|
الوحدة السادسة:109 - 119 آياتها:124 - 141 موضوعها حقيقة الإسلام ووراثة الرسل |
|
| الدرس الخامس:130 - 132:الإسلام في وصية إبراهيم ويعقوب | |
|
الدرس
الثامن:135 - 141 مناقشة مزاعم أهل الكتاب
حول الإنتساب لإبراهيم |
|
في القطاعات التي مضت من هذه السورة كان
الجدل مع أهل الكتاب ، دائرا كله حول سيرة بني
إسرائيل ، ومواقفهم من أنبيائهم وشرائعهم ،
ومن مواثيقهم وعهودهم ، ابتداء من عهد موسى -
عليه السلام - إلى عهد محمد
[ ص ] أكثره عن اليهود ، وأقله عن
النصارى ، مع إشارات إلى المشركين ، عند
السمات التي يلتقون فيها مع أهل الكتاب ، أو
يلتقي معهم فيها أهل الكتاب
.
فالآن
يرجع السياق إلى مرحلة تاريخية أسبق من عهد
موسى . . يرجع إلى إبراهيم . . وقصة إبراهيم - على
النحو الذي تساق به في موضعها هذا - تؤدي دورها
في السياق ، كما أنها تؤدي دورا هاما فيما شجر
بين اليهود والجماعة المسلمة في المدينة من
نزاع حاد متشعب الأطراف .
إن
أهل الكتاب ليرجعون بأصولهم إلى إبراهيم عن
طريق إسحاق - عليهما السلام - ويعتزون بنسبتهم
إليه ، وبوعد الله له ولذريته بالنمو والبركة
، وعهده معه ومع ذريته من بعده . ومن ثم
يحتكرون لأنفسهم الهدى والقوامة على الدين ،
كما يحتكرون لأنفسهم الجنة أيا كان ما يعملون
!
وإن
قريشا لترجع بأصولها كذلك إلى إبراهيم عن
طريق إسماعيل - عليهما السلام - وتعتز بنسبتها
إليه ؛ وتستمد منها القوامة على البيت ،
وعمارة المسجد الحرام ؛ وتستمد كذلك سلطانها
الديني على العرب ، وفضلها وشرفها ومكانتها
.
وقد
وصل السياق فيما مضى إلى الحديث عن دعاوى
اليهود والنصارى العريضة في الجنة: وقالوا:لن يدخل الجنة إلا من كان
هودا أو نصارى . . وعن
محاولتهم أن يجعلوا المسلمين يهودا أو نصارى .
. ليهتدوا . . وقالوا:كونوا
هودا أو نصارى تهتدوا .
. كذلك وصل إلى الحديث عن الذين
يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ويسعون
في خرابها . وقلنا هناك:إنها قد تكون خاصة
بموقف اليهود من قضية تحويل القبلة ،
وبالدعاية المسمومة التي أثاروها في الصف
الإسلامي بهذه المناسبة
.
فالأن
يجيء الحديث عن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ؛
والحديث عن البيت الحرام وبنائه وعمارته
وشعائره . . في جوه المناسب ، لتقرير الحقائق
الخالصة في ادعاءات اليهود والنصارى
والمشركين جميعا حول هذه النسب وهذه الصلات .
ولتقرير قضية القبلة التي ينبغي أن يتجه
إليها المسلمون . . كذلك تجيء المناسبة لتقرير
حقيقة دين إبراهيم - وهي التوحيد الخالص - وبعد
ما بينها وبين العقائد المشوهة المنحرفة التي
عليها أهل الكتاب والمشركون سواء ؛ وقرب ما
بين عقيدة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب -
وهو إسرائيل الذي ينتسبون إليه - وعقيدة
الجماعة المسلمة بآخر دين . ولتقرير وحدة دين
الله ، واطراده على أيدي رسله جميعا ، ونفي
فكرة احتكاره في أيدي أمة أو جنس . وبيان أن
العقيدة تراث القلب المؤمن لا تراث العصبية
العمياء . وأن وراثة هذا التراث لا تقوم على
قرابة الدم والجنس ولكن على قرابة الإيمان
والعقيدة . فمن آمن بهذه العقيدة ورعاها في أي
جيل ومن أي قبيل فهو أحق بها من أبناء الصلب
واقرباء العصب ! فالدين دين الله . وليس بين
الله وبين أحد من عباده نسب ولا صهر
!!!
