الوحدة
الثالثة آياتها:40 - 74 موضوعها:قصة بني
إسرائيل ونكثهم عهد الله وحرمانهم من
الخلافة
|
|
تقديم الوحدة الثالثة |
|
تناسق
موضوعات الوحدة الثالثة
|
|
الدرس
الثاني:47 - 48:تذكير اليهود وتهديدهم
|
|
|
الدرس
الثامن:61 البنية النفسية لليهود وموقفهم
من أداء أمانة التكليف |
|
ابتداء من هذا المقطع في السورة يواجه
السياق بني إسرائيل ، وأولئك الذين واجهوا
الدعوة في المدينة مواجهة نكرة ؛ وقاوموها
مقاومة خفية وظاهرة ؛ وكادوا لها كيدا موصولا
، لم يفتر لحظة منذ أن ظهر الإسلام بالمدينة ؛
وتبين لهم أنه في طريقه إلى الهيمنة على
مقاليدها ، وعزلهم من القيادة الأدبية
والاقتصادية التي كانت لهم ، مذ وحد الأوس
والخزرج ، وسد الثغرات التي كانت تنفذ منها
يهود ، وشرع لهم منهجا مستقلا ، يقوم على أساس
الكتاب الجديد . . هذه المعركة التي شنها
اليهود على الإسلام والمسلمين منذ ذلك
التاريخ البعيد ثم لم يخب أوارها حتى اللحظة
الحاضرة ، بنفس الوسائل ، ونفس الأساليب ، لا
يتغير إلا شكلها ؛ أما حقيقتها فباقية ، وأما
طبيعتها فواحدة ، وذلك على الرغم من أن العالم
كله كان يطاردهم من جهة إلى جهة ، ومن قرن إلى
قرن ، فلا يجدون لهم صدرا حنونا إلا في العالم
الإسلامي المفتوح ، الذي ينكر الاضطهادات
الدينية والعنصرية ، ويفتح أبوابه لكل مسالم
لا يؤذي الإسلام ولا يكيد للمسلمين
!
ولقد
كان المنتظر أن يكون اليهود في المدينة هم أول
من يؤمن بالرسالة الجديدة ويؤمن للرسول
الجديد ؛ مذ كان القرآن يصدق ما جاء في
التوراة في عمومه ؛ ومذ كانوا هم يتوقعون
رسالة هذا الرسول ، وعندهم أوصافه في
البشارات التي يتضمنها كتابهم ؛ وهم كانوا
يستفتحون به على العرب المشركين
.
وهذا
الدرس هو الشطر الأول من هذه الجولة الواسعة
مع بني إسرائيل ؛ بل هذه الحملة الشاملة لكشف
موقفهم وفضح كيدهم ؛ بعد استنفاد كل وسائل
الدعوة معهم لترغيبهم في الإسلام ، والانضمام
إلى موكب الإيمان بالدين الجديد
.
يبدأ هذا الدرس بنداء علوي جليل إلى بني
إسرائيل ، يذكرهم بنعمته - تعالى - عليهم
ويدعوهم إلى الوفاء بعهدهم معه ليوفي بعهده
معهم ، وإلى تقواه وخشيته ؛ يمهد بها لدعوتهم
إلى الإيمان بما أنزله مصدقا لما معهم . ويندد
بموقفهم منه ، وكفرهم به أول من
يكفر ! كما يندد بتلبيسهم الحق بالباطل وكتمان
الحق ليموهوا على الناس - وعلى المسلمين خاصة -
ويشيعوا الفتنة والبلبلة في الصف الإسلامي ،
والشك والارتياب في نفوس الداخلين في الإسلام
الجديد . ويأمرهم أن يدخلوا في الصف . فيقيموا
الصلاة ويؤتوا الزكاة ويركعوا مع الراكعين ،
مستعينين على قهر نفوسهم وتطويعها للاندماج
في الدين الجديد بالصبر والصلاة . وينكر عليهم
أن يكونوا يدعون المشركين إلى الإيمان ، وهم
في الوقت ذاته يأبون أن يدخلوا في دين الله
مسلمين !
ثم
يبدأ في تذكيرهم بنعم الله التي أسبغها عليهم
في تاريخهم الطويل . مخاطبا الحاضرين منهم كما
لو كانوا هم الذين تلقوا هذه النعم على عهد
موسى - عليه السلام - وذلك باعتبار أنهم أمة
واحدة متضامنة الأجيال ، متحدة الجبلة . كما
هم في حقيقة الأمر وفق ما بدا من صفاتهم
ومواقفهم في جميع العصور !
ويعاود
تخويفهم باليوم الذي يخاف ، حيث لا تجزيء نفس
عن نفس شيئا ، ولا يقبل منها شفاعة ، ولا يؤخذ
منها فدية ، ولا يجدون من ينصرهم ويعصمهم من
العذاب .
ويستحضر
أمام خيالهم مشهد نجاتهم من فرعون وملئه كأنه
حاضر . ومشهد النعم الأخرى التي ظلت تتوالى
عليهم من تظليل الغمام إلى المن والسلوى إلى
تفجير الصخر بالماء . . ثم يذكرهم بما كان منهم
بعد ذلك من انحرافات متوالية ، ما يكاد يردهم
عن واحدة منها حتى يعودوا إلى أخرى
، وما يكاد يعفو عنهم من معصية حتى يقعوا في
خطيئة ، وما يكادون ينجون من عثرة حتى يقعوا
في حفرة . . ونفوسهم هي هي في التوائها وعنادها
وإصرارها على الالتواء والعناد ، كما أنها هي
هي في ضعفها عن حمل التكاليف ، ونكولها عن
الأمانة ، ونكثها للعهد ، ونقضها للمواثيق مع
ربها ومع نبيها . . حتى لتبلغ أن تقتل أنبياءها
بغير الحق ، وتكفر بآيات ربها ، وتعبد العجل
وتجدف في حق الله فترفض الإيمان لنبيها حتى
ترى الله جهرة ؛ وتخالف عما أوصاها به الله
وهي تدخل القرية فتفعل وتقول غير ما أمرت به ؛
وتعتدي في السبت ، وتنسى ميثاق الطور ، وتماحل
وتجادل في ذبح البقرة التي أمر الله بذبحها
لحكمة خاصة . . .
وهذا كله مع الإدعاء العريض بأنها هي وحدها
المهتدية ؛ وأن الله لا يرضى إلا عنها ، وأن
جميع الأديان باطلة وجميع الأمم ضالة عداها !
مما يبطله القرآن في هذه الجولة ، ويقرر أن كل
من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا من جميع
الملل ، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم
ولا هم يحزنون . .
حكمة
الحديث المطول عن اليهود
هذه الحملة - سواء ما ورد منها في هذا
الدرس وما يلي منها في سياق السورة - كانت
ضرورية أولا وقبل كل شيء لتحطيم دعاوى يهود ،
وكشف كيدها ، وبيان حقيقتها وحقيقة دوافعها
في الدس للإسلام والمسلمين . كما كانت ضرورية
لتفتيح عيون المسلمين وقلوبهم لهذه الدسائس
والمكايد التي توجه إلى مجتمعهم الجديد ،
وإلى الأصول التي يقوم عليها ؛ كما توجه إلى
وحدة الصف المسلم لخلخلته وإشاعة الفتنة فيه
.
ومن
جانب آخر كانت ضرورية لتحذير المسلمين من
مزالق الطريق التي عثرت فيها أقدام الأمة
المستخلفة قبلهم ، فحرمت مقام الخلافة ،
وسلبت شرف القيام على أمانة الله في الأرض ،
ومنهجه لقيادة البشر . وقد تخللت هذه الحملة
توجيهات ظاهرة وخفية للمسلمين لتحذيرهم من
تلك المزالق كما سيجيء في الشطر الثاني منها
.
وما
كان أحوج الجماعة المسلمة في المدينة إلى هذه
وتلك . وما أحوج الأمة المسلمة في كل وقت إلى
تملي هذه التوجيهات ، وإلى دراسة هذا القرآن
بالعين المفتوحة والحس البصير ، لتتلقى منه
تعليمات القيادة الإلهية العلوية في معاركها
التي تخوضها مع أعدائها التقليديين ؛
ولتعرف
منها كيف ترد على الكيد العميق الخبيث الذي
يوجهونه إليها دائبين ، بأخفى الوسائل ،
وأمكر الطرق . وما يملك قلب لم يهتد بنور
الإيمان ، ولم يتلق التوجيه من تلك القيادة
المطلعة على السر والعلن والباطن والظاهر ،
أن يدرك المسالك والدروب الخفية الخبيثة التي
يتدسس
فيها ذلك الكيد الخبيث المريب
. . .
