| فهرس الجزء الأول | |
|
الوحدة
الرابعة:81 - 98 آياتها:75 - 103 موضوعها:تفنيد
مزاعم اليهود والتحذير منهم |
|
|
الدرس
الأول:75 - 77:تيئيس المسلمين من اليهود
المحرفين المنافقين |
|
|
الدرس
السابع:88 - 93:حقد اليهود على النبي الخاتم
وبعض جرائمهم |
|
انقضى المقطع السابق في السورة في تذكير
بني إسرائيل بأنعم الله عليهم وجحودهم لهذا
الإنعام المتواصل ؛ وباستعراض مشاهد الإنعام
والجحود ، بعضها باختصار وبعضها بتطويل ؛
وانتهى هذا الاستعراض بتقرير ما انتهت إليه
قلوبهم في نهاية المطاف من قسوة وجفاف وجدب ،
أشد من قسوة الحجارة وجفافها وجدبها .
فالأن
يأخذ السياق في الاتجاه بالخطاب إلى الجماعة
المسلمة يحدثها عن بني إسرائيل ، ويبصرها
بأساليبهم ووسائلهم في الكيد والفتنة ؛
ويحذرها كيدهم ومكرهم على ضوء تاريخهم
وجبلتهم ، فلا تنخدع بأقوالهم ودعاويهم
ووسائلهم الماكرة في الفتنة والتضليل . ويدل
طول هذا الحديث ، وتنوع أساليبه على ضخامة ما
كانت تلقاه الجماعة المسلمة من الكيد المنصوب
لها والمرصود لدينها من أولئك اليهود
!
وبين
آن وآخر يلتفت السياق إلى بني إسرائيل
ليواجههم - على مشهد من المسلمين - بما أخذ
عليهم من المواثيق ، وبما نقضوا من هذه
المواثيق ؛ وبما وقع منهم من انحرافات ونكول
عن العهد وتكذيب بأنبيائهم ، وقتلهم لهؤلاء
الأنبياء الذين لا يطاوعونهم على هواهم ، ومن
مخالفة لشريعتهم ، ومن التوائهم وجدالهم
بالباطل ، وتحريفهم لما بين أيديهم من النصوص
.
يستعرض
جدالهم مع الجماعة المسلمة وحججهم ودعاويهم
الباطلة ، ويلقن الرسول [
ص ] أن يفضح دعاويهم
، ويفند حججهم ، ويكشف زيف ادعاءاتهم ، ويرد
عليهم كيدهم بالحق الواضح الصريح:
فلقد
زعموا أن لن تمسهم النار إلا أياما معدودة
بحكم ما لهم من المكانة الخاصة عند الله ! فلقن
الله نبيه [ ص ] أن يرد عليهم قولهم هذا:
قل:أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله
عهده ؟ أم تقولون على الله ما لا تعلمون ؟
. .
وكانوا
إذا دعوا إلى الإسلام قالوا:نؤمن
بما أنزل علينا ، ويكفرون بما وراءه وهو الحق
مصدقا لما معهم . .
فلقن الله رسوله [ ص ]
أن يفضح دعواهم أنهم يؤمنون بما أنزل
إليهم: قل:فلم
تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ؟
ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من
بعده وأنتم ظالمون ؟ وإذ أخذنا ميثاقكم
ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة
واسمعوا . قالوا:سمعنا وعصينا وأشربوا في
قلوبهم العجل بكفرهم . قل بئسما يأمركم به
إيمانكم إن كنتم مؤمنين
! . .
وكانوا
يدعون أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس
. فلقن الله رسوله [ ص ] أن
يتحداهم بدعوتهم إلى المباهلة أي أن يجتمع
الفريقان:هم والمسلمون ، ثم يدعون الله أن
يميت الكاذب: قل
إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من
دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين
. . وقرر أنهم لن يتمنوه أبدا - وهذا ما حدث .
فقد نكصوا عن المباهلة لعلمهم أنهم كاذبون
فيما يدعون !
وهكذا
يمضي السياق في هذه المواجهة ، وهذا الكشف ،
وهذا التوجيه . . ومن شأن هذه الخطة أن تضعف - أو
تبطل - كيد اليهود في وسط الصف المسلم ؛ وأن
تكشف دسائسهم وأحابيلهم ؛ وأن تدرك الجماعة
المسلمة طريقة اليهود في العمل والكيد
والادعاء ، على ضوء ما وقع منهم في تاريخهم
القديم .