هذه
الحقائق التي تمثل شطرا من الخطوط الأساسية
في التصور الإسلامي ، يجلوها القرآن الكريم
هنا في نسق من الأداء عجيب ، وفي عرض من
الترتيب والتعبير بديع . . يسير بنا خطوة خطوة
من لدن إبراهيم - عليه السلام - منذ أن ابتلاه
ربه واختبره فاستحق اختياره واصطفاءه ،
وتنصيبه للناس إماما . . إلى أن نشأت الأمة
المسلمة المؤمنة برسالة محمد
[ ص ] استجابة من
الله لدعوة إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان
القواعد من البيت الحرام ؛ فاستحقت وراثة هذه
الأمانة دون ذرية إبراهيم جميعا ، بذلك السبب
الوحيد الذي تقوم عليه وراثة العقيدة . سبب
الإيمان بالرسالة ، وحسن القيام عليها ،
والاستقامة على تصورها الصحيح
.
وفي
ثنايا هذا العرض التاريخي يبرز السياق:أن
الإسلام - بمعنى إسلام الوجه لله وحده - كان هو
الرسالة الأولى ، وكان هو الرسالة الأخيرة . .
هكذا اعتقد إبراهيم ، وهكذا اعتقد من بعده
إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، حتى أسلموا
هذه العقيدة ذاتها إلى موسى وعيسى . .
ثم آلت أخيرا إلى ورثة
إبراهيم من المسلمين . . فمن استقام على هذه
العقيدة الواحدة فهو وريثها ، ووريث عهودها
وبشاراتها . ومن فسق عنها ، ورغب بنفسه عن ملة
إبراهيم ، فقد فسق عن عهد الله ، وقد فقد
وراثته لهذا العهد وبشاراته .
عندئذ
تسقط كل دعاوى اليهود والنصارى في اصطفائهم
واجتبائهم ، لمجرد أنهم أبناء إبراهيم وحفدته
، وهم ورثته وخلفاؤه ! لقد سقطت عنهم الوراثة
منذ ما انحرفوا عن هذه العقيدة . . وعندئذ تسقط
كذلك كل دعاوى قريش في الاستئثار بالبيت
الحرام وشرف القيام عليه وعمارته ، لأنهم قد
فقدوا حقهم في وراثة باني هذا البيت ورافع
قواعده بانحرافهم عن عقيدته . . ثم تسقط كل
دعاوى اليهود فيما يختص بالقبلة التي ينبغي
أن يتجه إليها المسلمون . فالكعبة هي قبلتهم
وقبلة أبيهم إبراهيم
. .
كل
ذلك في نسق من العرض والأداء والتعبير عجيب ؛
حافل بالإشارات الموحية ، والوقفات العميقة
الدلالة ، والإيضاح القوي التأثير . فنأخذ في
استعراض هذا النسق العالي في ظل هذا البيان
المنير:
الدرس
الأول:124 إمامة إبراهيم وشرط الإمامة في ذريته
وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن .
قال:إني جاعلك للناس إماما . قال:ومن ذريتي ؟
قال:لا ينال عهدي الظالمين
. .
يقول
للنبي [ ص ]
اذكر ما كان من ابتلاء الله لإبراهيم
بكلمات من الأوامر والتكاليف ، فأتمهن وفاء
وقضاء . . وقد شهد الله لإبراهيم في موضع آخر
بالوفاء بالتزاماته على النحو الذي يرضى الله
عنه فيستحق شهادته الجليلة:
وإبراهيم الذي وفى .
. وهو مقام عظيم ذلك المقام الذي بلغه إبراهيم
. مقام الوفاء والتوفية بشهادة الله عز وجل .
والإنسان بضعفه وقصوره لا يوفي ولا يستقيم
!
عندئذ
استحق إبراهيم تلك البشرى . أو تلك الثقة:
قال:إني
جاعلك للناس إماما
. .
إماما
يتخذونه قدوة ، ويقودهم إلى الله ، ويقدمهم
إلى الخير ، ويكونون له تبعا ، وتكون له فيهم
قيادة .
عندئذ
تدرك إبراهيم فطرة البشر:الرغبة في الامتداد
عن طريق الذراري والأحفاد . ذلك الشعور الفطري
العميق ، الذي أودعه الله فطرة البشر لتنمو
الحياة وتمضي في طريقها المرسوم ، ويكمل
اللاحق ما بدأه السابق ، وتتعاون الأجيال
كلها وتتساوق . . ذلك الشعور الذي يحاول بعضهم
تحطيمه أو تعويقه وتكبيله ؛ وهو مركوز في أصل
الفطرة لتحقيق تلك الغاية البعيدة المدى .
وعلى أساسه يقرر الإسلام شريعة الميراث ،
تلبية لتلك الفطرة ، وتنشيطا لها لتعمل ،
ولتبذل أقصى ما في طوقها من جهد . وما
المحاولات التي تبذل لتحطيم هذه القاعدة إلا
محاولة لتحطيم
الفطرة البشرية في أساسها ؛ وإلا تكلف وقصر
نظر واعتساف في معالجة بعض عيوب الأوضاع
الاجتماعية المنحرفة . وكل علاج يصادم الفطرة
لا يفلح ولا يصلح ولا يبقى . وهناك غيره من
العلاج الذي يصلح الانحراف ولا يحطم الفطرة .