تناسق
الحديث عن اليهود مع السياق
ثم نلحظ من جانب التناسق الفني والنفسي في
الأداء القرآني ، أن بدء هذه الجولة يلتحم
بختام قصة آدم ، وبالإيحاءات التي أشرنا
إليها هناك ، وهذا جانب من التكامل في السياق
القرآني بين القصص والوسط الذي تعرض فيه:
لقد
مضى السياق قبل ذلك بتقرير أن الله خلق ما في
الأرض جميعا للإنسان . ثم بقصة استخلاف آدم في
الأرض بعهد الله الصريح الدقيق ؛ وتكريمه على
الملائكة ؛ والوصية والنسيان ، والندم
والتوبة ، والهداية والمغفرة ، وتزويده
بالتجربة الأولى في الصراع الطويل في الأرض ،
بين
قوى الشر والفساد والهدم ممثلة في إبليس ،
وقوى الخير والصلاح والبناء ممثلة في الإنسان
المعتصم بالإيمان .
مضى
السياق بهذا كله في السورة . ثم أعقبه بهذه
الجولة مع بني إسرائيل ، فذكر عهد الله معهم
ونكثهم له ؛ ونعمته عليهم وجحودهم بها ؛ ورتب
على هذا حرمانهم من الخلافة ، وكتب عليهم
الذلة ، وحذر المؤمنين كيدهم كما حذرهم
مزالقهم . فكانت هناك صلة ظاهرة بين قصة
استخلاف آدم وقصة استخلاف بني إسرائيل ،
واتساق في السياق واضح وفي الأداء
.
والقرآن لا يعرض هنا قصة بني إسرائيل ، إنما
يشير إلى مواقف منها ومشاهد باختصار أو
بتطويل مناسب . وقد وردت القصة في السور
المكية التي نزلت قبل هذا ، ولكنها هناك كانت
تذكر - مع غيرها - لتثبيت القلة المؤمنة في مكة
بعرض تجارب الدعوة وموكب الإيمان الواصل منذ
أول الخليقة ، وتوجيه
الجماعة المسلمة بما يناسب ظروفها في مكة .
فأما هنا فالقصد هو ما أسلفنا من كشف حقيقة
نوايا اليهود ووسائلهم وتحذير الجماعة
المسلمة منها ، وتحذيرها كذلك من الوقوع في
مثل ما وقعت فيه قبلها يهود . . وبسبب اختلاف
الهدف بين القرآن المكي والقرآن المدني
اختلفت طريقة العرض ؛ وإن كانت الحقائق التي
عرضت هنا وهناك عن انحراف بني إسرائيل
ومعصيتهم واحدة [
كما سيجيء عند استعراض السور المكية السابقة
في ترتيب النزول ]
.
ومن
مراجعة المواضع التي وردت فيها قصة بني
إسرائيل هنا وهناك يتبين أنها متفقة مع
السياق الذي عرضت فيه ، متممة لأهدافه
وتوجيهاته . . وهي هنا متسقة مع السياق قبلها .
سياق تكريم الإنسان ، والعهد إليه والنسيان .
متضمنة إشارات إلى وحدة الإنسانية ، ووحدة
دين الله المنزل إليها ، ووحدة رسالاته ، مع
لفتات ولمسات للنفس البشرية ومقوماتها ، وإلى
عواقب الانحراف عن هذه المقومات التي نيطت
بها خلافة الإنسان في الأرض ؛ فمن كفر بها كفر
بإنسانيته وفقد أسباب خلافته ، وارتكس في
عالم الحيوان .
وقصة
بني إسرائيل هي أكثر القصص ورودا في القرآن
الكريم ؛ والعناية بعرض مواقفها وعبرتها
عناية ظاهرة ، توحي بحكمة الله في علاج أمر
هذه الأمة المسلمة ، وتربيتها وإعدادها
للخلافة الكبرى . .
فلننظر
بعد هذا الإجمال في استعراض النص القرآني:
الدرس
الأول:40 - 46 : توجيهات
قرآنية لليهود
يا
بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ،
وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون .
وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ، ولا تكونوا
أول كافر به ، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ،
وإياي فاتقون . ولا تلبسوا الحق
بالباطل
وتكتموا الحق وأنتم تعلمون . وأقيموا الصلاة
وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين . أتأمرون
الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون
الكتاب ؟ أفلا تعقلون ؟ واستعينوا بالصبر
والصلاة ، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين .
الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ، وأنهم إليه
راجعون
. .
إن
المستعرض لتاريخ بني إسرائيل ليأخذه العجب من
فيض الآلاء التي أفاضها الله عليهم ، ومن
الجحود المنكر المتكرر الذي قابلوا به هذا
الفيض المدرار . . وهنا يذكرهم الله بنعمته
التي انعمها عليهم إجمالا ، قبل البدء في
تفصيل بعضها في الفقر التالية . يذكرهم بها
ليدعوهم بعدها إلى الوفاء بعهدهم معه - سبحانه
- كي يتم عليهم النعمة ويمد لهم في الآلاء:
يا
بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ،
وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم
. .
فأي
عهد هذا الذي يشار إليه في هذا المقام ؟ أهو
العهد الأول ، عهد الله لآدم: فإما يأتينكم مني هدى ، فمن تبع
هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين
كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم
فيها خالدون . . ؟ أم
هو العهد الكوني السابق على عهد الله هذا مع
آدم . العهد المعقود بين فطرة الإنسان وبارئه:أن
يعرفه ويعبده وحده لا شريك له . وهو العهد الذي
لا يحتاج إلى بيان ، ولا يحتاج إلى برهان ، لأن
فطرة الإنسان بذاتها تتجه إليه بأشواقها
اللدنية ، ولا يصدها عنه إلا الغواية
والانحراف ؟ أم هو العهد الخاص الذي قطعه الله
لإبراهيم جد إسرائيل . والذي سيجيء في سياق
السورة: وإذ
ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ، قال:إني
جاعلك للناس إماما ، قال:ومن ذريتي ؟ قال:لا
ينال عهدي الظالمين .
. ؟ أم هو العهد الخاص الذي قطعه الله على بني
إسرائيل وقد رفع فوقهم الطور ،
وأمرهم
أن يأخذوا ما فيه بقوة والذي سيأتي ذكره في
هذه الجولة ؟
إن
هذه العهود جميعا إن هي إلا عهد واحد في
صميمها . إنه العهد بين الباريء وعباده أن
يصغوا قلوبهم إليه ، وأن يسلموا أنفسهم كلها
له . وهذا هو الدين الواحد . وهذا هو الإسلام
الذي جاء به الرسل جميعا ؛ وسار موكب الإيمان
يحمله شعارا له على مدار القرون
.
ووفاء
بهذا العهد يدعو الله بني إسرائيل أن يخافوه
وحده وأن يفردوه بالخشية:
وإياي
فارهبون .
.
ووفاء
بهذا العهد كذلك يدعو الله بني إسرائيل أن
يؤمنوا بما أنزله على رسوله ، مصدقا لما معهم
؛ وألا يسارعوا إلى الكفر به ، فيصبحوا أول
الكافرين ؛ وكان ينبغي أن يكونوا أول
المؤمنين:
وآمنوا
بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر
به . .
فما
الإسلام الذي جاء به محمد
[ ص ] إلا الدين الواحد الخالد . جاء به
في صورته الأخيرة ؛ وهو امتداد لرسالة الله ،
ولعهد الله منذ البشرية الأولى ، يضم جناحيه
على ما مضى ، ويأخذ بيد البشرية فيما سيأتي ؛
ويوحد بين "العهد القديم " و "العهد الجديد
" ويضيف ما أراده الله من
الخير والصلاح للبشرية في مستقبلها الطويل ؛
ويجمع بذلك بين البشر كلهم إخوة متعارفين ؛
يلتقون على عهد الله ، ودين الله ؛ لا يتفرقون
شيعا وأحزابا ، وأقواما وأجناسا ؛ ولكن
يلتقون عبادا لله ، مستمسكين جميعا بعهده
الذي لا يتبدل منذ فجر الحياة .
وينهى
الله بني إسرائيل أن يكون كفرهم بما أنزله
مصدقا لما معهم ، شراء للدنيا بالآخرة ،
وإيثارا لما بين أيديهم من مصالح خاصة لهم -
وبخاصة أحبارهم الذي يخشون أن يؤمنوا
بالإسلام فيخسروا رياستهم ، وما تدره عليهم
من منافع وإتاوات - ويدعوهم إلى خشيته وحده
وتقواه . .
ولا
تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ، وإياي فاتقون
. .
والثمن
والمال والكسب الدنيوي المادي . . كله شنشنة
يهود من قديم !! وقد يكون المقصود بالنهي هنا
هو ما يكسبه رؤساؤهم من ثمن الخدمات الدينية
والفتاوى المكذوبة ، وتحريف الأحكام حتى لا
تقع العقوبة على الأغنياء منهم والكبراء ،
كما ورد في مواضع أخرى ، واستبقاء هذا كله في
أيديهم بصد شعبهم كله عن الدخول في الإسلام ،
حيث تفلت منهم القيادة والرياسة . . على أن
الدنيا كلها - كما قال بعض الصحابة والتابعين
رضوان الله عليهم في تفسير هذه الآية - ثمن
قليل ، حين تقاس إلى الإيمان بآيات الله ،
وإلى عاقبة الإيمان في الآخرة عند الله
.