وما
تزال الأمة المسلمة تعاني من دسائس اليهود
ومكرهم ما عاناه أسلافها من هذا المكر ومن تلك
الدسائس ؛ غير أن الأمة المسلمة لا تنتفع - مع
الأسف - بتلك التوجيهات القرآنية ، وبهذا
الهدى الإلهي ، الذي انتفع به أسلافها ،
فغلبوا كيد اليهود ومكرهم في المدينة ،
والدين ناشيء ، والجماعة المسلمة وليدة . . وما
يزال اليهود - بلؤمهم ومكرهم - يضللون هذه
الأمة عن دينها ، ويصرفونها عن قرآنها ، كي لا
تأخذ منه أسلحتها الماضية ، وعدتها الواقية .
وهم آمنون ما انصرفت هذه الأمة عن موارد قوتها
الحقيقية ، وينابيع معرفتها الصافية . .
وكلمن يصرف هذه الأمة
عن دينها وعن قرآنها فإنما هو من عملاء يهود ؛
سواء عرف أم لم يعرف ، أراد أم لم يرد ، فسيظل
اليهود في مأمن من هذه الأمة ما دامت مصروفة
عن الحقيقة الواحدة المفردة التي تستمد منها
وجودها وقوتها وغلبتها - حقيقة العقيدة
الإيمانية والمنهج الإيماني والشريعة
الإيمانية - فهذا هو الطريق . وهذه هي معالم
الطريق:
الدرس الأول:75 - 77:تيئيس
المسلمين من اليهود المحرفين المنافقين
أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ، وقد كان فريق
منهم يسمعون كلام الله ، ثم يحرفونه من بعد ما
عقلوه وهم يعلمون ؟ وإذا لقوا الذين آمنوا
قالوا:آمنا ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا:أتحدثونهم
بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ؟
أفلا تعقلون ؟ أو لا يعلمون أن الله يعلم ما
يسرون وما يعلنون ؟
. .
كانت
صورة الجفاف والقسوة والجدب هي التي صور الله
بها قلوب بني إسرائيل في نهاية الدرس الماضي .
صورة الحجارة الصلدة التي لا تنض منها قطرة ،
ولا يلين لها ممس ، ولا تنبض فيها حياة . . وهي
صورة توحي باليأس من هذه الطبيعة الجاسية
الجامدة الخاوية . . وفي ظل هذا التصوير ، وظل
هذا الإيحاء ، يلتفت السياق إلى المؤمنين ،
الذين يطمعون في هداية بني إسرائيل ،
ويحاولون أن يبثوا في قلوبهم الإيمان ، وأن
يفيضوا عليها النور . . يلتفت إلى أولئك
المؤمنين بسؤال يوحي باليأس من المحاولة ،
وبالقنوط من الطمع:
أفتطمعون
أن يؤمنوا لكم ؟ وقد كان فريق منهم يسمعون
كلام الله ، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم
يعلمون ؟
. .
إلا
أنه لا مطمع ولا رجاء في أن يؤمن أمثال هؤلاء .
فللإيمان طبيعة أخرى ، واستعداد آخر . إن
الطبيعة المؤمنة سمحة هينة لينة ، مفتحة
المنافذ للأضواء ، مستعدة للإتصال بالنبع
الأزلي الخالد بما فيها من نداوة ولين وصفاء .
وبما فيها من حساسية وتحرج وتقوى . هذه التقوى
التي تمنعها أن تسمع كلام الله ثم تحرفه من
بعد تعقله . تحرفه عن علم وإصرار . فالطبيعة
المؤمنة طبيعة مستقيمة ، تتحرج من هذا
التحريف والالتواء
.
والفريق
المشار إليه هنا هو أعلم اليهود وأعرفهم
بالحقيقة المنزلة عليهم في كتابهم هم الأحبار
والربانيون ، الذين يسمعون كلام الله المنزل
على نبيهم موسى في التوراة ثم يحرفونه عن
مواضعه ، ويؤولونه التأويلات البعيدة التي
تخرج به عن دائرته . لا عن جهل بحقيقة مواضعه ،
ولكن عن تعمد للتحريف ، وعلم بهذا التحريف .
