| فهرس الظلال | فهرس الجزء الأول |
سورة
الفاتحة مكية
وآياتها سبع
|
|
|
إهدنا
الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت
عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين |
|
الفاتحة
يردد المسلم هذه السورة القصيرة ذات
الآيات السبع ، سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة
على الحد الأدنى ؛ وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلى
السنن ؛ وإلى غير حد إذا هو رغب في أن يقف بين
يدي ربه متنفلا ، غير الفرائض والسنن . ولا
تقوم صلاة بغير هذه السورة لما ورد في
الصحيحين عن رسول الله من
حديث عبادة بن الصامت: لا
صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب
.
إن
في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية ،
وكليات التصور الإسلامي ، وكليات المشاعر
والتوجيهات ، ما يشير إلى طرف من حكمة
اختيارها للتكرار في كل ركعة ، وحكمة بطلان كل
صلاة لا تذكر فيها ..
تبدأ السورة: بسم الله الرحمن الرحيم
.. ومع الخلاف حول البسملة:أهي آية من كل
سورة أم هي آية من القرآن تفتتح بها عند
القراءة كل سورة ، فإن الأرجح أنها آية من
سورة الفاتحة ، وبها تحتسب آياتها سبعا .
وهناك قول بأن المقصود بقوله تعالى: ولقد آتيناك سبعا من المثاني
والقرآن العظيم .. هو
سورة الفاتحة بوصفها سبع آيات
من المثاني لأنها
يثنى بها وتكرر في الصلاة .
والبدء
باسم الله هو الأدب الذي أوحى الله لنبيه
في أول ما نزل من القرآن باتفاق ، وهو قوله
تعالى: اقرأ باسم
ربك ... .. وهو الذي
يتفق مع قاعدة التصور الإسلامي الكبرى من أن
الله هو الأول
والآخر والظاهر والباطن
.. فهو - سبحانه - الموجود الحق الذي يستمد
منه كل موجود وجوده ، ويبدأ منه كل مبدوء بدأه
. فباسمه إذن يكون كل ابتداء . وباسمه إذن تكون
كل حركة وكل اتجاه .
ووصفه
- سبحانه - في البدء بالرحمن الرحيم ، يستغرق
كل معاني الرحمة وحالاتها .. وهو المختص وحده
باجتماع هاتين الصفتين ، كما أنه المختص وحده
بصفة الرحمن . فمن الجائز أن يوصف عبد من عباده
بأنه رحيم ؛ ولكن من الممتنع من الناحية
الإيمانية أن يوصف عبد من عباده بأنه رحمن .
ومن باب أولى أن تجتمع له الصفتان . . ومهما
يختلف في معنى الصفتين:أيتهما تدل على مدى
أوسع من الرحمة ، فهذا الاختلاف ليس مما
يعنينا تقصيه في هذه الظلال ؛ إنما نخلص منه
إلى استغراق هاتين الصفتين مجتمعتين لكل
معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها .
وإذا
كان البدء باسم الله وما ينطوي عليه من توحيد
الله وأدب معه يمثل الكلية الأولى في التصور
الإسلامي . . فإن استغراق معاني الرحمة
وحالاتها ومجالاتها في صفتي الرحمن الرحيم
يمثل الكلية الثانية في هذا التصور ، ويقرر
حقيقة العلاقة بين الله والعباد .
وعقب البدء باسم الله الرحمن الرحيم يجيء
التوجه إلى الله بالحمد ووصفه بالربوبية
المطلقة للعالمين: الحمد
لله رب العالمين . .
والحمد
لله هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن بمجرد
ذكره لله . . فإن وجوده ابتداء ليس إلا فيضا من
فيوضات النعمة الإلهية التي تستجيش الحمد
والثناء . وفي كل لمحة وفي كل لحظة وفي كل خطوة
تتوالى آلاء الله وتتواكب وتتجمع ، وتغمر
خلائقه كلها وبخاصة هذا الإنسان . . ومن ثم كان
الحمد لله ابتداء ، وكان الحمد لله ختاما
قاعدة من قواعد التصور الإسلامي المباشر:
وهو الله لا إله إلا هو ، له الحمد في
الأولى والآخرة . . . .