ويمضي
السياق يحذرهم ما كانوا يزاولونه من تلبيس
الحق بالباطل ، وكتمان الحق وهم يعلمونه ،
بقصد بلبلة الأفكار في المجتمع المسلم ،
وإشاعة الشك والاضطراب: ولا
تلبسوا الحق بالباطل . وتكتموا الحق وأنتم
تعلمون .
.
ولقد
زاول اليهود هذا التلبيس والتخليط وكتمان
الحق في كل مناسبة عرضت لهم ، كما فصل القرآن
في مواضع منه كثيرة ؛ وكانوا دائما عامل فتنة
وبلبلة في المجتمع الإسلامي ، وعامل اضطراب
وخلخلة في الصف المسلم . وسيأتي من أمثلة هذا
التلبيس الشيء الكثير !
ثم
يدعوهم إلى الاندماج في موكب الإيمان ،
والدخول في الصف ، وأداء عباداته المفروضة ،
وترك هذه العزلة والتعصب الذميم ، وهو ما عرفت
به يهود من قديم:
وأقيموا
الصلاة ، وآتوا الزكاة ، واركعوا مع الراكعين
. .
ثم
ينكر عليهم - وبخاصة أحبارهم - أن يكونوا من
الدعاة إلى الإيمان بحكم أنهم أهل كتاب بين
مشركين ، وهم في الوقت ذاته يصدون قومهم عن
الإيمان بدين الله ، المصدق لدينهم القديم:
أتأمرون
الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون
الكتاب ؟ أفلا تعقلون ؟
. .
ومع
أن هذا النص القرآني كان يواجه ابتداء حالة
واقعة من بني إسرائيل ، فإنه في إيحائه للنفس
البشرية ، ولرجال الدين بصفة خاصة ، دائم لا
يخص قوما دون قوم ولا يعني جيلا دون جيل
.
إن
آفة رجال الدين - حين يصبح الدين حرفة وصناعة
لا عقيدة حارة دافعة - أنهم يقولون بأفواههم
ما ليس في قلوبهم ؛ يأمرون بالخير ولا يفعلونه
؛ ويدعون إلى البر ويهملونه ؛ ويحرفون الكلم
عن مواضعه ؛ ويؤولون النصوص القاطعة خدمة
للغرض والهوى ، ويجدون فتاوى وتأويلات قد
تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص ، ولكنها تختلف
في حقيقتها عن حقيقة الدين ، لتبرير أغراض
وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان ! كما كان
يفعل أحبار يهود !
والدعوة
إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه
، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك لا في
الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها . وهي
التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم ، لأنهم
يسمعون قولا جميلا ، ويشهدون فعلا قبيحا ؛
فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل ؛ وتخبو في
أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة ؛
وينطفىء في قلوبهم النور الذي يشع الإيمان ؛
ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم
برجال الدين .
إن
الكلمة لتنبعث ميتة ، وتصل هامدة ، مهما تكن
طنانة رنانة متحمسة ، إذا هي لم تنبعث من قلب
يؤمن بها . ولن يؤمن إنسان بما يقول حقا إلا أن
يستحيل هو ترجمة حية لما يقول ، وتجسيما
واقعيا لما ينطق . . عندئذ يؤمن الناس ، ويثق
الناس ، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا
بريق . . إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا
من رنينها ؛ وتستمد جمالها من صدقها لا من
بريقها . . إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة ،
لأنها منبثقة من حياة .
والمطابقة
بين القول والفعل ، وبين العقيدة والسلوك ،
ليست مع هذا أمرا هينا ، ولا طريقا معبدا .
إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة . وإلى
صلة بالله ، واستمداد منه ، واستعانة بهديه ؛
فملابسات الحياة وضروراتها واضطراراتها
كثيرا ما تنأى بالفرد في واقعه عما يعتقده في
ضميره ، أو عما يدعو إليه غيره . والفرد الفاني
ما لم يتصل بالقوة الخالدة ضعيف مهما كانت
قوته ، لأن قوى الشر والطغيان والإغواء أكبر
منه ؛ وقد يغالبها مرة ومرة ومرة ؛ ولكن لحظة
ضعف تنتابه فيتخاذل ويتهاوى ، ويخسر ماضيه
وحاضره ومستقبله ؛ فأما وهو يركن إلى قوة
الأزل والأبد فهو قوي قوي ، أقوى من كل قوي .
قوي على شهوته وضعفه . قوي على ضروراته
واضطراراته . قوي على ذوي القوة الذين
يواجهونه . ومن ثم يوجه
القرآن اليهود الذين كان يواجههم أولا ،
ويوجه الناس كلهم ضمنا ، إلى الاستعانة
بالصبر والاستعانة بالصلاة . . وفي حالة
اليهود كان مطلوبا منهم أن يؤثروا الحق الذي
يعلمونه على المركز الخاص الذي يتمتعون به في
المدينة ، وعلى الثمن القليل - سواء كان ثمن
الخدمات الدينية أو هو الدنيا كلها - وأن
يدخلوا في موكب الإيمان وهم يدعون الناس إلى
الإيمان ! وكان هذا كله يقتضي قوة وشجاعة
وتجردا . واستعانة بالصبر والصلاة:
واستعينوا
بالصبر والصلاة . وإنها لكبيرة إلا على
الخاشعين ، الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ،
وأنهم إليه راجعون
. .
والغالب
أن الضمير في أنها ضمير الشأن ، أي إن هذه
الدعوة إلى الاعتراف بالحق في وجه هذه
العوامل كبيرة وصعبة وشاقة ، إلا على
الخاشعين الخاضعين لله ، الشاعرين بخشيته
وتقواه ، الواثقين بلقائه والرجعة إليه عن
يقين .
والاستعانة
بالصبر تتكرر كثيرا ؛ فهو الزاد الذي لا بد
منه لمواجهة كل مشقة ، وأول المشقات مشقة
النزول عن القيادة والرياسة والنفع والكسب
احتراما للحق وإيثارا له ، واعترافا بالحقيقة
وخضوعا لها .
فما
الاستعانة بالصلاة ؟
إن
الصلاة صلة ولقاء بين العبد والرب . صلة يستمد
منها القلب قوة ، وتحس فيها الروح صلة ؛ وتجد
فيها النفس زادا أنفس من أعراض الحياة الدنيا
. . ولقد كان رسول الله [
ص ] إذا حزبه أمر فزع
إلى الصلاة ، وهو الوثيق الصلة بربه الموصول
الروح بالوحي والإلهام . . وما يزال هذا
الينبوع الدافق في متناول كل مؤمن يريد زادا
للطريق ، وريا في الهجير ، ومددا حين ينقطع
المدد ، ورصيدا حين ينفد الرصيد
. .
واليقين
بلقاء الله - واستعمال ظن ومشتقاتها في معنى
اليقين كثير في القرآن وفي لغة العرب عامة -
واليقين بالرجعة إليه وحده في كل الأمور . . هو
مناط الصبر والاحتمال ؛ وهو مناط التقوى
والحساسية . كما أنه مناط الوزن الصحيح للقيم:قيم
الدنيا وقيم الآخرة . ومتى استقام الميزان في
هذه القيم بدت الدنيا كلها ثمنا قليلا ، وعرضا
هزيلا ؛ وبدت الآخرة على حقيقتها ، التي لا
يتردد عاقل في اختيارها وإيثارها
.
وكذلك
يجد المتدبر للقرآن في التوجيه الذي قصد به
بنو إسرائيل أول مرة ، توجيها دائما مستمر
الإيحاء للجميع . .
الدرس
الثاني:47 - 48:تذكير اليهود وتهديدهم
ومن ثم عودة إلى نداء بني إسرائيل ،
وتذكيرهم بنعمة الله عليهم ، وتخويفهم ذلك
اليوم المخيف إجمالا قبل الأخذ في التفصيل:
يا
بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ،
وأني فضلتكم على العالمين . واتقوا يوما لا
تجزي نفس عن نفس شيئا ، ولا يقبل منها شفاعة ،
ولا يؤخذ منها عدل ، ولا هم ينصرون
.
وتفضيل
بني إسرائيل على العالمين موقوت بزمان
استخلافهم واختيارهم ، فأما بعد ما عتوا عن
أمر ربهم ، وعصوا أنبياءهم ، وجحدوا نعمة الله
عليهم ، وتخلوا عن التزاماتهم وعهدهم ، فقد
اعلن الله حكمه عليهم باللعنة والغضب والذلة
والمسكنة ، وقضى عليهم بالتشريد وحق عليهم
الوعيد .
وتذكيرهم
بتفضيلهم على العالمين ، هو تذكير لهم بما كان
لهم من فضل الله وعهده ؛ وإطماع لهم لينتهزوا
الفرصة المتاحة على يدي الدعوة الإسلامية ،
فيعودوا إلى موكب الإيمان . وإلى عهد الله ؛
شكرا على تفضيله لآبائهم ، ورغبة في العودة
إلى مقام التكريم الذي يناله المؤمنين
.