ولكنه يحتاج إلى هدى وإيمان ، وإلى خبرة
بالنفس البشرية أعمق ، وفكرة عن تكوينها أدق ،
وإلى نظرة خالية من الأحقاد الوبيلة التي
تنزع إلى التحطيم والتنكيل ، أكثر مما ترمي
إلى البناء والإصلاح:
قال:ومن
ذريتي ؟
. .
وجاءه
الرد من ربه الذي ابتلاه واصطفاه ، يقرر
القاعدة الكبرى التي أسلفنا . . إن الإمامة لمن
يستحقونها بالعمل والشعور ، وبالصلاح
والإيمان ، وليست وراثة أصلاب وأنساب .
فالقربى ليست وشيجة لحم ودم ، إنما هي وشيجة
دين وعقيدة . ودعوى القرابة والدم والجنس
والقوم إن هي إلا دعوى الجاهلية ، التي تصطدم
اصطداما أساسيا بالتصور الإيماني الصحيح:
قال:لا
ينال عهدي الظالمين
. . .
والظلم
أنواع وألوان:ظلم النفس بالشرك ، وظلم الناس
بالبغي . . والإمامة الممنوعة على الظالمين
تشمل كل معاني الإمامة:امامة الرسالة ،
وإمامة الخلافة ، وإمامة الصلاة . . وكل معنى
من معاني الإمامة والقيادة . فالعدل بكل
معانيه هو أساس استحقاق هذه الإمامة في أية
صورة من صورها . ومن ظلم - أي لون من الظلم - فقد
جرد نفسه من حق الإمامة وأسقط حقه فيها ؛ بكل
معنى من معانيها
.
وهذا
الذي قيل لإبراهيم - عليه السلام - وهذا العهد
بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض قاطع في
تنحية اليهود عن القيادة والإمامة ، بما
ظلموا ، وبما فسقوا ، وبما عتوا عن أمر الله ،
وبما انحرفوا عن عقيدة جدهم إبراهيم
. .
وهذا
الذي قيل لإبراهيم - عليه السلام - وهذا العهد
بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض قاطع
كذلك في تنحية من يسمون أنفسهم المسلمين
اليوم . بما ظلموا ، وبما فسقوا وبما بعدوا عن
طريق الله ، وبما نبذوا من شريعته وراء ظهورهم
. . ودعواهم الإسلام ، وهم ينحون شريعة الله
ومنهجه عن الحياة ، دعوى كاذبة لا تقوم على
أساس من عهد الله
.
إن
التصور الإسلامي يقطع الوشائج والصلات التي
لا تقوم على أساس العقيدة والعمل . ولا يعترف
بقربى ولا رحم إذا أنبتت وشيجة العقيدة
والعمل ويسقط جميع الروابط والاعتبارات ما لم
تتصل بعروة العقيدة والعمل . . وهو يفصل بين
جيل من الأمة الواحدة وجيل إذا خالف أحد
الجيلين الآخر في عقيدته ، بل يفصل بين الوالد
والولد ، والزوج والزوج إذا انقطع بينهما حبل
العقيدة . فعرب الشرك شيء وعرب الإسلام شيء
آخر . ولا صلة بينهما ولا قربى ولا وشيجة .
والذين آمنوا من أهل الكتاب شيء ، والذين
انحرفوا عن دين إبراهيم وموسى وعيسى شيء آخر ،
ولا صلة بينهما ولا قربى ولا وشيجة . . إن
الأسرة ليست آباء وأبناء وأحفادا . . إنما هي
هؤلاء حين تجمعهم عقيدة واحدة . وإن الأمة
ليست مجموعة أجيال متتابعة من جنس معين . .
إنما هي مجموعة من المؤمنين مهما اختلفت
أجناسهم وأوطانهم وألوانهم . . وهذا هو التصور
الإيماني ، الذي ينبثق من خلال هذا البيان
الرباني ، في كتاب الله الكريم
. .
الدرس
الثاني:125 المسجد الحرام أمن للعابدين
وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ،
واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ، وعهدنا إلى
إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين
والعاكفين والركع السجود
. .
هذا
البيت الحرام الذي قام سدنته من قريش فروعوا
المؤمنين وآذوهم وفتنوهم عن دينهم حتى هاجروا
من جواره . . لقد أراده الله مثابة يثوب إليها
الناس جميعا ، فلا يروعهم أحد ؛ بل يأمنون فيه
على أرواحهم وأموالهم . فهو ذاته أمن وطمأنينة
وسلام .