يدفعهم الهوى ، وتقودهم المصلحة ، ويحدوهم
الغرض المريض ! فمن باب أولى ينحرفون عن الحق
الذي جاء به محمد [ ص
] وقد انحرفوا عن
الحق الذي جاء به نبيهم موسى - عليه السلام -
ومن باب أولى - وهذا خراب ذممهم ، وهذا إصرارهم
على الباطل وهم يعلمون بطلانه - أن يعارضوا
دعوة الإسلام ، ويروغوا منها ويختلقوا عليها
الأكاذيب !
وإذا
لقوا الذين آمنوا قالوا:آمنا ، وإذا خلا بعضهم
إلى بعض قالوا:أتحدثونهم بما فتح الله عليكم
ليحاجوكم به عند ربكم ؟ أفلا تعقلون ؟
. .
أفتطمعون
أن يؤمنوا لكم ، وهم يضيفون إلى خراب الذمة ،
وكتمان الحق ، وتحريف الكلم عن مواضعه . .
الرياء والنفاق والخداع والمراوغة ؟
وقد
كان بعضهم إذا لقوا المؤمنين قالوا:آمنا . . أي
آمنا بأن محمدا مرسل ، بحكم ما عندهم في
التوراة من البشارة به ، وبحكم أنهم كانوا
ينتظرون بعثته ، ويطلبون أن ينصرهم الله به
على من عداهم . وهو معنى قوله:
وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا
. . ولكن: إذا خلا
بعضهم إلى بعض . .
عاتبوهمعلى ما أفضوا للمسلمين من صحة رسالة
محمد [ ص ]
ومن معرفتهم بحقيقة بعثته من كتابهم ،
فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم
بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم
. . فتكون لهم الحجة عليكم ؟ . . وهنا تدركهم
طبيعتهم المحجبة عن معرفة صفة الله وحقيقة
علمه ؛ فيتصورون أن الله لا يأخذ عليهم الحجة
إلا أن يقولوها بأفواههم للمسلمين ! أما إذا
كتموا وسكتوا فلن تكون لله عليهم حجة ! . .
وأعجب العجب أن يقول بعضهم لبعض في هذا:
أفلا تعقلون ؟ . .
فيا للسخرية من العقل والتعقل الذي يتحدثون
عنه مثل هذا الحديث
!!
ومن
ثم يعجب السياق من تصورهم هذا قبل أن يمضي في
استعراض ما يقولون وما يفعلون:
أولا
يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ؟
. .
الدرس الثاني:78 - 79 فريقا
اليهود:جاهل ومحرف
ثم يستطرد يقص على المسلمين من أحوال بني
إسرائيل:إنهم فريقان . فريق أمي جاهل ، لا يدري
شيئا من كتابهم الذي نزل عليهم ، ولا يعرف منه
إلا أوهاما وظنونا ، وإلا أماني في النجاة من
العذاب ، بما أنهم شعب الله المختار ، المغفور
له كل ما يعمل وما يرتكب من آثام ! وفريق يستغل
هذا الجهل وهذه الأمية فيزور على كتاب الله ،
ويحرف الكلم عن مواضعه بالتأويلات المغرضة ،
ويكتم منه ما يشاء ، ويبدي منه ما يشاء ويكتب
كلاما من عند نفسه يذيعه في الناس باسم أنه من
كتاب الله . . كل هذا
ليربح ويكسب ، ويحتفظ
بالرياسة والقيادة:
ومنهم
أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا
يظنون ، فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ،
ثم يقولون:هذا من عند الله ، ليشتروا به ثمنا
قليلا . فويل لهم مما كتبت أيديهم ، وويل لهم
مما يكسبون
. .
فكيف
ينتظر من أمثال هؤلاء وهؤلاء أن يستجيبوا
للحق ، وأن يستقيموا على الهدى ، وأن يتحرجوا
من تحريف ما يقف في طريقهم من نصوص كتابهم
نفسه ؟ إن هؤلاء لا مطمع في أن يؤمنوا
للمسلمين . وإنما هو الويل والهلاك ينتظرهم .
الويل والهلاك لهم مما كتبت أيديهم من تزوير
على الله ؛ والويل والهلاك لهم مما يكسبون
بهذا التزوير والاختلاق
!