ومع
الإطماع في الفضل والنعمة ، التحذير من اليوم
الذي يأتي وصفه:
لا
تجزي نفس عن نفس شيئا
. .
فالتبعة
فردية ، والحساب شخصي ، وكل نفس مسؤولة عن
نفسها ، ولا تغني نفس عن نفس شيئا . . وهذا هو
المبدأ الإسلامي العظيم . مبدأ التبعة
الفردية القائمة على الإرادة والتمييز من
الإنسان ، وعلى العدل المطلق من الله . وهو
أقوم المباديء التي تشعر الإنسان بكرامته ،
والتي تستجيش اليقظة الدائمة في ضميره .
وكلاهما عامل من عوامل التربية ، فوق أنه قيمة
إنسانية تضاف إلى رصيده من القيم التي يكرمه
بها الإسلام .
ولا
يقبل منها شفاعة . ولا يؤخذ منها عدل
.
فلا
شفاعة تنفع يومئذ من لم يقدم إيمانا وعملا
صالحا ؛ ولا فدية تؤخذ منه للتجاوز عن كفره
ومعصيته .
ولا
هم ينصرون
. .
فما
من ناصر يعصمهم من الله ، وينجيهم من عذابه . .
وقد عبر هنا بالجمع باعتبار مجموع النفوس
التي لا تجزي نفس منها عن نفس ، ولا يقبل منها
شفاعة ، ولا يؤخذ منها عدل ، وانصرف عن الخطاب
في أول الآية إلى صيغة الغيبة في آخرها
للتعميم . فهذا مبدأ كلي ينال المخاطبين وغير
المخاطبين من الناس أجمعين .
الدرس
الثالث:49 - 50:عد بعض نعم الله عليهم
بعدئذ يمضي يعدد آلاء الله عليهم ، وكيف
استقبلوا هذه الآلاء ، وكيف جحدوا وكفروا
وحادوا عن الطريق . وفي مقدمة هذه النعم كانت
نجاتهم من آل فرعون ومن العذاب الأليم:
وإذ
نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ،
يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم
بلاء من ربكم عظيم . وإذ فرقنا بكم البحر
فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون
. .
إنه
يعيد على خيالهم ويستحيي في مشاعرهم صورة
الكرب الذي كانوا فيه - باعتبار أنهم أبناء
هذا الأصل البعيد - ويرسم أمامهم مشهد النجاة
كما رسم أمامهم مشاهد العذاب .
يقول
لهم:واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون حالة ما
كانوا يديمون عذابكم ، [ من سام الماشية أي جعلها سائمة
ترعى دائما ] وكأن
العذاب كان هو الغذاء الدائم الذي يطعمونهم
إياه !! ثم يذكر لونا من هذا العذاب . هو تذبيح
الذكور واستيحاء الإناث . كي يضعف ساعد بني
إسرائيل وتثقل تبعاتهم !
وقبل
أن يعرض مشهد النجاة يعقب بأن ذلك التعذيب كان
فيه بلاء من ربهم عظيم . ليلقي في حسهم - وحس كل
من يصادف شدة - أن إصابة العباد بالشدة هي
امتحان وبلاء ، واختبار وفتنة . وأن الذي
يستيقظ لهذه الحقيقة يفيد من الشدة ، ويعتبر
بالبلاء ، ويكسب من ورائهما حين يستيقظ .
والألم لا يذهب ضياعا إذا أدرك صاحبه أنه يمر
بفترة امتحان لها ما بعدها إن أحسن الانتفاع
بها . والألم يهون على النفس حين تعيش بهذا
التصور وحين تدخر ما في التجربة المؤلمة من
زاد للدنيا بالخبرة والمعرفة والصبر
والاحتمال ، ومن زاد للآخرة باحتسابها عند
الله ، وبالتضرع لله وبانتظار الفرج من عنده
وعدم اليأس من رحمته . . ومن ثم هذا التعقيب
الموحى: وفي ذلكم
بلاء من ربكم عظيم
. .
فإذا فرغ من التعقيب جاء بمشهد النجاة بعد
مشاهد العذاب . .
وإذ
فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون
وأنتم تنظرون
. .
وقد
وردت تفصيلات هذه النجاة في السور المكية
التي نزلت من قبل . أما هنا فهو مجرد التذكير
لقوم يعرفون القصة . سواء من القرآن المكي ، أو
من كتبهم وأقاصيصهم المحفوظة . إنما يذكرهم
بها في صورة مشهد ، ليستعيدوا تصورها ،
ويتأثروا بهذا التصور ، وكأنهم هم الذين
كانوا ينظرون إلى فرق البحر ، ونجاة بني
إسرائيل بقيادة موسى - عليه السلام - على مشهد
منهم ومرأى ! وخاصية الاستحياء هذه من أبرز
خصائص التعبير القرآني العجيب
.
الدرس
الرابع :51 - 54 : عقوبتهم لعبادتهم العجل
ثم يمضي السياق قدما مع رحلة بني إسرائيل
بعد خروجهم من مصر ناجين:
وإذ
واعدنا موسى أربعين ليلة ، ثم اتخذتم العجل من
بعده وأنتم ظالمون . ثم عفونا عنكم من بعد ذلك
لعلكم تشكرون . وإذ آتينا موسى الكتاب
والفرقان لعلكم تهتدون . وإذ قال موسى لقومه:يا
قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ،
فتوبوا إلى بارئكم ، فاقتلوا أنفسكم ، ذلكم
خير لكم عند بارئكم ، فتاب عليكم ، إنه هو
التواب الرحيم
. .
وقصة
اتخاذ بني إسرائيل للعجل ، وعبادته في غيبة
موسى - عليه السلام - عندما ذهب إلى ميعاد ربه
على الجبل ، مفصلة في سورة طه السابقة النزول
في مكة . وهنا فقط يذكرهم بها ، وهي معروفة
لديهم . يذكرهم بانحدارهم إلى عبادة العجل
بمجرد غيبة نبيهم ، الذي أنقذهم باسم الله ،
من آل فرعون يسومونهم سوء العذاب . ويصف حقيقة
موقفهم في هذه العبادة: وأنتم
ظالمون . . ومن أظلم ممن يترك عبادة الله
ووصية نبيه ليعبد عجلا جسدا ، وقد أنقذه الله
ممن كانوا يقدسون العجول !
ومع
هذا فقد عفا الله عنهم ، وآتى نبيهم الكتاب -
وهو التوراة - فيه فرقان بين الحق والباطل ،
عسى أن يهتدوا إلى الحق البين بعد الضلال
.
ولم
يكن بد من التطهير القاسي ؛ فهذه الطبيعة
المنهارة الخاوية لا تقومها إلا كفارة صارمة
، وتأديب عنيف . عنيف في طريقته وفي حقيقته:
وإذ
قال موسى لقومه:يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم
باتخاذكم العجل ، فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا
أنفسكم . ذلكم خير لكم عند بارئكم
. .
أقتلوا
أنفسكم . ليقتل الطائع منكم العاصي . ليطهره
ويطهر نفسه . . هكذا وردت الروايات عن تلك
الكفارة العنيفة . . وإنه لتكليف مرهق شاق ، أن
يقتل الأخ أخاه ، فكأنما يقتل نفسه برضاه .
ولكنه كذلك كان تربية لتلك الطبيعة المنهارة
الخوارة ، التي لا تتماسك عن شر ، ولا تتناهى
عن نكر . ولو تناهوا عن المنكر في غيبة نبيهم
ما عبدوا العجل . وإذ لم يتناهوا بالكلام
فليتناهوا بالحسام ؛ وليؤدوا الضريبة
الفادحة الثقيلة التي تنفعهم وتربيهم
!
وهنا
تدركهم رحمة الله بعد التطهير:
فتاب
عليكم إنه هو التواب الرحيم
. .
الدرس
الخامس:55 - 57:طلبهم رؤية الله وجحودهم النعمة
ولكن إسرائيل هي إسرائيل ! هي هي كثافة حس
، ومادية فكر ، واحتجابا عن مسارب الغيب . .
فإذا هم يطلبون أن يروا الله جهرة ، والذي طلب
هذا هم السبعون المختارون منهم ، الذين
اختارهم موسى لميقات ربه - الذي فصلت قصته في
السور المكية من قبل - ويرفضون الإيمان لموسى
إلا أن يروا الله عيانا . والقرآن يواجههم هنا
بهذا التجديف الذي صدر من آبائهم ، لينكشف
تعنتهم القديم الذي يشابه تعنتهم الجديد مع
الرسول الكريم ، وطلبهم الخوارق منه ،
وتحريضهم بعض المؤمنين على طلب الخوارق
للتثبت من صدقه:
وإذ
قلتم:يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة .
فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون . ثم بعثناكم من
بعد موتكم لعلكم تشكرون . وظللنا عليكم الغمام
وأنزلنا عليكم المن والسلوى . كلوا من طيبات
ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم
يظلمون . . إن الحس
المادي الغليظ هو وحده طريقهم إلى المعرفة . .