ولقد
أمروا أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى - ومقام
إبراهيم يشير هنا إلى البيت كله وهذا ما
نختاره في تفسيره - فاتخاذ البيت قبلة
للمسلمين هو الأمر الطبيعي ، الذي لا يثير
اعتراضا . وهو أولى قبلة يتوجه إليها المسلمون
، ورثة إبراهيم بالإيمان والتوحيد الصحيح ،
بما أنه بيت الله ، لا بيت أحد من الناس . وقد
عهد الله - صاحب البيت - إلى عبدين من عباده
صالحين أن يقوما بتطهيره وإعداده للطائفين
والعاكفين والركع السجود - أي للحجاج
الوافدين عليه ، وأهله العاكفين فيه ، والذين
يصلون فيه ويركعون ويسجدون فحتى إبراهيم
وإسماعيل لم يكن البيت ملكا لهما ، فيورث
بالنسب عنهما ، إنما كانا سادنين له بأمر
ربهما ، لإعداده لقصاده وعباده من المؤمنين
.
الدرس
الثالث:تأدب إبراهيم في دعائه لله
وإذ قال إبراهيم:رب اجعل هذا بلدا آمنا ،
وارزق أهله من الثمرات . . من آمن منهم بالله
واليوم الآخر . . قال:ومن كفر فأمتعه قليلا ، ثم
أضطره إلى عذاب النار ، وبئس المصير
. .
ومرة
أخرى يؤكد دعاء إبراهيم صفة الأمن للبيت .
ومرة أخرى يؤكد معنى الوراثة للفضل والخير . .
إن إبراهيم قد أفاد من عظة ربه له في الأولى .
لقد وعى منذ أن قال له ربه:
لا ينال عهدي الظالمين
. . وعى هذا الدرس . . فهو هنا ، في دعائه أن
يرزق الله أهل هذا البلد من الثمرات ، يحترس
ويستثني ويحدد من يعني:
من
آمن منهم بالله واليوم الآخر
. .
إنه
إبراهيم الأواه الحليم القانت المستقيم ،
يتأدب بالأدب الذي علمه ربه ، فيراعيه في طلبه
ودعائه . . وعندئذ يجيئه رد ربه مكملا ومبينا
عن الشطر الآخر الذي سكت عنه . شطر الذين لا
يؤمنون ، ومصيرهم الأليم:
قال:ومن
كفر فأمتعه قليلا ، ثم أضطره إلى عذاب النار ،
وبئس المصير
. .
الدرس
الرابع 127 - 129 دعاء إبراهيم وإسماعيل عند بناء
البيت
ثم يرسم مشهد تنفيذ إبراهيم وإسماعيل
للأمر الذي تلقياه من ربهما بإعداد البيت
وتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود . .
يرسمه مشهودا كما لو كانت الأعين تراهما
اللحظة وتسمعهما في آن:
وإذ
يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل:ربنا
تقبل منا إنك أنت السميع العليم . ربنا
واجعلنا مسلمين لك ، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك
، وأرنا مناسكنا وتب علينا ، إنك أنت التواب
الرحيم . ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو
عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ،
ويزكيهم ، إنك أنت العزيز الحكيم
. . إن التعبير يبدأ بصيغة الخبر . . حكاية
تحكى:
وإذ
يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل
. .
وبينما
نحن في انتظار بقية الخبر ، إذا بالسياق يكشف
لنا عنهما ، ويرينا إياهما ، كما لو كانت رؤية
العين لا رؤيا الخيال . إنهما أمامنا حاضران ،
نكاد نسمع صوتيهما يبتهلان:
ربنا
تقبل منا إنك أنت السميع العليم . ربنا
واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك
وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب
الرحيم . . ربنا .
.
فنغمة
الدعاء ، وموسيقى الدعاء ، وجو الدعاء . . كلها
حاضرة كأنها تقع اللحظة حية شاخصة متحركة . .
وتلك إحدى خصائص التعبير القرآني الجميل . رد
المشهد الغائب الذاهب ، حاضرا يسمع ويرى ،
ويتحرك ويشخص ، وتفيض منه الحياة . . إنها
خصيصة "التصوير الفني" بمعناه الصادق ،
اللائق بالكتاب الخالد
.
وماذا
في ثنايا الدعاء ؟ إنه أدب النبوة ، وإيمان
النبوة ، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا
الوجود . وهو الأدب والإيمان والشعور الذي
يريد القرآن أن يعلمه لورثة الأنبياء ، وأن
يعمقه في قلوبهم ومشاعرهم بهذا الإيحاء:
ربنا
تقبل منا . إنك أنت السميع العليم . .
إنه
طلب القبول . . هذه هي الغاية . . فهو عمل خالص
لله . الاتجاه به في قنوت وخشوع إلى الله .
والغاية المرتجاة من ورائه هي الرضى والقبول .
. والرجاء في قبوله متعلق بأن الله سميع
للدعاء . عليهم بما وراءه من النية والشعور
.
ربنا
واجعلنا مسلمين لك ، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك .
وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب
الرحيم
.