الدرس الثالث:80 تكذيبهم
في زعم النجاة من النار
من تلك الأماني التي لا تستقيم مع عدل
الله ، ولا تتفق مع سنته ، ولا تتمشى مع التصور
الصحيح للعمل والجزاء . . أن يحسبوا أنهم ناجون
من العذاب مهما فعلوا ، وأن النار لن تمسهم
إلا أياما معدودات يخرجون بعدها إلى النعيم . .
علام يعتمدون في هذه الأمنية ؟ علام يحددون
الوقت كأنهم مستوثقون ؟ وكأنها معاهدة محدودة
الأجل معلومة الميقات ؟ لا شيء إلا أماني
الأميين الجهال ، وأكاذيب المحتالين العلماء
! الأماني التي يلجأ إليها المنحرفون عن
العقيدة الصحيحة ، حين يطول بهم الأمد ،
وينقطع ما بينهم وبين حقيقة دينهم ، فلا يبقى
لهم منه إلا اسمه وشكله ، دون موضوعه وحقيقته
ويظنون أن هذا يكفيهم للنجاة من العذاب بحكم
ما يعلنونه بألسنتهم من أنهم على دين الله:
وقالوا:لن
تمسنا النار إلا أياما معدودة . قل:أتخذتم عند
الله عهدا فلن يخلف الله عهده ؟ أم تقولون على
الله ما لا تعلمون ؟ . .
وهذا
هو التلقين الإلهي للحجة الدامغة:
أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده
؟ . . فأين هو هذا
العهد ؟ أم تقولون
على الله ما لا تعلمون .
. وهذا هو الواقع . فالاستفهام هنا للتقرير .
ولكنه في صورة الاستفهاميحمل كذلك معنى
الإنكار والتوبيخ
!
الدرس الرابع:81 - 82:بيان
أصحاب الجنة وأصحاب النار
هنا يأتيهم الجواب القاطع والقول الفصل
في هذه الدعوى ، في صورة كلية من كليات التصور
الإسلامي ، تنبع من فكرته الكلية عن الكون
والحياة والإنسان:إن الجزاء من جنس العمل ،
ووفق هذا العمل .
بلى
! من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب
النار هم فيها خالدون . والذين آمنوا وعملوا
الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون
. .
ولا
بد أن نقف قليلا أمام ذلك التصوير الفني
المعجز لحالة معنوية خاصة ، وامام هذا الحكم
الإلهي الجازم نكشف عن شيء من أسبابه وأسراره
:
بلى
! من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته
. . . .
الخطيئة
كسب ؟ إن المعنى الذهني المقصود هو اجتراح
الخطيئة . ولكن التعبير يوميء إلى حالة نفسية
معروفة . . إن الذي يجترح الخطيئة إنما يجترحها
عادة وهو يلتذها ويستسيغها ؛ ويحسبها كسبا له
- على معنى من المعاني - ولو أنها كانت كريهة في
حسه ما اجترحها ، ولو كان يحس أنها خسارة ما
أقدم عليها متحمسا ، وما تركها تملأ عليه نفسه
، وتحيط بعالمه ؛ لأنه خليق لو كرهها وأحس ما
فيها من خسارة أن يهرب من ظلها - حتى لو اندفع
لارتكابها - وأن يستغفر منها ، ويلوذ إلى كنف
غير كنفها . وفي هذه الحالة لا تحيط به ، ولا
تملأ عليه عالمه ،
ولا
تغلق عليه منافذ التوبة والتكفير . . وفي
التعبير: وأحاطت به خطيئته
. . تجسيم لهذا المعنى . وهذه خاصية من خواص
التعبير القرآني ، وسمة واضحة من سماته ؛ تجعل
له وقعا في الحس يختلف عن وقع المعاني الذهنية
المجردة ، والتعبيرات الذهنية التي لا ظل لها
ولا حركة . وأي تعبير ذهني عن اللجاجة في
الخطيئة ما كان ليشع مثل هذا الظل الذي يصور
المجترح الآثم حبيس خطيئته:يعيش في إطارها ،
ويتنفس في جوها ، ويحيا معها ولها .