أم لعله التعنت والمعاجزة . .
والآيات
الكثيرة ، والنعم الإلهية ، والعفو والمغفرة .
. كلها لا تغير من تلك الطبيعة الجاسية ، التي
لا تؤمن إلا بالمحسوس ، والتي تظل مع ذلك
تجادل وتماحل ولا تستجيب إلا تحت وقع العذاب
والتنكيل ، مما يوحي بأن فترة الإذلال التي
قضوها تحت حكم فرعون الطاغية قد أفسدت فطرتهم
إفسادا عميقا . وليس أشد إفسادا للفطرة من
الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل ، والذي يحطم
فضائل النفس البشرية ، ويحلل مقوماتها ،
ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد:استخذاء
تحت سوط الجلاد ، وتمردا حين يرفع عنها السوط
، وتبطرا حين يتاح لها شيء من النعمة والقوة . .
وهكذا كانت إسرائيل ، وهكذا هي في كل حين
. .
ومن
ثم يجدفون هذا التجديف . ويتعنتون هذا التعنت:
وإذ
قلتم:يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة
:
ومن
ثم يأخذهم الله جزاء ذلك التجديف ، وهم على
الجبل في الميقات المعلوم:
فأخذتكم
الصاعقة وأنتم تنظرون
. .
ومرة
أخرى تدركهم رحمة الله ، وتوهب لهم فرصة
الحياة عسى أن يذكروا ويشكروا ، ويذكرهم هنا
مواجهة بهذه النعمة:
ثم
بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون
. .
ويذكرهم
برعايته لهم في الصحراء الجرداء حيث يسر لهم
طعاما شهيا لا يجهدون فيه ولا يكدون ، ووقاهم
هجير الصحراء وحر الشمس المحرق بتدبيره
اللطيف:
وظللنا
عليكم الغمام ، وأنزلنا عليكم المن والسلوى .
كلوا من طيبات ما رزقناكم . وما ظلمونا ولكن
كانوا أنفسهم يظلمون
. .
وتذكر
الراويات أن الله ساق لهم الغمام يظللهم من
الهاجرة . والصحراء بغير مطر ولا سحب ، جحيم
يفور بالنار ، ويقذف بالشواظ . وهي بالمطر
والسحاب رخية ندية تصح فيها الأجسام والأرواح
. . وتذكر الروايات كذلك أن الله سخر لهم
المن يجدونه على
الأشجار حلوا كالعسل ، وسخر لهم
السلوى وهو طائر السماني يجدونه بوفرة
قريب المنال . وبهذا توافر لهم الطعام الجيد ،
والمقام المريح ، وأحلت لهم هذه الطيبات . .
ولكن أتراهم شكروا واهتدوا . . إن التعقيب
الأخير في الآية يوحي بأنهم ظلموا وجحدوا .
وإن كانت عاقبة ذلك عليهم ، فما ظلموا إلا
أنفسهم !
وما
ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
. .
الدرس
السادس:58 - 59:عقابهم على مخالفة دخولهم القرية
ويمضي السياق في مواجهتهم بما كان منهم من
انحراف ومعصية وجحود:
وإذ
قلنا:ادخلوا هذه القرية ، فكلوا منها حيث شئتم
رغدا ، وادخلوا الباب سجدا ، وقولوا:حطة . نغفر
لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين . فبدل الذين
ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ، فأنزلنا على
الذين ظلموا رجزا من السماء ، بما كانوا
يفسقون .
.
وتذكر
بعض الروايات أن القرية المقصودة هنا هي بيت
المقدس ، التي أمر الله بني إسرائيل بعد
خروجهم من مصر أن يدخلوها ، ويخرجوا منها
العمالقة الذين كانوا يسكنونها ، والتي نكص
بنو إسرائيل عنها وقالوا:
يا موسى إن فيها قوما جبارين ، وإنا لن
ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا
داخلون . . والتي
قالوا بشأنها لنبيهم موسى - عليه السلام -:
إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب
أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون !
. . ومن ثم كتب عليهم ربهم التيه أربعين سنة
، حتى نشأ جيل جديد بقيادة يوشع بن نون ، فتح
المدينة ودخلها . . ولكنهم بدلا من أن يدخلوها
سجدا كما أمرهم الله ، علامة على التواضع
والخشوع ، ويقولوا:حطة . . أي حط عنا ذنوبنا
واغفر لنا . . دخلوها على غير الهيئة التي
أمروا بها ، وقالوا قولا آخر غير الذي أمروا
به . .
والسياق
يواجههم بهذا الحادث في تاريخهم ؛ وقد كان مما
وقع بعد الفترة التي يدور عنها الحديث هنا -
وهي عهد موسى - ذلك أنه يعتبر تاريخهم كله وحدة
، قديمه كحديثه ، ووسطه كطرفيه . . كله مخالفة
وتمرد وعصيان وانحراف !
وأيا
كان هذا الحادث ، فقد كان القرآن يخاطبهم بأمر
يعرفونه ، ويذكرهم بحادث يعلمونه . . فلقد
نصرهم الله فدخلوا القرية المعينة ؛ وأمرهم
أن يدخلوها في هيئة خشوع وخضوع ، وأن يدعوا
الله ليغفر لهم ويحط عنهم ؛ ووعدهم أن يغفر
لهم خطاياهم ، وأن يزيد المحسنين من فضله
ونعمته . فخالفوا عن هذا كله كعادة يهود:
فبدل
الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم
. .
ويخص
الذين ظلموا بالذكر . إما لأنهم كانوا فريقا
منهم هو الذي بدل وظلم . وإما لتقرير وصف الظلم
لهم جميعا ، إذا كان قد وقع منهم جميعا
.
فأنزلنا
على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا
يفسقون .
.
والرجز:العذاب
. والفسوق:المخالفة والخروج . . وكانت هذه
واحدة من أفاعيل بني إسرائيل !
الدرس
السابع:60 الإنعام عليهم بالماء في الصحراء
وكما يسر الله لبني إسرائيل الطعام في
الصحراء والظل في الهاجرة ، كذلك أفاض عليهم
الري بخارقة من الخوارق الكثيرة التي أجراها
الله على يدي نبيه موسى - عليه السلام -
والقرآن يذكرهم بنعمة الله عليهم في هذا
المقام ، وكيف كان مسلكهم بعد الإفضال
والأنعام:
وإذ
استسقى موسى لقومه ، فقلنا:اضرب بعصاك الحجر ،
فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا . قد علم كل أناس
مشربهم . كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا
في الأرض مفسدين
. .
لقد
طلب موسى لقومه السقيا . طلبها من ربه فاستجاب
له . وأمره أن يضرب حجرا معينا بعصاه ، فانفجرت
منه اثنتا عشرة عينا بعدة أسباط بني إسرائيل ،
وكانوا يرجعون إلى اثني عشر سبطا بعدة أحفاد
يعقوب - وهو إسرائيل الذي ينتسبون إليه -
وأحفاد إسرائيل - أو يعقوب - هم المعروفون باسم
الأسباط ، والذين يرد ذكرهم مكررا في القرآن ،
وهم رؤوس قبائل بني إسرائيل . وكانوا ما
يزالون يتبعون النظام القبلي ، الذي تنسب فيه
القبيلة إلى رأسها الكبير .
ومن
ثم يقول: قد علم كل
أناس مشربهم . . أي
العين الخاصة بهم من الاثنتي عشرة عينا . وقيل
لهم ، على سبيل الإباحة والإنعام والتحذير من
الاعتداء والإفساد:
كلوا
واشربوا من رزق الله ، ولا تعثوا في الأرض
مفسدين .
.
الدرس
الثامن:61 البنية النفسية لليهود وموقفهم من
أداء أمانة التكليف
لقد كانوا بين الصحراء بجدبها وصخورها ،
والسماء بشواظها ورجومها . فأما الحجر فقد
أنبع الله لهم منه الماء ، وأما السماء فأنزل
لهم منها المن والسلوى:عسلا وطيرا . . ولكن
البنية النفسية المفككة ، والجبلة الهابطة
المتداعية ، أبت على القوم أن يرتفعوا إلى
مستوى الغاية التي من أجلها أخرجوا من مصر ،
ومن أجلها ضربوا في الصحراء . . لقد أخرجهم
الله - على يدي نبيهم موسى - عليه السلام - من
الذل والهوان ليورثهم الأرض المقدسة ،
وليرفعهم من المهانة والضعة . . وللحرية ثمن ،
وللعزة تكاليف ، وللأمانة الكبرى التي ناطهم
الله بها فدية . ولكنهم لا يريدون أن يؤدوا
الثمن ، ولا يريدون أن ينهضوا بالتكاليف ، ولا
يريدون أن يدفعوا الفدية . حتى بأن يتركوا
مألوف حياتهم الرتيبة الهينة . حتى بأن يغيروا
مألوف طعامهم وشرابهم ، وأن يكيفوا أنفسهم
بظروف حياتهم الجديدة ، في طريقهم إلى العزة
والحرية والكرامة . إنهم يريدون الأطعمة
المنوعة التي ألفوها في مصر . يريدون العدس
والثوم والبصل والقثاء . . وما إليها ! وهذا ما
يذكرهم القرآن به . وهم يدعون في المدينة
دعاواهم العريضة:
وإذ
قلتم:يا موسى لن نصبر على طعام واحد ، فادع لنا
ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها
وفومها وعدسها وبصلها . قال:أتستبدلون الذي هو
أدنى بالذي هو خير ؟ اهبطوا مصرا فإن لكم ما
سألتم . . وضربت عليهم الذلة والمسكنة ، وباؤوا
بغضب من الله ، ذلك بأنهم كانوا
يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق
. ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
. .