إنه
رجاء العون من ربهما في الهداية إلى الإسلام ؛
والشعور بأن قلبيهما بين أصبعين من أصابع
الرحمن ؛ وأن الهدى هداه ، وأنه لا حول لهما
ولا قوة إلا بالله ، فهما يتجهان ويرغبان ،
والله المستعان
.
ثم
هو طابع الأمة المسلمة . . التضامن . . تضامن
الأجيال في العقيدة: ومن
ذريتنا أمة مسلمة لك .
. وهي دعوة تكشف عن اهتمامات القلب المؤمن . إن
أمر العقيدة هو شغله الشاغل ، وهو همه الأول .
وشعور إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام -
بقيمة النعمة التي أسبغها الله عليهما . . نعمة
الإيمان . . تدفعهما إلى الحرص عليها في عقبهما
، وإلى دعاء الله ربهما ألا يحرم ذريتهما هذا
الإنعام الذي لا يكافئه إنعام . . لقد دعوا
الله ربهما أن يرزق ذريتهما من الثمرات ولم
ينسيا أن يدعواه ليرزقهم من الإيمان ؛ وأن
يريهم جميعا مناسكهم ، ويبين لهم عباداتهم ،
وأن يتوب عليهم . بما أنه هو التواب الرحيم
.
ثم
ألا يتركهم بلا هداية في أجيالهم البعيدة:
ربنا
وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ،
ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم . إنك أنت
العزيز الحكيم
. .
وكانت
الاستجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل هي بعثة
هذا الرسول الكريم بعد قرون وقرون . بعثة رسول
من ذرية إبراهيم وإسماعيل ، يتلو عليهم آيات
الله ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويطهرهم من
الأرجاس والأدناس . إن الدعوة المستجابة
تستجاب ، ولكنها تتحقق في أوانها الذي يقدره
الله بحكمته . غير أن الناس يستعجلون ! وغير
الواصلين يملون ويقنطون
!
وبعد
فإن لهذا الدعاء دلالته ووزنه فيما كان يشجر
بين اليهود والجماعة المسلمة من نزاع عنيف
متعدد الأطراف . إن إبراهيم وإسماعيل اللذين
عهد الله إليهما برفع قواعد البيت وتطهيره
للطائفين والعاكفين والمصلين ، وهما أصل
سادني البيت من قريش . . إنهما يقولان باللسان
الصريح: ربنا
واجعلنا مسلمين لك .
. ومن ذريتنا أمة
مسلمة لك . . كما
يقولان باللسان الصريح: ربنا
وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ،
ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم
. . وهما بهذا وذاك يقرر أن وراثة الأمة
المسلمة لإمامة إبراهيم ، ووراثتها للبيت
الحرام سواء . وإذن فهو بيتها الذي تتجه إليه ،
وهي أولى به من المشركين . وهو أولى بها من
قبلة اليهود والمسيحيين
!
وإذن
فمن كان يربط ديانته بإبراهيم من اليهود
والنصارى ، ويدعي دعاواه العريضة في الهدى
والجنة بسبب تلك الوراثة ، ومن كان يربط نسبه
بإسماعيل من قريش . . فليسمع:إن إبراهيم حين
طلب الوراثة لبنيه والإمامة ، قال له ربه:
لا ينال عهدي الظالمين
. . ولما أن دعا هو
لأهل
البلد بالرزق والبركة خص بدعوته:
من آمن بالله واليوم الآخر
. . وحين قام هو وإسماعيل بأمر ربهما في
بناء البيت وتطهيره كانت دعوتهما:أن يكونا
مسلمين لله ، وأن يجعل الله من ذريتهما أمة
مسلمة ، وأن يبعث في أهل بيته رسولا منهم . .
فاستجاب الله لهما ، وأرسل من أهل البيت محمد
بن عبد الله ، وحقق على يديه الأمة المسلمة
القائمة بأمر الله . الوارثة لدين الله
.
الدرس
الخامس:130 - 132:الإسلام في وصية إبراهيم ويعقوب
وعند هذا المقطع من قصة إبراهيم ، يلتقط
السياق دلالته وإيحاءه ، ليواجه بهما الذين
ينازعون الأمة المسلمة الإمامة ؛ وينازعون
الرسول [ ص ]
النبوة والرسالة ؛ ويجادلون في حقيقة دين
الله الأصيلة الصحيحة:
ومن
يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ؟ ولقد
اصطفيناه في الدنيا ، وإنه في الآخرة لمن
الصالحين . إذ قال له ربه أسلم . قال:أسلمت لرب
العالمين . ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب:يا
بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا
وأنتم مسلمون . .
هذه
هي ملة إبراهيم . . الإسلام الخالص الصريح . . لا
يرغب عنها وينصرف إلا ظالم لنفسه ، سفيه عليها
، مستهتر بها . . إبراهيم الذي اصطفاه ربه في
الدنيا إماما ، وشهد له في الآخرة بالصلاح . .