عندئذ
. . عندما تغلق منافذ التوبة على النفس في سجن
الخطيئة . . عندئذ يحق ذلك الجزاء العادل
الحاسم:
فأولئك
أصحاب النار هم فيها خالدون
. .
ثم
يتبع هذا الشطر بالشطر المقابل من الحكم .
والذين
آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم
فيها خالدون
. .
فمن
مقتضيات الإيمان أن ينبثق من القلب في صورة
العمل الصالح . . وهذا ما يجب أن يدركه من يدعون
الإيمان . . وما أحوجنا - نحن الذين نقول أنا
مسلمون - أن نستيقن هذه الحقيقة:أن الإيمان لا
يكون حتى ينبثق منه العمل الصالح . فأما الذين
يقولون:إنهم مسلمون ثم يفسدون
في
الأرض ، ويحاربون الصلاح في حقيقته الأولى
وهي إقرار منهج الله في الأرض ، وشريعته في
الحياة ، وأخلاقه في المجتمع ، فهؤلاء ليس لهم
من الإيمان شيء ، وليس لهم من ثواب الله شيء ،
وليس لهم من عذابه واق ولو تعلقوا بأماني
كأماني اليهود التي بين الله لهم وللناس فيها
هذا البيان .
الدرس الخامس:83 - 86 نماذج
لتناقض اليهود ومخالفاتهم
ثم يمضي السياق يحدث الجماعة المسلمة عن
حال اليهود ، ومواقفهم التي يتجلى فيها
العصيان والالتواءوالانحراف والنكول عن
العهد والميثاق . ويواجه اليهود بهذه المواقف
على مشهد من المسلمين:
وإذ
أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ؛
وبالوالدين إحسانا ؛ وذي القربى واليتامى
والمساكين ؛ وقولوا للناس حسنا ؛ وأقيموا
الصلاة ، وآتوا الزكاة . . ثم توليتم إلا قليلا
منكم وأنتم معرضون . وإذ أخذنا ميثاقكم لا
تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم .
ثم أقررتم وأنتم تشهدون . . ثم أنتم هؤلاء
تقتلون أنفسكم ، وتخرجون فريقا منكم من
ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ، وإن
يأتوكم أسارى تفادوهم ، وهو محرم عليكم
إخراجهم . أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض
؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة
الدنيا
، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ، وما
الله بغافل عما تعملون . أولئك الذين اشتروا
الحياة الدنيا بالآخرة ، فلا يخفف عنهم
العذاب ولا هم ينصرون
. .
ولقد
سبقت الإشارة إلى الميثاق في معرض تذكير الله
لبني إسرائيل بإخلاف موقفهم معه في الدرس
الماضي . فهنا شيء من التفصيل لبعض نصوص هذا
الميثاق .
ومن
الآية الأولى ندرك أن ميثاق الله مع بني
إسرائيل ، ذلك الميثاق الذي أخذه عليهم في ظل
الجبل ، والذي أمروا أن يأخذوه بقوة وأن
يذكروا ما فيه . . أن ذلك الميثاق قد تضمن
القواعد الثابتة لدين الله . هذه القواعد التي
جاء بها الإسلام أيضا ، فتنكروا لها وأنكروها
.
لقد
تضمن ميثاق الله معهم:ألا يعبدوا إلا الله . .
القاعدة الأولى للتوحيد المطلق . وتضمن
الإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى
والمساكين . وتضمن خطاب الناس بالحسنى ، وفي
أولها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . .
كذلك تضمن فريضة الصلاة وفريضة الزكاة . وهذه
في مجموعها هي قواعد الإسلام وتكاليفه
. .
ومن
ثم تتقرر حقيقتان:الأولى هي وحدة دين الله ؛
وتصديق هذا الدين الأخير لما قبله في أصوله .
والثانية هي مقدار التعنت في موقف اليهود من
هذا الدين ، وهو يدعوهم لمثل ما عاهدوا الله
عليه ، وأعطوا عليه الميثاق
.
وهنا
- في هذا الموقف المخجل - يتحول السياق من
الحكاية إلى الخطاب ، فيوجه القول إلى بني
إسرائيل . وكان قد ترك خطابهم والتفت إلى خطاب
المؤمنين . ولكن توجيه الخطاب إليهم هنا أخزى
وأنكى:
ثم
توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون . .
وهكذا
تتكشف بعض أسرار الالتفات في سياق القصص
وغيره في هذا الكتاب العجيب
!
ويستمر
السياق يوجه الخطاب إلى بني إسرائيل ، وهو
يعرض عليهم متناقضات موقفهم من ميثاقهم مع
الله . .
وإذ
أخذنا ميثاقكم:لا تسفكون دماءكم ، ولا تخرجون
أنفسكم من دياركم . ثم أقررتم وأنتم تشهدون
. .
فماذا
كان بعد الإقرار وهم شاهدون حاضرون ؟
ثم
أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ، وتخرجون فريقا
منكم من ديارهم ، تظاهرون عليهم بالإثم
والعدوان . وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ، وهو
محرم عليكم إخراجهم . أفتؤمنون ببعض الكتاب
وتكفرون ببعض ؟
. .
ولقد
كان هذا الذي يواجههم به واقعا قريب العهد
قبيل غلبة الإسلام على الأوس والخزرج . كان
الأوس والخزرج مشركين ، وكان الحيان أشد ما
يكون حيان من العرب عداء . وكان اليهود في
المدينة ثلاثة أحياء ترتبط بعهود مع هذا الحي
وذاك من المشركين . . كان بنو قينقاع وبنو
النضير
حلفاء الخزرج ، وكان ينو قريظة حلفاء الأوس .
فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع
حلفائه ؛ فيقتل اليهودي أعداءه ،وقد يقتل
اليهودي اليهودي من الفريق الآخر - وهذا حرام
عليهم بنص ميثاق الله معهم - وكانوا يخرجونهم
من ديارهم إذا غلب فريقهم وينهبون أموالهم
ويأخذون سباياهم - وهذا حرام عليهم بنص ميثاق
الله معهم - ثم إذا وضعت الحرب أوزارها فادوا
الأسارى ، وفكوا أسر المأسورين من اليهود هنا
أو هناك ، عندهم أو عند حلفائهم أو أعداء
حلفائهم على السواء - وذلك عملا بحكم التوراة
وقد جاء فيها:إنك لا تجد مملوكا من بني
إسرائيل إلا أخذته فأعتقته
. .
هذا
التناقض هو الذي يواجههم به القرآن ؛ وهو
يسألهم في استنكار:
أفتؤمنون
ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟ . .
وهذا
هو نقض الميثاق الذي يتهددهم عليه بالخزي في
الحياة الدنيا ، والعذاب الأشد في الآخرة . مع
التهديد الخفي بأن الله ليس غافلا عنه ولا
متجاوزا:
فما
جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة
الدنيا ، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب .
وما الله بغافل عما تعملون
. .
ثم
يلتفت إلى المسلمين وإلى البشرية جميعا ، وهو
يعلن حقيقتهم وحقيقة عملهم:
أولئك
الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة . فلا
يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون
. .
وكذبوا
إذن في دعواهم أن لن تمسهم النار إلا أياما
معدودة . . فهؤلاء هم هناك: فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم
ينصرون
. .
وقصة
شرائهم الحياة الدنيا بالآخرة هنا في هذه
المناسبة:هي أن الدافع لهم على مخالفة
ميثاقهم مع الله ، هو استمساكهم بميثاقهم مع
المشركين في حلف يقتضي مخالفة دينهم وكتابهم .
فإن انقسامهم فريقين ، وانضمامهم إلى حلفين ،
هي هي خطة إسرائيل التقليدية ، في إمساك العصا
من الوسط ؛ والانضمام إلى المعسكرات
المتطاحنة كلها من باب الاحتياط ، لتحقيق بعض
المغانم على أية حال ؛ وضمان صوالح اليهود في
النهاية سواء انتصر هذا المعسكر أم ذاك ! وهي
خطة من لا يثق بالله ، ولا يستمسك بميثاقه ،
ويجعل اعتماده كله على الدهاء ، ومواثيق
الأرض ، والاستنصار بالعباد لا برب العباد .
والإيمان يحرم على أهله الدخول في حلف يناقض
ميثاقهم مع ربهم ، ويناقض تكاليف شريعتهم ،
باسم المصلحة أو الوقاية ، فلا مصلحة إلا في
اتباع دينهم ، ولا وقاية إلا بحفظ عهدهم مع
ربهم .