ولقد
تلقى موسى - عليه السلام - طلبهم بالاستنكار:
أتستبدلون
الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟
. .
أتريدون
الدنية وقد أراد الله لكم العلية ؟
اهبطوا
مصرا فإن لكم ما سألتم
. .
إما
بمعنى أن ما يطلبونه هين زهيد ، لا يستحق
الدعاء ؛ فهو موفور في أي مصر من الأمصار ،
فاهبطوا أية مدينة فإنكم واجدوه فيها . . وإما
بمعنى عودوا إذن إلى مصر التي أخرجتم منها . .
عودوا إلى حياتكم الدارجة المألوفة . إلى
حياتكم الخانعة الذليلة . . حيث تجدون العدس
والبصل والثوم والقثاء ! ودعوا الأمور الكبار
التي ندبتم لها . . ويكون هذا من موسى - عليه
السلام - تأنيبا لهم وتوبيخا . .
وأنا أرجح هذا التأويل الذي استبعده بعض
المفسرين ، أرجحه بسبب ما أعقبه في السياق من
قوله تعالى:
وضربت
عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله
. .
فإن
ضرب الذلة والمسكنة عليهم ، وعودتهم بغضب
الله ، لم يكن - من الناحية التاريخية - في هذه
المرحلة من تاريخهم ؛ إنما كان فيما بعد ، بعد
وقوع ما ذكرته الآية في ختامها:
ذلك
بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون
النبيين بغير الحق . ذلك بما عصوا وكانوا
يعتدون . وقد وقع هذا
منهم متأخرا بعد عهد موسى بأجيال . إنما عجل
السياق بذكر الذلة والمسكنة والغضب هنا
لمناسبته لموقفهم من طلب العدس والبصل والثوم
والقثاء ! فناسب أن يكون قول
موسى لهم ، اهبطوا
مصرا هو تذكير لهم
بالذل في مصر ، وبالنجاة منه ، ثم هفوة نفوسهم
للمطاعم التي ألفوها في دار الذل والهوان
!
الدرس
التاسع:62:من المقبول من الطوائف الأربعة
ولم
يشهد تاريخ أمة ما شهده تاريخ إسرائيل من قسوة
وجحود واعتداء وتنكر للهداة . فقد قتلوا
وذبحوا ونشروا بالمناشير عددا من أنبيائهم -
وهي أشنع فعلة تصدر من أمة مع دعاة الحق
المخلصين - وقد كفروا أشنع الكفر ، واعتدوا
أشنع الاعتداء ، وعصوا أبشع المعصية . وكان
لهم في كل ميدان من هذه الميادين أفاعيل ليست
مثلها أفاعيل !
ومع
هذا كله فقد كانت لهم دعاوى عريضة عجيبة .
كانوا دائما يدعون أنهم هم وحدهم المهتدون ،
وهم وحدهم شعب الله المختار ، وهم وحدهم الذين
ينالهم ثواب الله ؛ وأن فضل الله لهم وحدهم
دون شريك . . وهنا يكذب القرآن هذه الدعوى
العريضة ، ويقرر قاعدة من قواعده الكلية ،
التي
تتخلل القصص القرآني ، أو تسبقه أو تتلوه .
يقرر قاعدة وحدة الإيمان . . ووحدة العقيدة ،
متى انتهت إلى إسلام النفس لله ، والإيمان به
إيمانا ينبثق منه العمل الصالح . وإن فضل الله
ليس حجرا محجورا على عصبية خاصة ، إنما هو
للمؤمنين أجمعين ، في كل زمان وفي كل مكان ، كل
بحسب دينه الذي كان عليه ، حتى تجيء الرسالة
التالية بالدين الذي يجب أن يصير المؤمنون
إليه:
إن
الذين آمنوا ، والذين هادوا ، والنصارى ،
والصابئين - من آمن بالله واليوم الآخر وعمل
صالحا - فلهم أجرهم عند ربهم ، ولا خوف عليهم
ولا هم يحزنون
. .
والذين
آمنوا يعني بهم المسلمين . والذين هادوا هم
اليهود - إما بمعنى عادوا إلى الله ، وإما
بمعنى أنهم أولاد يهوذا - والنصارى هم اتباع
عيسى - عليه السلام - والصابئون:الأرجح أنهم
تلك الطائفة من مشركي العرب قبل البعثة ، الذي
ساورهم الشك فيما كان عليه قومهم من
عبادة
الأصنام ، فبحثوا لأنفسهم عن عقيدة يرتضونها
، فاهتدوا إلى التوحيد ، وقالوا:إنهم يتعبدون
على الحنيفية الأولى ، ملة إبراهيم ،
واعتزلوا عبادة قومهم دون أن تكون لهم دعوة
فيهم . فقال عنهم المشركون:إنهم صبأوا - أي
مالوا عن دين آبائهم - كما كانوا يقولون عن
المسلمين بعد ذلك . ومن ثم سموا الصابئة . وهذا
القول أرجح من القول بأنهم عبدة النجوم كما
جاء في بعض التفاسير .
والآية
تقرر أن من آمن بالله واليوم الآخر من هؤلاء
جميعا وعمل صالحا ، فإن لهم أجرهم عند ربهم ،
ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون . فالعبرة بحقيقة
العقيدة ، لا بعصبية جنس أو قوم . . وذلك طبعا
قبل البعثة المحمدية . أما بعدها فقد تحدد شكل
الإيمان الأخير .
الدرس
العاشر:63 - 64:تذكريهم برفع الطور فوقهم
ثم يمضي السياق يستعرض مواقف بني إسرائيل
في مواجهة يهود المدينة بمسمع من المسلمين
. .
وإذ
أخذنا ميثاقكم ، ورفعنا فوقكم الطور:خذوا ما
آتيناكم بقوة ، واذكروا ما فيه لعلكم تتقون .
ثم توليتم من بعد ذلك ، فلولا فضل الله عليكم
ورحمته لكنتم من الخاسرين
. .
وتفصيل
هذا الميثاق وارد في سور أخرى ، وبعضه ورد في
هذه السورة فيما بعد . والمهم هنا هو استحضار
المشهد ، والتناسق النفسي والتعبيري بين قوة
رفع الصخرة فوق رؤوسهم وقوة أخذ العهد ،
وأمرهم أن يأخذوا ما فيه بقوة . وأن يعزموا فيه
عزيمة . فأمر العقيدة لا رخاوة فيه ولا تميع ،
ولا يقبل أنصاف الحلول ولا الهزل ولا الرخاوة
. . إنه عهد الله مع المؤمنين . . وهو جد وحق ،
فلا سبيل فيه لغير الجد والحق . . وله تكاليف
شاقة ، نعم ! ولكن هذه هي طبيعته . إنه أمر عظيم
. أعظم من كل ما في هذا الوجود . فلا بد أن تقبل
عليه النفس إقبال الجاد القاصد العارف
بتكاليفه ، المتجمع الهم والعزيمة المصمم على
هذه التكاليف . ولا بد أن يدرك صاحب هذا الأمر
أنه إنما يودع حياة الدعة والرخاء والرخاوة ،
كما قال رسول الله [
ص ] وقد نودي للتكليف: مضى عهد النوم يا خديجة
. . وكما قال له ربه: إنا سنلقي عليك قولا
ثقيلا . . وكما قال لبني إسرائيل:
خذوا
ما آتيناكم بقوة .
واذكروا ما فيه لعلكم تتقون
. .
ولا
بد مع أخذ العهد بقوة وجد واستجماع نفس وتصميم
. . لا بد مع هذا من تذكر ما فيه ، واستشعار
حقيقته ، والتكيف بهذه الحقيقة ، كي لا يكون
الأمر كله مجرد حماسة وحمية وقوة . فعهد الله
منهج حياة ، منهج يستقر في القلب تصورا وشعورا
، ويستقر في الحياة وضعا ونظاما ،
ويستقر
في السلوك أدبا وخلقا ، وينتهي إلى التقوى
والحساسية برقابة الله وخشية المصير
.
ولكن
هيهات ! لقد أدركت إسرائيل نحيزتها ، وغلبت
عليها جبلتها:
ثم
توليتم من بعد ذلك
. .