اصطفاه إذ قال له
ربه أسلم . . فلم
يتلكأ ، ولم يرتب ، ولم ينحرف ، واستجاب فور
تلقي الأمر .
قال:أسلمت
لرب العالمين
. .
هذه
هي ملة إبراهيم . . الإسلام الخالص الصريح . .
ولم يكتف إبراهيم بنفسه إنما تركها في عقبه ،
وجعلها وصيته في ذريته ، ووصى بها إبراهيم
بنيه كما وصى بها يعقوب بنيه . ويعقوب هو
إسرائيل الذي ينتسبون إليه ، ثم لا يلبون
وصيته ، ووصية جده وجدهم إبراهيم
!
ولقد
ذكر كل من إبراهيم ويعقوب بنيه بنعمة الله
عليهم في اختياره الدين لهم:
يا
بني إن الله اصطفى لكم الدين
. .
فهو
من اختيار الله . فلا اختيار لهم بعده ولا
اتجاه . وأقل ما توجبه رعاية الله لهم ، وفضل
الله عليهم ، هو الشكر على نعمة اختياره
واصطفائه ، والحرص على ما اختاره لهم ،
والاجتهاد في ألا يتركوا هذه الأرض إلا وهذه
الأمانة محفوظة فيهم:
فلا
تموتن إلا وأنتم مسلمون
. .
وها
هي ذي الفرصة سانحة ، فقد جاءهم الرسول الذي
يدعوهم إلى الإسلام ، وهو ثمرة الدعوة التي
دعاها أبوهم إبراهيم
. .
الدرس
السادس:133 يعقوب يوصي بنيه بالإسلام
تلك كانت وصية إبراهيم لبنيه ووصية يعقوب
لبنيه . . الوصية التي كررها يعقوب في آخر لحظة
من لحظات حياته ؛ والتي كانت شغله الشاغل الذي
لم يصرفه عنه الموت وسكراته ، فليسمعها بنو
إسرائيل:
أم
كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت . إذ قال لبنيه:ما
تعبدون من بعدي ؟ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له
مسلمون
. .
إن
هذا المشهد بين يعقوب وبنيه في لحظة الموت
والاحتضار لمشهد عظيم الدلالة ، قوي الإيحاء
، عميق التأثير . . ميت يحتضر . فما هي القضية
التي تشغل باله في ساعة الاحتضار ؟ ما هو
الشاغل الذي يعني خاطره وهو في سكرات الموت ؟
ما هو الأمر الجلل الذي يريد أن يطمئن عليه
ويستوثق منه ؟ ما هي التركة التي يريد أن
يخلفها لأبنائه ويحرص على سلامة وصولها إليهم
فيسلمها لهم في محضر ، يسجل فيه كل التفصيلات
؟ . .
إنها
العقيدة . . هي التركة . وهي الذخر . وهي القضية
الكبرى ، وهي الشغل الشاغل ، وهي الأمر الجلل
، الذي لا تشغل عنه سكرات الموت وصرعاته:
ما
تعبدون من بعدي ؟
. .
هذا
هو الأمر الذي جمعتكم من أجله . وهذه هي القضية
التي أردت الاطمئنان عليها . وهذه هي الأمانة
والذخر والتراث
. .
قالوا:نعبد
إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق .
إلها واحدا . ونحن له مسلمون
. .
إنهم
يعرفون دينهم ويذكرونه . إنهم يتسلمون التراث
ويصونونه . إنهم يطمئنون الوالد المحتضر
ويريحونه .
وكذلك
ظلت وصية إبراهيم لبنيه مرعية في أبناء يعقوب
. وكذلك هم ينصون نصا صريحا على أنهم
مسلمون
. والقرآن يسأل بني
إسرائيل: أم كنتم
شهداء إذ حضر يعقوب الموت ؟
. . فهذا هو الذي كان ، يشهد به الله ،
ويقرره ، ويقطع به كل حجة لهم في التمويه
والتضليل ؛ ويقطع به كل صلة حقيقية بينهم وبين
أبيهم إسرائيل
!
الدرس
السابع:134 لا صلة بين اليهود وبين أنبيائهم
وفي ضوء هذا التقرير يظهر الفارق الحاسم
بين تلك الأمة التي خلت ، والجيل الذي كانت
تواجهه الدعوة . . حيث لا مجال لصلة ، ولا مجال
لوراثة ، ولا مجال لنسب بين السابقين
واللاحقين:
تلك
أمة قد خلت ، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ، ولا
تسألون عما كانوا يعملون
. .
فلكل
حساب ؛ ولكل طريق ؛ ولكل عنوان ؛ ولكل صفة . .