الدرس السادس:87 مزاجية
اليهود في التعامل مع الحق
ثم يمضي السياق يواجه بني إسرائيل
بمواقفهم تجاه النبوات وتجاه الأنبياء . .
أنبيائهم هم ، وما كان من سوء صنيعهم معهم
كلما جاءوهم بالحق ، الذي لا يخضع للأهواء
. .
ولقد
آتينا موسى الكتاب ، وقفينا من بعده بالرسل ؛
وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح
القدس . أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم
استكبرتم ، ففريقا كذبتم ، وفريقا تقتلون ؟
. .
ولقد
كانت حجة بني إسرائيل في إعراضهم عن الإسلام ،
وإبائهم الدخول فيه ، أن عندهم الكفاية من
تعاليم أنبيائهم ، وأنهم ماضون على شريعتهم
ووصاياهم . . فهنا يفضحهم القرآن ويكشف عن
حقيقة موقفهم من أنبيائهم وشرائعهم ووصاياهم
. ويثبت أنهم هم هم كلما واجهوا الحق ، الذي لا
يخضع لأهوائهم .
وفيما
تقدم واجههم بالكثير من مواقفهم مع نبيهم
موسى - عليه السلام - وقد آتاه الله الكتاب .
ويزيد هناأن رسلهم توالت تترى ، يقفو بعضهم
بعضا ؛ وكان آخرهم عيسى بن مريم . وقد آتاه
الله المعجزات البينات ، وأيده بروح القدس
جبريل - عليه السلام - فكيف كان استقبالهم لذلك
الحشد من الرسل ولآخرهم عيسى عليه السلام ؟
كان هذا الذي يستنكره عليهم ؛ والذي لا يملكون
هم إنكاره ، وكتبهم ذاتها تقرره وتشهد به:
أفكلما
جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم:ففريقا
كذبتم وفريقا تقتلون
! !
ومحاولة
إخضاع الهداة والشرائع للهوى الطارىء
والنزوة المتقلبة . ظاهرة تبدو كلما فسدت
الفطرة ، وانطمست فيها عدالة المنطق الإنساني
ذاته . المنطق الذي يقتضي أن ترجع الشريعة إلى
مصدر ثابت - غير المصدر الإنساني المتقلب -
مصدر لا يميل مع الهوى ، ولا تغلبه النزوة
. وأن يرجع الناس إلى ذلك
الميزان الثابت الذي لا يتأرجح مع الرضى
والغضب ، والصحة والمرض ، والنزوة والهوى ، لا
أن يخضعوا الميزان ذاته للنزوة والهوى
!
ولقد
قص الله على المسلمين من أنباء بني إسرائيل في
هذا ما يحذرهم من الوقوع في مثله ، حتى لا تسلب
منهم الخلافة في الأرض والأمانة التي ناطها
بهم الله ، فلما وقعوا في مثل ما وقع فيه بنو
إسرائيل ، وطرحوا منهج الله وشريعته ، وحكموا
أهواءهم وشهواتهم ، وقتلوا فريقا من الهداة
وكذبوا فريقا . ضربهم الله بما ضرب به بني
إسرائيل من قبل ، من الفرقة والضعف ، والذلة
والهوان ، والشقاء والتعاسة . . إلا أن
يستجيبوا لله ورسله ، وإلا أن يخضعوا أهواءهم
لشريعته وكتابه ، وإلا أن يفوا بعهد الله معهم
ومع أسلافهم ، وإلا أن يأخذوه بقوة ، ويذكروا
ما فيه لعلهم يهتدون
.
الدرس السابع:88 - 93:حقد
اليهود على النبي الخاتم وبعض جرائمهم
ذلك كان موقفهم مع أنبيائهم ، يبينه
ويقرره ، ثم يجابههم بموقفهم من الرسالة
الجديدة والنبي الجديد ، فإذا هم هم ، كأنهم
أولئك الذين جابهوا الأنبياء من قبل:
وقالوا:قلوبنا
غلف . بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون
ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم -
وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا -
فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به . فلعنة الله على
الكافرين . بئسما اشتروا به أنفسهم:أن يكفروا
بما أنزل الله - بغيا ،
أن
ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده -
فباؤوا بغضب على غضب ، وللكافرين عذاب مهين .
