم أنشأه . . ولا
يفترض في كلتا الحالتين أن مقومات فطرته
سطحية تنشأ بقانون أو تكشط بجرة قلم ! . .
الإنسان هو هذا الكائن بعينه . بفطرته وميوله
واستعداداته يأخذ المنهج الإلهي بيده ليرتفع
به إلى أقصى درجات الكمال المقدر له بحسب
تكوينه ووظيفته ، ويحترم ذاته وفطرته
ومقوماته ، وهو يقوده في طريق الكمال الصاعد
إلى الله . . ومن ثم فإن المنهج الإلهي موضوع
للمدى الطويل - الذي يعلمه خالق هذا الإنسان
ومنزل هذا القرآن - ومن ثم لم يكن معتسفا ولا
عجولا في تحقيق غاياته العليا من هذا المنهج .
إن المدى أمامه ممتد فسيح ، لا يحده عمر فرد ،
ولا تستحثه رغبة فان ، يخشى أن يعجله الموت
عنتحقيق غايته البعيدة ؛ كما يقع لأصحاب
المذاهب الأرضية الذين يعتسفون الأمر كله في
جيل واحد ، ويتخطون الفطرة المتزنة الخطى
لأنهم لا يصبرون على الخطو المتزن ! وفي
الطريق العسوف التي يسلكونها تقوم المجازر ،
وتسيل الدماء ، وتتحطم القيم ، وتضطرب الأمور
. ثم يتحطمون هم في النهاية وتتحطم مذاهبهم
المصطنعة تحت مطارق الفطرة التي لا تصمد لها
المذاهب المعتسفة ! فأما الإسلام فيسير هينا
لينا مع الفطرة ، يدفعها من هنا ، ويردعها من
هناك ، ويقومها حين تميل ، ولكنه لا يكسرها
ولا يحطمها . إنه يصبر عليها صبر العارف
البصير الواثق من الغاية المرسومة . . والذي لا
يتم في هذه الجولة يتم في الجولة الثانية أو
الثالثة أو العاشرة أو المائة أو الألف . .
فالزمن ممتد ، والغاية واضحة ، والطريق إلى
الهدف الكبير طويل ، وكما تنبت الشجرة
الباسقة وتضرب بجذورها في التربة ، وتتطاول
فروعها وتتشابك . . كذلك ينبت الإسلام ويمتد في
بطء وعلى هينة وفي طمأنينة . ثم يكون دائما ما
يريده الله أن يكون . . والزرعة قد تسقى عليها
الرمال ، وقد يأكل بعضها الدود ، وقد يحرقها
الظمأ . وقد يغرقها الري . ولكن الزارع البصير
يعلم أنها زرعة للبقاء والنماء ، وأنها
ستغالب الآفات كلها على المدى الطويل ؛ فلا
يعتسف ولا يقلق ، ولا يحاول إنضاجها بغير
وسائل الفطرة الهادئة المتزنة ، السمحة
الودود . . إنه المنهج الإلهي في الوجود كله . .
ولن تجد لسنة الله تبديلا
. .
والحق
في منهج الله أصيل في بناء هذا الوجود . ليس
فلتة عابرة ، ولا مصادفة غبر مقصودة . . إن الله
سبحانه هو الحق . ومن وجوده تعالى يستمد كل
موجود وجوده: ذلك
بأن الله هو الحق ، وأن ما يدعون من دونه هو
الباطل ، وأن الله هو العلي الكبير
. . وقد خلق الله هذا الكون بالحق لا يتلبس
بخلقه الباطل: ما
خلق الله ذلك إلا بالحق .
. ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك !
والحق هو قوام هذا الوجود فإذا حاد عنه
فسد وهلك: ولو اتبع
الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن
. . ومن ثم فلا بد للحق أن يظهر ، ولا بد
للباطل أن يزهق . . ومهما تكن الظواهر غير هذا
فإن مصيرها إلى تكشف صريح:
بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو
زاهق . .
والخير
والصلاح والإحسان أصيلة كالحق ، باقية بقاءه
في الأرض: أنزل
من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ، فاحتمل
السيل زبدا رابيا ، ومما يوقدون عليه في النار
ابتغاء حلية أو متاع ، زبد مثله . كذلك يضرب
الله الحق والباطل . فأما الزبد فيذهب جفاء
وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض . كذلك يضرب
الله الأمثال . . .
ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة
طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تؤتي
أكلها كل حين بإذن ربها ، ويضرب الله الأمثال
للناس لعلهم يتذكرون . ومثل كلمة خبيثة كشجرة
خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار .
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في
الحياة الدنيا وفي الآخرة . ويضل الله
الظالمين ويفعل الله ما يشاء
. .
أي
طمأنينة ينشئها هذا التصور ؟ وأي سكينة
يفيضها على القلب ؟ وأي ثقة في الحق والخير
والصلاح ؟ وأي قوة واستعلاء على الواقع
الصغير يسكبها في الضمير ؟
ثالثا:أثر الحياة في ظلال القرآن
من فترة الحياة - في ظلال القرآن - إلى يقين
جازم حاسم . . إنه لا صلاح لهذه الأرض ، ولا
راحة لهذه البشرية ، ولا طمأنينة لهذا
الإنسان ، ولا رفعة ولا بركة ولا طهارة ، ولا
تناسق مع سنن الكون وفطرة الحياة . . إلا
بالرجوع إلى الله . .
والرجوع
إلى الله - كما يتجلى في ظلال القرآن - له صورة
واحدة وطريق واحد . . واحد لا سواه . . إنه
العودة بالحياة كلها إلى منهج الله الذي رسمه
للبشرية في كتابه الكريم . . إنه تحكيم هذا
الكتاب وحده في حياتها . والتحاكم إليه وحده
في شؤونها . وإلا فهو الفساد في الأرض ،
والشقاوة للناس ، والارتكاس في الحمأة ،
والجاهلية التي تعبد الهوى من دون الله:
فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون
أهواءهم . ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من
الله ؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين
. .
إن
الاحتكام إلى منهج الله في كتابه ليس نافلة
ولا تطوعا ولا موضع اختيار ، إنما هو الإيمان .
. أو . . فلا إيمان . . وما
كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا
أن يكون لهم الخيرة من أمرهم
. . ثم جعلناك
على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء
الذين لا يعلمون . إنهم لن يغنوا عنك من الله
شيئا ، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض ، والله
ولي المتقين . .
والأمر
إذن جد . . إنه أمر العقيدة من أساسها . . ثم هو
أمر سعادة هذه البشرية أو شقائها . .
إن
هذه البشرية - وهي من صنع الله - لا تفتح مغاليق
فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله ؛ ولا تعالج
أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده
- سبحانه - وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل
مغلق ، وشفاء كل داء: وننزل
من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين
. . إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
. . ولكن هذه البشرية لا تريد أن ترد القفل
إلى صانعه ، ولا أن تذهب بالمريض إلى مبدعه ،
ولا تسلك في أمر نفسها ، وفي أمر إنسانيتها ،
وفي أمر سعادتها أو شقوتها . . ما تعودت أن
تسلكه في أمر الأجهزة والآلات المادية
الزهيدة التي تستخدمها في حاجاتها اليومية
الصغيرة . . وهي تعلم أنها تستدعي لإصلاح
الجهاز مهندس المصنع الذي صنع الجهاز . ولكنها
لا تطبق هذه القاعدة على الإنسان نفسه ، فترده
إلى المصنع الذي منه خرج ، ولا أن تستفتي
المبدع الذي أنشأ هذا الجهاز العجيب ، الجهاز
الإنساني العظيم الكريم الدقيق اللطيف ، الذي
لا يعلم مساربه ومداخله إلا الذي أبدعه
وأنشأه: إنه عليم
بذات الصدور . ألا يعلم من خلق وهو اللطيف
الخبير ؟ . .
ومن
هنا جاءت الشقوة للبشرية الضالة . البشرية
المسكينة الحائرة ، البشرية التي لن تجد
الرشد ، ولن تجد الهدى ، ولن تجد الراحة ، ولن
تجد السعادة ، إلا حين ترد الفطرة البشرية إلى
صانعها الكبير ، كما ترد الجهاز الزهيد إلى
صانعه الصغير !
ولقد
كانت تنحية الإسلام عن قيادة البشرية حدثا
هائلا في تاريخها ، ونكبة قاصمة في حياتها ،
نكبة لم تعرف لها البشرية نظيرا في كل ما ألم
بها من نكبات . .
لقد
كان الإسلام قد تسلم القيادة بعد ما فسدت
الأرض ، وأسنت الحياة ، وتعفنت القيادات ،
وذاقت البشرية الويلات من القيادات المتعفنة
؛ و ظهر الفساد في
البر والبحر بما كسبت أيدي الناس
. .