ثم
أدركتها رحمة الله مرة أخرى وشملها فضله
العظيم ؛ فأنقذها من الخسار المبين:
فلولا
فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين
. .
الدرس
الحادي عشر:65 - 66:تذكريهم بمسخ المعتدين في
السبت
ومرة أخرى يواجههم بمظهر من مظاهر النكث
والنكسة ، والتحلل من العهد والعجز عن
الاستمساك به ، والضعف عن احتمال تكاليفه ،
والضعف أمام الهوى أو النفع القريب:
ولقد
علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت:فقلنا لهم:كونوا
قردة خاسئين ، فجعلناها نكالا لما بين يديها
وما خلفها ، وموعظة للمتقين
. .
وقد
فصل القرآن حكاية اعتدائهم في السبت في موضع
آخر فقال: واسألهم
عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في
السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ،
ويوم لا يسبتون لا تأتيهم . . فلقد طلبوا أن يكون لهم يوم راحة
مقدس ، فجعل الله لهم يوم السبت راحة مقدسا لا
يعملون فيه للمعاش . ثم ابتلاهم بعد ذلك
بالحيتان تكثر يوم السبت ، وتختفي في غيره !
وكان ابتلاء لم تصمد له يهود ! وكيف تصمد وتدع
هذا الصيد القريب يضيع ؟ أتتركه وفاء بعهد
واستمساكا بميثاق ؟ إن هذا ليس من طبع يهود
!
ومن
ثم اعتدوا في السبت . اعتدوا على طريقتهم
الملتوية . راحوا يحوطون على الحيتان في يوم
السبت ، ويقطعونها عن البحر بحاجز ، ولا
يصيدونها ! حتى إذا انقضى اليوم تقدموا
وانتشلوا السمك المحجوز !
فقلنا
لهم:كونوا قردة خاسئين
. .
لقد
حق عليهم جزاء النكول عن عهدهم مع الله ،
والنكوص عن مقام الإنسان ذي الإرادة .
فانتكسوا بهذا إلى عالم الحيوان والبهيمة ،
الحيوان الذي لا إرادة له ، والبهيمة التي لا
ترتفع على دعوة البطون ! انتكسوا بمجرد تخليهم
عن الخصيصة الأولى التي تجعل من الإنسان
إنسانا . خصيصة الإرادة المستعلية المستمسكة
بعهد الله .
وليس
من الضروري أن يستحيلوا قردة بأجسامهم ، فقد
استحالوا إليها بأرواحهم وأفكارهم ،
وانطباعات الشعور والتفكير تعكس على الوجوه
والملامح سمات تؤثر في السحنة وتلقي ظلها
العميق !
ومضت
هذه الحادثة عبرة رادعة للمخالفين في زمانها
وفيما يليه ، وموعظة نافعة للمؤمنين في جميع
العصور:
فجعلناها نكالا
لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين
. .
الدرس
الثاني عشر:67 - 74:قصة البقرة
وفي نهاية هذا الدرس تجيء قصة "البقرة
" . . تجيء مفصلة وفي صورة حكاية ، لا مجرد
إشارة كالذي سبق ، ذلك أنها لم ترد من قبل في
السور المكية ، كما أنها لم ترد في موضع آخر ؛
وهي ترسم سمة اللجاجة والتعنت والتلكؤ في
الاستجابة ، وتمحل المعاذير ، التي تتسم بها
إسرائيل:
وإذ
قال موسى لقومه:إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة
. قالوا:أتتخذنا هزوا ؟ قال:أعوذ بالله أن أكون
من الجاهلين . قالوا:ادع لنا ربك يبين لنا ما
هي ؟ قال:إنه يقول:إنها بقرة لا فارض ولا بكر ،
عوان بين ذلك ، فافعلوا ما تؤمرون . قالوا:ادع
لنا ربك يبين لنا ما لونها ؟ قال:إنه يقول:إنها
بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين . قالوا:ادع
لنا ربك يبين لنا ما هي ، إن البقر تشابه علينا
، وإنا إن شاء الله لمهتدون . قال:إنه يقول:إنها
بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث ،
مسلمة لا شية فيها . قالوا:الآن جئت بالحق .
فذبحوها وما كادوا
يفعلون . . وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ،
والله مخرج ما كنتم تكتمون . فقلنا:اضربوه
ببعضها ، كذلك يحيي الله الموتى ، ويريكم
آياته لعلكم تعقلون . .
وفي
هذه القصة القصيرة - كما يعرضها السياق
القرآني - مجال للنظر في جوانب شتى . . جانب
دلالتها على طبيعة بني إسرائيل وجبلتهم
الموروثة . وجانب دلالتها على قدرة الخالق ،
وحقيقة البعث ، وطبيعة الموت والحياة . ثم
جانب الأداء الفني في عرض القصة بدءا ونهاية
واتساقا مع السياق . .
إن
السمات الرئيسية لطبيعة إسرائيل تبدو واضحة
في قصة البقرة هذه:انقطاع الصلة بين قلوبهم ،
وذلك النبع الشفيف الرقراق:نبع الإيمان
بالغيب ، والثقة بالله ، والاستعداد لتصديق
ما يأتيهم به الرسل . ثم التلكؤ في الاستجابة
للتكاليف ، وتلمس الحجج والمعاذير ، والسخرية
المنبعثة من صفاقة القلب وسلاطة اللسان
!
لقد
قال لهم نبيهم: إن
الله يأمركم أن تذبحوا بقرة
. . وكان هذا القول بهذه الصيغة يكفي
للاستجابة والتنفيذ . فنبيهم هو زعيمهم الذي
أنقذهم من العذاب المهين ، برحمة من الله
ورعاية وتعليم ؛ وهو ينبئهم أن هذا ليس أمره
وليس رأيه ، إنما هو أمر الله ، الذي يسير بهم
على هداه . . فماذا كان الجواب ؟ لقد كان جوابهم
سفاهة وسوء أدب ، واتهاما لنبيهم الكريم بأنه
يهزأ بهم ويسخر منهم ! كأنما يجوز لإنسان يعرف
الله - فضلا على أن يكون رسول الله - أن يتخذ
اسم الله وأمره مادة مزاح وسخرية بين الناس:
قالوا:أتتخذنا
هزوا ؟ .
وكان
رد موسى على هذه السفاهة أن يستعيذ بالله ؛
وأن يردهم برفق ، وعن طريق التعريض والتلميح ،
إلى جادة الأدب الواجب في جانب الخالق جل علاه
؛ وأن يبين لهم أن ما ظنوه به لا يليق إلا
بجاهل بقدر الله ، لا يعرف ذلك الأدب ولا
يتوخاه:
قال:أعوذ
بالله أن أكون من الجاهلين
. .
وكان
في هذا التوجيه كفاية ليثوبوا إلى أنفسهم ،
ويرجعوا إلى ربهم ، وينفذوا أمر نبيهم . .
ولكنها إسرائيل ! نعم . لقد كان في وسعهم - وهم
في سعة من الأمر - أن يمدوا أيديهم إلى أية
بقرة فيذبحوها ، فإذا هم مطيعون لأمر الله ،
منفذون لإشارة رسوله . ولكن طبيعة التلكؤ
والالتواء تدركهم ، فإذا هم يسألون:
قالوا:ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟
. . والسؤال بهذه الصيغة يشي بأنهم ما
يزالون في شكهم أن يكون موسى هازئا فيما أنهى
إليهم ! فهم أولا:يقولون:
ادع لنا ربك . .
فكانما هو ربه وحده لا ربهم كذلك ! وكأن
المسألة لا تعنيهم هم
إنما تعني موسى وربه ! وهم ثانيا:يطلبون منه أن
يدعو ربه ليبين لهم: ما
هي ؟ والسؤال عن
الماهية في هذا المقام - وإن كان المقصود
الصفة - إنكار واستهزاء . . ما هي ؟ إنها بقرة .
وقد قال لهم هذا من أول الأمر بلا تحديد لصفة
ولا سمة . بقرة وكفى !
هنا
كذلك يردهم موسى إلى الجادة ، بأن يسلك في
الإجابة طريقا غير طريق السؤال . إنه لا
يجبههم بانحرافهم في صيغة السؤال كي لا يدخل
معهم في جدل شكلي . . إنما يجيبهم كما ينبغي أن
يجيب المعلم المربي من يبتليه الله بهم من
السفهاء المنحرفين . يجيبهم عن صفة البقرة:
قال:إنها
بقرة لا فارض ولا بكر ، عوان بين ذلك
. .
إنها
بقرة لا هي عجوز ولا هي شابة ، وسط بين هذا
وذاك . ثم يعقب على هذا البيان المجمل بنصيحة
آمرة حازمة:
فافعلوا
ما تؤمرون
. .
ولقد
كان في هذا كفاية لمن يريد الكفاية ؛ وكان
حسبهم وقد ردهم نبيهم إلى الجادة مرتين ، ولمح
لهم بالأدب الواجب في السؤال وفي التلقي . أن
يعمدوا إلى أية بقرة من أبقارهم ، لا عجوز ولا
صغيرة ، متوسطة السن ، فيخلصوا بها ذمتهم ،
وينفذوا بذبحها أمر ربهم ، ويعفوا أنفسهم من
مشقة التعقيد والتضييق . . ولكن إسرائيل هي
إسرائيل !