ومع
هذا يبلغ من فضل الله - سبحانه - وفيضه على عبده
المؤمن ، أنه إذا قال:الحمد لله . كتبها له
حسنة ترجح كل الموازين . . في سنن ابن ماجه عن
ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله [ ص ] حدثهم
أن عبدا من عباد الله قال:" يا رب لك الحمد
كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك " .
فعضلت الملكين فلم يدريا كيف يكتبانها . فصعدا
إلى الله فقالا:يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة
لا ندري كيف نكتبها . قال الله - وهو أعلم بما
قال عبده -:" وما الذي قال عبدي ؟ " قالا:يا
رب ، أنه قال:لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال
وجهك وعظيم سلطانك . فقال الله لهما:"
اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها
" . .
والتوجه
إلى الله بالحمد يمثل شعور المؤمن الذي
يستجيشه مجرد ذكره لله - كما أسلفنا - أما شطر
الآية الأخير: رب
العالمين فهو يمثل
قاعدة التصور الإسلامي ، فالربوبية المطلقة
الشاملة هي إحدى كليات العقيدة الإسلامية . .
والرب هو المالك المتصرف ، ويطلق في اللغة على
السيد وعلى المتصرف للإصلاح والتربية . .
والتصرف للإصلاح والتربية يشمل العالمين - أي
جميع الخلائق - والله - سبحانه - لم يخلق الكون
ثم يتركه هملا . إنما هو يتصرف فيه بالإصلاح
ويرعاه ويربيه . وكل العوالم والخلائق تحفظ
وتتعهد برعاية الله رب العالمين . والصلة بين
الخالق والخلائق دائمة ممتدة قائمة في كل وقت
وفي كل حالة .
والربوبية
المطلقة هي مفرق الطريق بين وضوح التوحيد
الكامل الشامل ، والغبش الذي ينشأ من عدم وضوح
هذه الحقيقة بصورتها القاطعة . وكثيرا ما كان
الناس يجمعون بين الاعتراف بالله بوصفه
الموجد الواحد للكون ، والاعتقاد بتعدد
الأرباب الذين يتحكمون في الحياة . ولقد يبدو
هذا غريبا مضحكا . ولكنه كان وما يزال . ولقد
حكى لنا القرآن الكريم عن جماعة من المشركين
كانوا يقولون عن أربابهم المتفرقة:
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى
. . كما قال عن جماعة من أهل الكتاب:
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون
الله . . وكانت عقائد
الجاهليات السائدة في الأرض كلها يوم جاء
الإسلام ، تعج بالأرباب المختلفة ، بوصفها
أربابا صغارا تقوم إلى جانب كبير الآلهة كما
يزعمون !
فإطلاق
الربوبية في هذه السورة ، وشمول هذه الربوبية
للعالمين جميعا ، هي مفرق الطريق بين النظام
والفوضى في العقيدة . لتتجه العوالم كلها إلى
رب واحد ، تقر له بالسيادة المطلقة ، وتنفض عن
كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة ، وعنت الحيرة
كذلك بين شتى الأرباب . . ثم ليطمئن ضمير هذه
العوالم إلى رعاية الله الدائمة وربوبيته
القائمة . وإلى أن هذه الرعاية لا تنقطع أبدا
ولا تفتر ولا تغيب ، لا كما كان أرقى تصور
فلسفي لأرسطو مثلا يقول بأن الله أوجد هذا
الكون ثم لم يعد يهتم به ، لأن الله أرقى من أن
يفكر فيما هو دونه ! فهو لا يفكر إلا في ذاته !
وأرسطو - وهذا تصوره - هو أكبر الفلاسفة ،
وعقله هو أكبر العقول !
لقد
جاء الإسلام وفي العالم ركام من العقائد
والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام
والأفكار . . يختلط فيها الحق بالباطل ،
والصحيح بالزائف ، والدين بالخرافة ،
والفلسفة بالأسطورة . . والضمير الإنساني تحت
هذا الركام الهائل يتخبط في ظلمات وظنون ، ولا
يستقر منها على يقين .