أولئك أمة من المؤمنين فلا علاقة لها
بأعقابها من الفاسقين . إن هذه الأعقاب ليست
امتدادا لتلك الأسلاف . هؤلاء حزب وأولئك حزب .
لهؤلاء راية ولأولئك راية . . والتصور
الإيماني في هذا غير التصور الجاهلي . .
فالتصور الجاهلي لا يفرق بين جيل من الأمة
وجيل ، لأن الصلة هي صلة الجنس والنسب . أما
التصور الإيماني فيفرق بين جيل مؤمن وجيل
فاسق ؛ فليسا أمة واحدة ، وليس بينهما صلة ولا
قرابة . . إنهما أمتان مختلفتان في ميزان الله
، فهما مختلفتان في ميزان المؤمنين . إن الأمة
في التصور الإيماني هي الجماعة التي تنتسب
إلى عقيدة واحدة من كل جنس ومن كل أرض ؛ وليست
هي الجماعة التي تنتسب إلى جنس واحد أو أرض
واحدة . وهذا هو التصور اللائق بالإنسان ،
الذي يستمد إنسانيته من نفخة الروح العلوية ،
لا من التصاقات الطين الأرضية
!
الدرس
الثامن:135 - 141 مناقشة مزاعم أهل الكتاب حول
الإنتساب لإبراهيم
في ظل هذا البيان التاريخي الحاسم ، لقصة
العهد مع إبراهيم:وقصة البيت الحرام كعبة
المسلمين ؛ ولحقيقة الوراثة وحقيقة الدين ؛
يناقش ادعاءات أهل الكتاب المعاصرين ، ويعرض
لحججهم وجدلهم ومحالهم ، فيبدو هذا كله ضعيفا
شاحبا ، كما يبدو فيه العنت والادعاء بلا دليل:كذلك
تبدو العقيدة الإسلامية عقيدة طبيعية شاملة
لا ينحرف عنها إلا المتعنتون:
وقالوا:كونوا
هودا أو نصارى تهتدوا . قل:بل ملة إبراهيم
حنيفا ، وما كان من المشركين . قولوا:آمنا
بالله ، وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ،
وما أوتي موسى وعيسى ، وما أوتي النبيون من
ربهم ، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون .
فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ، وإن
تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله ، وهو
السميع العليم . صبغة الله ومن أحسن من الله
صبغة ؟ ونحن له عابدون . قل:أتحاجوننا في الله
وهو ربنا وربكم ، ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ،
ونحن له مخلصون ؟ . أم تقولون:إن إبراهيم
وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا
أو نصارى ؟ قل:أأنتم أعلم أم الله ؟ ومن أظلم
ممن كتم شهادة عنده من الله ؟ وما الله بغافل
عما تعملون
. .
وإنما
كان قول اليهود:كونوا يهودا تهتدوا ؛ وكان قول
النصارى:كونوا نصارى تهتدوا . فجمع الله
قوليهم ليوجه نبيه [
ص ] أن يواجههم جميعا
بكلمة واحدة:
قل:بل
ملة إبراهيم حنيفا ، وما كان من المشركين
. .
قل:بل
نرجع جميعا ، نحن وأنتم ، إلى ملة إبراهيم ،
أبينا وأبيكم ، وأصل ملة الإسلام ، وصاحب
العهد مع ربه عليه . . وما
كان من المشركين . .
بينما أنتم تشركون
. .
ثم
يدعو المسلمين لإعلان الوحدة الكبرى للدين ،
من لدن إبراهيم أبي الأنبياء إلى عيسى بن مريم
، إلى الإسلام الأخير . ودعوة أهل الكتاب إلى
الإيمان بهذا الدين الواحد:
قولوا:آمنا
بالله ، وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ،
وما أوتي موسى وعيسى ، وما أوتي النبيون من
ربهم . لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون
. .
تلك
الوحدة الكبرى بين الرسالات جميعا ، وبين
الرسل جميعا ، هي قاعدة التصور الإسلامي وهي
التي تجعل من الأمة المسلمة ، الأمة الوارثة
لتراث العقيدة القائمة على دين الله في الأرض
، الموصولة بهذا الأصل العريق ، السائرة في
الدرب على هدى ونور . والتي تجعل من النظام
الإسلامي النظام العالمي الذي يملك الجميع
الحياة في ظله دون تعصب ولا اضطهاد . والتي
تجعل من المجتمع الإسلامي مجتمعا مفتوحا
للناس جميعا في مودة وسلام
.
ومن
ثم يقرر السياق الحقيقة الكبيرة ، ويثبت
عليها المؤمنين بهذه العقيدة . حقيقة أن هذه
العقيدة هي الهدى . من اتبعها فقد اهتدى . ومن
أعرض عنها فلن يستقر على أصل ثابت ؛ ومن ثم يظل
في شقاق مع الشيع المختلفة التي لا تلتقي على
قرار:
فإن
آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ، وإن
تولوا فإنما هم في شقاق
. .