لقد
راحوا يسألون:
قالوا:ادع
لنا ربك يبين لنا ما لونها ؟
. .
هكذا
مرة أخرى: ادع لنا
ربك ! ولم يكن بد -
وقد شققوا الموضوع وطلبوا التفصيل - أن يأتيهم
الجواب بالتفصيل:
قال:إنه
يقول ، إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر
الناظرين
. .
وهكذا
ضيقوا على أنفسهم دائرة الاختيار - وكانوا من
الأمر في سعة - فأصبحوا مكلفين أن يبحثوا لا عن
بقرة . . مجرد بقرة . . بل عن بقرة متوسطة السن ،
لا عجوز ولا صغيرة ، وهي بعد هذا صفراء فاقع
لونها ؛ وهي بعد هذا وذلك ليست هزيلة ولا
شوهاء: تسر الناظرين
. . وسرور الناظرين لا يتم إلا أن تقع
أبصارهم على فراهة وحيوية ونشاط والتماع في
تلك البقرة المطلوبة ؛ فهذا هو الشائع في طباع
الناس:أن يعجبوا بالحيوية والاستواء ويسروا ،
وأن ينفروا من الهزال والتشويه ويشمئزوا
.
ولقد
كان فيما تلكأوا كفاية ، ولكنهم يمضون في
طريقهم ، يعقدون الأمور ، ويشددون على أنفسهم
، فيشدد الله عليهم . لقد عادوا مرة أخرى
يسألون من الماهية:
قالوا:ادع
لنا ربك يبين لنا ما هي
. .
ويعتذرون
عن هذا السؤال وعن ذلك التلكؤ بأن الأمر مشكل:
إن
البقر تشابه علينا
. .
وكأنما
استشعروا لحاجتهم هذه المرة . فهم يقولون:
وإنا
إن شاء الله لمهتدون
. .
ولم
يكن بد كذلك أن يزيد الأمر عليهم مشقة وتعقيدا
، وأن تزيد دائرة الاختيار المتاحة لهم حصرا
وضيقا ، بإضافة أوصاف جديدة للبقرة المطلوبة
، كانوا في سعة منها وفي غنى عنها:
قال:إنه
يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي
الحرث ، مسلمة لا شية فيها
. .
وهكذا
لم تعد بقرة متوسطة العمر . صفراء فاقع لونها
فارهة فحسب . بل لم يعد بد أن تكون - مع هذا -
بقرة غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض أو
سقي الزرع ؛ وأن تكون كذلك خالصة اللون لا
تشوبها علامة .
هنا
فقط . . وبعد أن تعقد الأمر ، وتضاعفت الشروط ،
وضاق مجال الاختيار:
قالوا:الآن
جئت بالحق
. .
الآن
! كأنما كان كل ما مضى ليس حقا . أو كأنهم لم
يستيقنوا أن ما جاءهم به هو الحق إلا اللحظة !
فذبحوها وما كادوا يفعلون !!
عندئذ
- وبعد تنفيذ الأمر والنهوض بالتكليف - كشف
الله لهم عن الغاية من الأمر والتكليف:
وإذ
قتلتم نفسا فادارأتم فيها ، والله مخرج ما
كنتم تكتمون ، فقلنا:اضربوه ببعضها . كذلك
يحيي الله الموتى ، ويريكم آياته لعلكم
تعقلون .
.
وهنا
نصل إلى الجانب الثاني من جوانب القصة . جانب
دلالتها على قدرة الخالق ، وحقيقة البعث ،
وطبيعة الموت والحياة . وهنا يتغير السياق من
الحكاية إلى الخطاب والمواجهة:
لقد
كشف الله لقوم موسى عن الحكمة من ذبح البقرة . .
لقد كانوا قد قتلوا نفسا منهم ؛ ثم جعل كل فريق
يدرأ عن نفسه التهمة ويلحقها بسواه . ولم يكن
هناك شاهد ؛ فأراد الله أن يظهر الحق على لسان
القتيل ذاته ؛ وكان ذبح البقرة وسيلة إلى
إحيائه ، وذلك بضربه ببعض من تلك البقرة
الذبيح . . وهكذا كان ، فعادت إليه الحياة ،
ليخبر بنفسه عن قاتله ، وليجلو الريب والشكوك
التي أحاطت بمقتله ؛ وليحق الحق ويبطل الباطل
بأوثق البراهين .
ولكن
. فيم كانت هذه الوسيلة ، والله قادر على أن
يحيي الموتى بلا وسيلة ؟ ثم ما مناسبة البقرة
المذبوحة مع القتيل المبعوث ؟ إن البقر يذبح
قربانا كما كانت عادة بني إسرائيل . . وبضعة من
جسد ذبيح ترد بها الحياة إلى جسد قتيل . وما في
هذه البضعة حياة ولا قدرة على الأحياء . . إنما
هي مجرد وسيلة ظاهرة تكشف لهم عن قدرة الله ،
التي لا يعرف البشر كيف تعمل . فهم يشاهدون
آثارها ولا يدركون كنهها ولا طريقتها في
العمل و: كذلك يحيي
الله الموتى . . كذلك
بمثل هذا الذي ترونه واقعا ولا تدرون كيف وقع
؛ وبمثل هذا اليسر الذي لا مشقة فيه ولا عسر
.
إن
المسافة بين طبيعة الموت وطبيعة الحياة مسافة
هائلة تدير الرؤوس . ولكنها في حساب القدرة
الإلهية أمر يسير . . كيف ؟ . . هذا ما لا أحد
يدريه . وما لا يمكن لأحد إدراكه . . إن إدراك
الماهية والكيفية هنا سر من أسرار الألوهية ،
لا سبيل إليه في عالم الفانين ! وإن يكن في طوق
العقل البشري إدراك دلالته والاتعاظ بها: ويريكم آياته لعلكم تعقلون
. .
وأخيرا
نجيء إلى جمال الأداء وتناسقه مع السياق
. .
هذه
قصة قصيرة نبدؤها ، فإذا نحن أمام مجهول لا
نعرف ما وراءه . نحن لا نعرف في مبدأ عرض القصة
لماذا يأمر الله بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة ،
كما أن بني إسرائيل إذ ذاك لم يعرفوا ، وفي هذا
اختبار لمدى الطاعة والاستجابة والتسليم
.
ثم
تتابع الحوار في عرض القصة بين موسى وقومه ،
فلا نرى الحوار ينقطع ليثبت ما دار بين موسى
وربه ؛ على حين أنهم كانوا في كل مرة يطلبون
منه أن يسأل ربه ، فكان يسأله ، ثم يعود إليهم
بالجواب . . ولكن سياق القصة لا يقول:إنه سأل
ربه ولا إن ربه أجابه . . إن هذا السكوت هو
اللائق بعظمة الله ، التي لا يجوز أن تكون في
طريق اللجاجة التي يزاولها بنو إسرائيل
!
ثم
تنتهي إلى المباغتة في الخاتمة - كما بوغت بها
بنو إسرائيل - انتفاض الميت مبعوثا ناطقا ،
على ضربة من بعض جسد لبقرة بكماء مذبوحة ، ليس
فيها من حياة ولا مادة حياة !
ومن
ثم يلتقي جمال الأداء التعبيري بحكمة السياق
الموضوعية في قصة قصيرة من القصص القرآني
الجميل .
وتعقيبا
على هذا المشهد الأخير من القصة ، الذي كان من
شأنه أن يستجيش في قلوب بني إسرائيل الحساسية
والخشية والتقوى ؛ وتعقيبا كذلك على كل ما سلف
من المشاهد و الأحداث والعبر والعظات ، تجيء
هذه الخاتمة المخالفة لكل ما كان يتوقع
ويرتقب:
ثم
قست قلوبكم من بعد ذلك ، فهي كالحجارة أو أشد
قسوة . وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ،
وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء . وإن منها
لما يهبط من خشية الله . وما الله بغافل عما
تعملون .
.
والحجارة
التي يقيس قلوبهم إليها ، فإذا قلوبهم منها
أجدب وأقسى . . هي حجارة لهم بها سابق عهد . فقد
رأوا الحجر تتفجر منه اثنتا عشرة عينا ، ورأوا
الجبل يندك حين تجلى عليه الله وخر موسى صعقا !
ولكن قلوبهم لا تلين ولا تندى ، ولا تنبض
بخشية ولا تقوى . . قلوب قاسية جاسية مجدبة
كافرة . . ومن ثم هذا التهديد:
وما
الله بغافل عما تعملون
.
وبهذا
يختم هذا الشطر من الجولة مع بني إسرائيل في
تاريخهم الحافل بالكفر والتكذيب ، والالتواء
واللجاجة ، والكيد والدس ، والقسوة والجدب ،
والتمرد والفسوق . .