وكان
التيه الذي لا قرار فيه ولا يقين ولا نور ، هو
ذلك الذي يحيط بتصور البشرية لإلهها ، وصفاته
وعلاقته بخلائقه ، ونوع الصلة بين الله
والإنسان على وجه الخصوص .
ولم
يكن مستطاعا أن يستقر الضمير البشري على قرار
في أمر هذا الكون ، وفي أمر نفسه وفي منهج
حياته ، قبل أن يستقر على قرار في أمر عقيدته
وتصوره لإلهه وصفاته ، وقبل أن ينتهي إلى يقين
واضح مستقيم في وسط هذا العماء وهذا التيه
وهذا الركام الثقيل .
ولا
يدرك الإنسان ضرورة هذا الاستقرار حتى يطلع
على ضخامة هذا الركام ، وحتى يرود هذا التيه
من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات
والأوهام والأفكار التي جاء الإسلام فوجدها
ترين على الضمير البشري ، والتي أشرنا إلى طرف
منها فيما تقدم صغير . [
وسيجيء في استعراض سور القرآن الكثير منها ،
مما عالجه القرآن علاجا وافيا شاملا كاملا ]
.
ومن
ثم كانت عناية الإسلام الأولى موجهه إلى
تحرير أمر العقيدة ، وتحديد التصور الذي
يستقر عليه الضمير في أمر الله وصفاته ،
وعلاقته بالخلائق ، وعلاقة الخلائق به على
وجه القطع واليقين .
ومن
ثم كان التوحيد الكامل الخالص المجرد الشامل
، الذي لا تشوبه شائبة من قريب ولا من بعيد . .
هو قاعدة التصور التي جاء بها الإسلام ، وظل
يجلوها في الضمير ، ويتتبع فيه كل هاجسة وكل
شائبة حول حقيقة التوحيد ، حتى يخلصها من كل
غبش . ويدعها مكينة راكزة لا يتطرق إليها وهم
في صورة من الصور . . كذلك قال الإسلام كلمة
الفصل بمثل هذا الوضوح في صفات الله وبخاصة ما
يتعلق منها بالربوبية المطلقة . فقد كان معظم
الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه الفلسفات
والعقائد كما تخبط فيه الأوهام والأساطير . .
مما يتعلق بهذا الأمر الخطير ، العظيم الأثر
في الضمير الإنساني . وفي السلوك البشري سواء .
والذي
يراجع الجهد المتطاول الذي بذله الإسلام
لتقرير كلمة الفصل في ذات الله وصفاته
وعلاقته بمخلوقاته ، هذا الجهد الذي تمثله
النصوص القرآنية الكثيرة . . الذي يراجع هذا
الجهد المتطاول دون أن يراجع ذلك الركام
الثقيل في ذلك التيه الشامل الذي كانت
البشرية كلها تهيم فيه . . قد لا يدرك مدى
الحاجة إلى كل هذا البيان المؤكد المكرر ،
وإلى كل هذا التدقيق الذي يتتبع كل مسالك
الضمير . . ولكن مراجعة ذلك الركام تكشف عن
ضرورة ذلك الجهد المتطاول ، كما تكشف عن مدى
عظمة الدور الذي قامت به هذه العقيدة - وتقوم
في تحرير الضمير البشري وإعتاقه ؛ وإطلاقه من
عناء التخبط بين شتى الأرباب وشتى الأوهام
والأساطير !
وإن
جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها وبساطة
الحقيقة الكبيرة التي تمثلها . . كل هذا لا
يتجلى للقلب والعقل كما يتجلى من مراجعة ركام
الجاهلية من العقائد والتصورات ، والأساطير
والفلسفات ! وبخاصة موضوع الحقيقة الإلهية
وعلاقتها بالعالم . . عندئذ تبدو العقيدة
الإسلامية رحمة . رحمة حقيقية للقلب والعقل ،
رحمة بما فيها من جمال وبساطة ، ووضوح وتناسق
، وقرب وأنس ، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق .
الرحمن
الرحيم ... مالك يوم الدين
الرحمن
الرحيم . . هذه الصفة التي تستغرق كل معاني
الرحمة وحالاتها ومجالاتها تتكرر هنا في صلب
السورة ، في آية مستقلة ، لتؤكد السمة البارزة
في تلك الربوبية الشاملة ؛ ولتثبت قوائم
الصلة الدائمة بين الرب ومربوبيه . وبين
الخالق ومخلوقاته . . إنها صلة الرحمة
والرعاية التي تستجيش الحمد والثناء . إنها
الصلة التي تقوم على الطمأنينة وتنبض بالمودة
، فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة الندية
.
إن
الرب الإله في الإسلام لا يطارد عباده مطاردة
الخصوم والأعداء كآلهة الأولمب في نزواتها
وثوراتها كما تصورها أساطير الإغريق . ولا
يدبر لهم المكائد الانتقامية كما تزعم
الأساطير المزورة في "العهد القديم"
كالذي جاء في أسطورة برج بابل في الإصحاح
الحادي عشر من سفر التكوين
.
مالك يوم الدين . . وهذه تمثل الكلية الضخمة
العميقة التأثير في الحياة البشرية كلها كلية
الاعتقاد بالآخرة . . والملك أقصى درجات
الاستيلاء والسيطرة . ويوم الدين هو يوم
الجزاء في الآخرة . . وكثيرا ما اعتقد الناس
بألوهية الله ، وخلقه للكون أول مرة ؛ ولكنهم
مع هذا لم يعتقدوا بيوم الجزاء . . والقرآن
يقول عن بعض هؤلاء: ولئن
سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن:الله
. . ثم يحكي عنهم في موضع آخر: بل عجبوا أن
جاءهم منذر منهم فقال الكافرون:هذا شيء عجيب .
أئذا متنا وكنا ترابا ؟ ذلك رجع بعيد !
والاعتقاد
بيوم الدين كلية من كليات العقيدة الإسلامية
ذات قيمة في تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالم
آخر بعد عالم الأرض ؛ فلا تستبد بهم ضرورات
الأرض . وعندئذ يملكون الاستعلاء على هذه
الضرورات . ولا يستبد بهم القلق على تحقيق
جزاء سعيهم في عمرهم القصير المحدود ، وفي
مجال الأرض المحصور . وعندئذ يملكون العمل
لوجه الله وانتظار الجزاء حيث يقدره الله ، في
الأرض أو في الدار الآخرة سواء ، في طمأنينة
لله ، وفي ثقة بالخير ، وفي إصرار على الحق ،
وفي سعة وسماحة ويقين . . ومن ثم فإن هذه الكلية
تعد مفرق الطريق بين العبودية للنزوات
والرغائب ، والطلاقة الإنسانية اللائقة ببني
الإنسان . بين الخضوع لتصورات الأرض وقيمها
وموازينها والتعلق بالقيم الربانية
والاستعلاء على منطق الجاهلية . مفرق الطريق
بين الإنسانية في حقيقتها العليا التي أرادها
الله الرب لعباده ، والصور المشوهة المنحرفة
التي لم يقدر لها الكمال . وما تستقيم الحياة
البشرية على منهج الله الرفيع ما لم تتحقق هذه
الكلية في تصور البشر . وما لم تطمئن قلوبهم
إلى أن جزاءهم على الأرض ليس هو نصيبهم الأخير
. وما لم يثق الفرد المحدود العمر بأن له حياة
أخرى تستحق أن يجاهد لها ، وأن يضحي لنصرة
الحق والخير معتمدا على العوض الذي يلقاه
فيها . .
وما
يستوي المؤمنون بالآخرة والمنكرون لها في
شعور ولا خلق ولا سلوك ولا عمل . فهما صنفان
مختلفان من الخلق . وطبيعتان متميزتان لا
تلتقيان في الأرض في عمل ولا تلتقيان في
الآخرة في جزاء . . وهذا هو مفرق الطريق . .