وهذه
الكلمة من الله ، وهذه الشهادة منه سبحانه ،
تسكب في قلب المؤمن الاعتزاز بما هو عليه . فهو
وحده المهتدي . ومن لا يؤمن بما يؤمن به فهو
المشاق للحق المعادي للهدى . ولا على المؤمن
من شقاق من لا يهتدي ولا يؤمن ، ولا عليه من
كيده ومكره . ولا عليه من جداله ومعارضته .
فالله سيتولاهم عنه ، وهو كافيه وحسبه:
فسيكفيكهم
الله . وهو السميع العليم .
إنه
ليس على المؤمن إلا أن يستقيم على طريقته ،
وأن يعتز بالحق المستمد مباشرة من ربه ،
وبالعلامة التي يضعها الله على أوليائه ،
فيعرفون بها في الأرض:
صبغة
الله . ومن أحسن من الله صبغة ؟ ونحن له عابدون
. .
صبغة
الله التي شاء لها أن تكون آخر رسالاته إلى
البشر . لتقوم عليها وحدة إنسانية واسعة
الآفاق ، لا تعصب فيها ولا حقد ، ولا أجناس
فيها ولا ألوان .
ونقف
هنا عند سمة من سمات التعبير القرآني ذات
الدلالة العميقة . . إن صدر هذه الآية من كلام
الله التقريري: صبغة
الله ومن أحسن من الله صبغة
. . أما باقيها فهو من كلام المؤمنين .
يلحقه السياق - بلا فاصل - بكلام الباريء
سبحانه في السياق . وكله قرآن منزل . ولكن
الشطر الأول حكاية عن قول الله ، والشطر
الثاني حكاية عن قول المؤمنين . وهو تشريف
عظيم أن يلحق كلام المؤمنين بكلام الله في
سياق واحد ، بحكم الصلة الوثيقة بينهم وبين
ربهم ، وبحكم الاستقامة الواصلة بينه وبينهم .
وأمثال هذا في القرآن كثير . وهو ذو مغزى كبير .
ثم
تمضي الحجة الدامغة إلى نهايتها الحاسمة:
قل:أتحاجوننا
في الله ، وهو ربنا وربكم ، ولنا أعمالنا ولكم
أعمالكم ، ونحن له مخلصون ؟
. .
ولا
مجال للجدل في وحدانية الله وربوبيته . فهو
ربنا وربكم ، ونحن محاسبون بأعمالنا ، وعليكم
وزر أعمالكم . ونحن متجردون له مخلصون لا نشرك
به شيئا ، ولا نرجو معه أحدا . . وهذا الكلام
تقرير لموقف المسلمين واعتقادهم ؛ وهو غير
قابل للجدل والمحاجة واللجاج
. .
ومن
ثم يضرب السياق عنه ، وينتقل إلى مجال آخر من
مجالات الجدل . يظهر أنه هو الآخر غير قابل
للجاجة والمحال:
أم
تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب
والأسباط كانوا هودا أو نصارى ؟
.
وهم
كانوا أسبق من موسى ، وأسبق من اليهودية
والنصرانية . والله يشهد بحقيقة دينهم - وهو
الإسلام كما سبق البيان
-:
قل:أأنتم
أعلم أم الله ؟
. .
وهو
سؤال لا جواب عليه ! وفيه من الاستنكار ما يقطع
الألسنة دون الجواب عليه
!
ثم
إنكم لتعلمون أنهم كانوا قبل أن تكون
اليهودية والنصرانية . وكانوا على الحنيفية
الأولى التي لا تشرك بالله شيئا . ولديكم كذلك
شهادة في كتبكم أن سيبعث نبي في آخر الزمان
دينه الحنيفية ، دين إبراهيم . ولكنكم تكتمون
هذه الشهادة:
ومن
أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ؟ . .
والله
مطلع على ما تخفون من الشهادة التي ائتمنتم
عليها ، وما تقومون به من الجدال فيها
لتعميتها وتلبيسها:
وما
الله بغافل عما تعملون
. .
وحين
يصل السياق إلى هذه القمة في الافحام ، وإلى
هذا الفصل في القضية ، وإلى بيان ما بين
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط
وبين اليهود المعاصرين من مفارقة تامة في كل
اتجاه . . عندئذ يعيد الفاصلة التي ختم بها
الحديث من قبل عن إبراهيم وذريته المسلمين:
تلك
أمة قد خلت . لها ما كسبت ولكم ما كسبتم . ولا
تسألون عما كانوا يعملون
. .
وفيها فصل الخطاب ، ونهاية الجدل ، والكلمة الأخيرة في تلك الدعاوى الطويلة العريضة
. انتهى الجزء الأول
ويليه
الجزء الثاني مبدوءا بقوله تعالى:سيقول
السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي
كانوا عليها ؟