تسلم
الإسلام القيادة بهذا القرآن ، وبالتصور
الجديد الذي جاء به القرآن ، وبالشريعة
المستمدة من هذا التصور . . فكان ذلك مولدا
جديدا للإنسان أعظم في حقيقته من المولد الذي
كانت به نشأته . لقد أنشأ هذا القرآن للبشرية
تصورا جديدا عن الوجود والحياة والقيم والنظم
؛ كما حقق لها واقعا اجتماعيا فريدا ، كان يعز
على خيالها تصوره مجرد تصور ، قبل أن ينشئه
لها القرآن إنشاء . . نعم ! لقد كان هذا الواقع
من النظافة والجمال ، والعظمة والارتفاع ،
والبساطة واليسر ، والواقعية والإيجابية ،
والتوازن والتناسق . . . بحيث لا يخطر للبشرية
على بال ، لولا أن الله أراده لها ، وحققه في
حياتها . . في ظلال القرآن ، ومنهج القرآن ،
وشريعة القرآن .
ثم
وقعت تلك النكبة القاصمة . ونحي الإسلام عن
القيادة . نحي عنها لتتولاها الجاهلية مرة
أخرى ، في صورة من صورها الكثيرة . صورة
التفكير المادي الذي تتعاجب به البشرية اليوم
، كما يتعاجب الأطفال بالثوب المبرقش واللعبة
الزاهية الألوان !
إن
هناك عصابة من المضللين الخادعين أعداء
البشرية . يضعون لها المنهج الإلهي في كفة
والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة
الأخرى ؛ ثم يقولون لها:اختاري !!! اختاري إما
المنهج الإلهي في الحياة والتخلي عن كل ما
أبدعته يد الإنسان في عالم المادة ، وإما
الأخذ بثمار المعرفة الإنسانية والتخلي عن
منهج الله !!! وهذا خداع لئيم خبيث . فوضع
المسألة ليس هكذا أبدا . . إن المنهج الإلهي
ليس عدوا للإبداع الإنساني . إنما هو منشئ
لهذا الإبداع وموجه له الوجهة الصحيحة . . ذلك
كي ينهض الإنسان بمقام الخلافة في الأرض . هذا
المقام الذي منحه الله له ، وأقدره عليه ،
ووهبه من الطاقات المكنونة ما يكافئ الواجب
المفروض عليه فيه ؛ وسخر له من القوانين
الكونية ما يعينه على تحقيقه ؛ ونسق بين
تكوينه وتكوين هذا الكون ليملك الحياة والعمل
والإبداع . . على أن يكون الإبداع نفسه عبادة
لله ، ووسيلة من وسائل شكره على آلائه العظام
، والتقيد بشرطه في عقد الخلافة ؛ وهو أن يعمل
ويتحرك في نطاق ما يرضي الله . فأما أولئك
الذين يضعون المنهج الإلهي في كفة ، والإبداع
الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى . .
فهم سيئو النية ، شريرون ، يطاردون البشرية
المتعبة الحائرة كلما تعبت من التيه والحيرة
والضلال ، وهمت أن تسمع لصوت الحادي الناصح ،
وأن تؤوب من المتاهة المهلكة وأن تطمئن إلى
كنف الله . . .
وهنالك
آخرون لا ينقصهم حسن النية ؛ ولكن ينقصهم
الوعي الشامل ، والإدراك العميق . . هؤلاء
يبهرهم ما كشفه الإنسان من القوى والقوانين
الطبيعية ، وتروعهم انتصارات الإنسان في عالم
المادة . فيفصل ذلك البهر وهذه الروعة في
شعورهم بين القوى الطبيعية والقيم الإيمانية
، وعملها وأثرها الواقعي في الكون وفي واقع
الحياة ؛ ويجعلون للقوانين الطبيعية مجالا ،
وللقيم الإيمانية مجالا آخر ؛ ويحسبون أن
القوانين الطبيعية تسير في طريقها غير متأثرة
بالقيم الإيمانية ، وتعطي نتائجها سواء آمن
الناس أم كفروا . اتبعوا منهج الله أم خالفوا
عنه . حكموا بشريعة الله أم بأهواء الناس !
هذا
وهم . . إنه فصل بين نوعين من السنن الإلهية هما
في حقيقتهما غير منفصلين . فهذه القيم
الإيمانية هي بعض سنن الله في الكون
كالقوانين الطبيعية سواء بسواء . ونتائجها
مرتبطة ومتداخلة ؛ ولا مبرر للفصل بينهما في
حس المؤمن وفي تصوره . . وهذا هو التصور الصحيح
الذي ينشئه القرآن في النفس حين تعيش في ظلال
القرآن . ينشئه وهو يتحدث عن أهل الكتب
السابقة وانحرافهم عنها وأثر هذا الانحراف في
نهاية المطاف: ولو
أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم
سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم . ولو أنهم
أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من
ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم . وينشئه وهو يتحدث عن وعد نوح
لقومه: فقلت:استغفروا ربكم إنه كان
غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمددكم
بأموال وبنين ، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم
أنهارا . . وينشئه
وهو يربط بين الواقع النفسي للناس والواقع
الخارجي الذي يفعله الله بهم
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم . .
إن
الإيمان بالله ، وعبادته على استقامة ،
وإقرار شريعته في الأرض . . . كلها إنفاذ لسنن
الله . وهي سنن ذات فاعلية إيجابية ، نابعة من
ذات المنبع الذي تنبثق منه سائر السنن
الكونية التي نرى آثارها الواقعية بالحس
والاختبار .
ولقد
تأخذنا في بعض الأحيان مظاهر خادعة لافتراق
السنن الكونية ، حين نرى أن اتباع القوانين
الطبيعية يؤدي إلى النجاح مع مخالفة القيم
الإيمانية . . هذا الافتراق قد لا تظهر نتائجه
في أول الطريق ؛ ولكنها تظهر حتما في نهايته . .
وهذا ما وقع للمجتمع الإسلامي نفسه . لقد بدأ
خط صعوده من نقطة التقاء القوانين الطبيعية
في حياته مع القيم الإيمانية . وبدأ خط هبوطه
من نقطة افتراقهما . وظل يهبط ويهبط كلما
انفرجت زاوية الافتراق حتى وصل إلى الحضيض
عندما أهمل السنن الطبيعية والقيم الإيمانية
جميعا . .
وفي
الطرف الآخر تقف الحضارة المادية اليوم . تقف
كالطائر الذي يرف بجناح واحد جبار ، بينما
جناحه الآخر مهيض ، فيرتقي في الإبداع المادي
بقدر ما يرتكس في المعنى الإنساني . ويعاني من
القلق والحيرة والأمراض النفسية والعصبية ما
يصرخ منه العقلاء هناك . . لولا أنهم لا يهتدون
إلى منهج الله وهو وحده العلاج والدواء .
إن
شريعة الله للناس هي طرف من قانونه الكلي في
الكون . فإنفاذ هذه الشريعة لا بد أن يكون له
أثر إيجابي في التنسيق بين سيرة الناس وسيرة
الكون . . والشريعة إن هي إلا ثمرة الإيمان لا
تقوم وحدها بغير أصلها الكبير . فهي موضوعة
لتنفذ في مجتمع مسلم ، كما أنها موضوعة لتساهم
في بناء المجتمع المسلم . وهي متكاملة مع
التصور الإسلامي كله للوجود الكبير وللوجود
الإنساني ، ومع ما ينشئه هذا التصور من تقوى
في الضمير ، ونظافة في الشعور ، وضخامة في
الاهتمامات ، ورفعة في الخلق ، واستقامة في
السلوك . . . وهكذا يبدو التكامل والتناسق بين
سنن الله كلها سواء ما نسميه القوانين
الطبيعية وما نسميه القيم الإيمانية . . فكلها
أطراف من سنة الله الشاملة لهذا الوجود .
والإنسان
كذلك قوة من قوى الوجود . وعمله وإرادته ،
وإيمانه وصلاحه ، وعبادتهونشاطه . . . . هي كذلك
قوى ذات آثار إيجابية في هذا الوجود وهي
مرتبطة بسنة الله الشاملة للوجود . . وكلها
تعمل متناسقة ، وتعطي ثمارها كاملة حين تتجمع
وتتناسق ، بينما تفسد آثارها وتضطرب وتفسد
الحياة معها ، وتنتشر الشقوة بين الناس
والتعاسة حين تفترق وتتصادم:
ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على
قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
. . فالارتباط قائم وثيق بين عمل الإنسان
وشعوره وبين ماجريات الأحداث في نطاق السنة
الإلهية الشاملة للجميع . ولا يوحي بتمزيق هذا
الارتباط ، ولا يدعو إلى الإخلال بهذا
التناسق ، ولا يحول بين الناس وسنة الله
الجارية ، إلا عدو للبشرية يطاردها دون الهدى
؛ وينبغي لها أن تطارده ، وتقصيه من طريقها
إلى ربها الكريم . .
هذه
بعض الخواطر والانطباعات من فترة الحياة في
ظلال القرآن . لعل الله ينفع بها ويهدي . وما
تشاءون إلا أن يشاء الله . .