إياك نعبد وإياك نستعين
. . وهذه هي الكلية الاعتقادية التي تنشأ
عن الكليات السابقة في السورة . فلا عبادة إلا
لله ، ولا استعانة إلا بالله .
وهنا
كذلك مفرق طريق . . مفرق طريق بين التحرر
المطلق من كل عبودية ، وبين العبودية المطلقة
للعبيد ! وهذه الكلية تعلن ميلاد التحرر
البشري الكامل الشامل . التحرر من عبودية
الأوهام . والتحرر من عبودية النظم ، والتحرر
من عبودية الأوضاع . وإذا كان الله وحده هو
الذي يعبد ، والله وحده هو الذي يستعان ، فقد
تخلص الضمير البشري من استذلال النظم
والأوضاع والأشخاص ، كما تخلص من استذلال
الأساطير والأوهام والخرافات . .
وهنا
يعرض موقف المسلم من القوى الإنسانية ، ومن
القوى الطبيعية . .
فأما
القوى الإنسانية - بالقياس إلى المسلم - فهي
نوعان:قوة مهتدية ، تؤمن بالله ، وتتبع منهج
الله . . . وهذه يجب أن يؤازرها ، ويتعاون معها
على الخير والحق والصلاح . . وقوة ضالة لا تتصل
بالله ولا تتبع منهجه . وهذه يجب أن يحاربها
ويكافحها ويغير عليها .
ولا
يهولن المسلم أن تكون هذه القوة الضالة ضخمة
أو عاتية . فهي بضلالها عن مصدرها الأول - قوة
الله - تفقد قوتها الحقيقة . تفقد الغذاء
الدائم الذي يحفظ لها طاقتها . وذلك كما ينفصل
جرم ضخم من نجم ملتهب ، فما يلبث أن ينطفيء
ويبرد ويفقد ناره ونوره ، مهما كانت كتلته من
الضخامة . على حين تبقى لأية ذرة متصلة
بمصدرها المشع قوتها وحرارتها ونورها:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله
. . غلبتها باتصالها بمصدر القوة الأول ،
وباستمدادها من النبع الواحد للقوة وللعزة
جميعا .
وأما
القوى الطبيعية فموقف المسلم منها هو موقف
التعرف والصداقة ، لا موقف التخوف والعداء .
ذلك أن قوة الإنسان وقوة الطبيعة صادرتان عن
إرادة الله ومشيئته ، محكومتان بإرادة الله
ومشيئته ، متناسقتان متعاونتان في الحركة
والاتجاه .
إن
عقيدة المسلم توحي إليه أن الله ربه قد خلق
هذه القوى كلها لتكون له صديقا مساعدا
متعاونا ؛ وأن سبيله إلى كسب هذه الصداقة أن
يتأمل فيها . ويتعرف إليها ، ويتعاون وإياها ،
ويتجه معها إلى الله ربه وربها . وإذا كانت هذه
القوى تؤذيه أحيانا ، فإنما تؤذيه لأنه لم
يتدبرها ولم يتعرف إليها ، ولم يهتد إلى
الناموس الذي يسيرها .
ولقد
درج الغربيون - ورثة الجاهلية الرومانية - على
التعبير عن استخدام قوى الطبيعة بقولهم:"قهر
الطبيعة " . . ولهذا التعبير دلالته الظاهرة
على نظرة الجاهلية المقطوعة الصلة بالله ،
وبروح الكون المستجيب لله . فأما المسلم
الموصول القلب بربه الرحمن الرحيم ، الموصول
الروح بروح هذا الوجود المسبحة لله رب
العالمين . . فيؤمن بأن هنالك علاقة أخرى غير
علاقة القهر والجفوة . أنه يعتقد أن الله هو
مبدع هذه القوى جميعا . خلقها كلها وفق ناموس
واحد ، لتتعاون على بلوغ الأهداف المقدرة لها
بحسب هذا الناموس . وأنه سخرها للإنسان ابتداء
ويسر له كشف أسرارها ومعرفة قوانينها . وأن
على الإنسان أن يشكر الله كلما هيأ له أن يظفر
بمعونة من إحداها . فالله هو الذي يسخرها له ،
وليس هو الذي يقهرها: سخر لكم ما في الأرض
جميعا . .
وإذن
فإن الأوهام لن تملأ حسه تجاه قوى الطبيعة ؛
ولن تقوم بينه وبينها المخاوف . . إنه يؤمن
بالله وحده ، ويعبد الله وحده ، ويستعين بالله
وحده . وهذه القوى من خلق ربه . وهو يتأملها
ويألفها ويتعرف أسرارها ، فتبذل له معونتها ،
وتكشف له عن أسرارها . فيعيش معها في كون مأنوس
صديق ودود . . وما أروع قول الرسول
[ ص ] وهو ينظر
إلى جبل أحد: هذا جبل
يحبنا ونحبه . .
ففي هذه الكلمات كل ما يحمله قلب المسلم الأول
محمد [ ص ]
من ود وألفة وتجاوب بينه وبين الطبيعة في
أضخم وأخشن مجاليها .
إهدنا
الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم غير
المغضوب عليهم ولا الضالين
وبعد تقرير تلك الكليات الأساسية في
التصور الإسلامي ؛ وتقرير الاتجاه إلى الله
وحده بالعبادة والاستعانة . . يبدأ في التطبيق
العملي لها بالتوجه إلى الله بالدعاء على
صورة كلية تناسب جو السورة وطبيعتها:
اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت
عليهم ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين . .
اهدنا الصراط المستقيم
. . وفقنا إلى معرفة الطريق المستقيم
الواصل ؛ ووفقنا للاستقامة عليه بعد معرفته . .
فالمعرفة والاستقامة كلتاهما ثمرة لهداية
الله ورعايته ورحمته . والتوجه إلى الله في
هذا الأمر هو ثمرة الاعتقاد بأنه وحده المعين
. وهذا الأمر هو أعظم وأول ما يطلب المؤمن من
ربه العون فيه . فالهداية إلى الطريق المستقيم
هي ضمان السعادة في الدنيا والآخرة عن يقين . .
وهي في حقيقتها هداية فطرة الإنسان إلى ناموس
الله الذي ينسق بين حركة الإنسان وحركة
الوجود كله في الاتجاه إلى الله رب العالمين .
ويكشف
عن طبيعة هذا الصراط المستقيم:
صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب
عليهم ولا الضالين .
. فهو طريق الذين قسم لهم نعمته . لا طريق الذين
غضب عليهم لمعرفتهم الحق ثم حيدتهم عنه . أو
الذين ضلوا عن الحق فلم يهتدوا أصلا إليه . .
إنه صراط السعداء المهتدين الواصلين . .
وبعد
فهذه هي السورة المختارة للتكرار في كل صلاة ،
والتي لا تصح بدونها صلاة . وفيها على قصرها
تلك الكليات الأساسية في التصور الإسلامي ؛
وتلك التوجهات الشعورية المنبثقة من ذلك
التصور .
وقد
ورد في صحيح مسلم من حديث العلاء بن عبد
الرحمن مولى الحرقة عن أبيه ، عن أبي هريرة عن
رسول الله [ ص ]
: يقول الله
تعالى:قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين .
فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل . . إذا
قال العبد:الحمد لله رب العالمين . قال الله:حمدني
عبدي . وإذا قال الرحمن الرحيم . قال الله أثني
علي عبدي . فإذا قال:مالك يوم الدين . قال الله:مجدني
عبدي . وإذا قال:إياك نعبد وإياك نستعين . قال:هذا
بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل . فإذا قال:اهدنا
الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم غير
المغضوب عليهم ولا الضالين . قال:هذا لعبدي
ولعبدي ما سأل . .
ولعل
هذا الحديث الصحيح - بعدما تبين من سياق
السورة ما تبين - يكشف عن سر من أسرار اختيار
السورة ليرددها المؤمن سبع عشرة مرة في كل يوم
وليلة ؛ أو ما شاء الله أن يرددها كلما قام
يدعوه في الصلاة . .