وإذا قيل لهم:آمنوا بما أنزل الله ، قالوا:نؤمن
بما أنزل علينا . ويكفرون بما وراءه ، وهو الحق
مصدقا لما معهم ، قل:فلم تقتلون أنبياء الله
من قبل إن كنتم مؤمنين ؟ ولقد جاءكم موسى
بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم
ظالمون . وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم
الطور:خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا . قالوا:سمعنا
وعصينا ، وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم . قل:بئسما
يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين
! . .
إن
الأسلوب هنا يعنف ويشتد ، ويتحول - في بعض
المواضع - إلى صواعق وحمم . . إنه يجبههم جبها
شديدا بما قالوا وما فعلوا ؛ ويجردهم من كل
حججهم ومعاذيرهم ، التي يسترون بها استكبارهم
عن الحق ، وأثرتهم البغيضة ، وعزلتهم النافرة
، وكراهتهم لأن ينال غيرهم الخير ، وحسدهم أن
يؤتي الله أحدا من فضله . جزاء موقفهم الجحودي
المنكر من الإسلام ورسوله الكريم
. .
وقالوا:قلوبنا
غلف . بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون
. .
قالوا:إن
قلوبنا مغلفة لا تنفذ إليها دعوة جديدة ، ولا
تستمع إلى داعية جديد ! قالوها تيئيسا لمحمد
[ ص ] وللمسلمين ،
من دعوتهم إلى هذا الدين ؛ أو تعليلا لعدم
استجابتهم لدعوة الرسول . . ويقول الله ردا على
قولتهم: بل لعنهم
الله بكفرهم . . أي
إنه طردهم وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم . فهم
قد كفروا ابتداء فجازاهم الله على الكفر
بالطرد وبالحيلولة بينهم وبين الانتفاع
بالهدى . . فقليلا ما يؤمنون
. . أي قليلا ما يقع منهم الإيمان بسبب هذا
الطرد الذي حق عليهم جزاء كفرهم السابق ،
وضلالهم القديم . أو أن هذه حالهم:أنهم كفروا
فقلما يقع منهم الإيمان ، حالة لاصقة بهم
يذكرها تقريرا لحقيقتهم . . وكلا المعنيين
يتفق مع المناسبة والموضوع
.
وقد
كان كفرهم قبيحا ، لأنهم كفروا بالنبي الذي
ارتقبوه ، واستفتحوا به على الكافرين ، أي
ارتقبوا أن ينتصروا به على من سواهم . وقد
جاءهم بكتاب مصدق لما معهم:
ولما
جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم - وكانوا
من قبل يستفتحون على الذين كفروا - فلما جاءهم
ما عرفوا كفروا به . .
وهو
تصرف يستحق الطرد والغضب لقبحه وشناعته . . ومن
ثم يصب عليهم اللعنة ويصمهم بالكفر:
فلعنة الله على الكافرين
. .
ويفضح
السبب الخفي لهذا الموقف الشائن الذي وقفوه ؛
بعد أن يقرر خسارة الصفقة التي اختاروها:
بئسما
اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله ،
بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من
عباده . فباؤوا بغضب على غضب ، وللكافرين عذاب
مهين
. .
بئسما
اشتروا به أنفسهم أن يكفروا . . . لكأن هذا
الكفر هو الثمن المقابل لأنفسهم ! والإنسان
يعادل نفسه بثمن ما ، يكثر أو يقل . أما أن
يعادلها بالكفر فتلك أبأس الصفقات وأخسرها
ولكن هذا هو الواقع . وإن بدا تمثيلا وتصويرا .
لقد خسروا أنفسهم في الدنيا فلم ينضموا إلى
الموكب الكريم العزيز ولقد خسروا أنفسهم في
الآخرة بما ينتظرهم من العذاب المهين . وبماذا
خرجوا في النهاية ؟ خرجوا بالكفر ، هو وحده
الذي كسبوه وأخذوه
!
وكان
الذي حملهم على هذا كله هو حسدهم لرسول الله
[ ص ] أن يختاره
الله للرسالة التي انتظروها فيهم ، وحقدهم
لأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده .
وكان هذا بغيا منهم وظلما فعادوا من هذا الظلم
بغضب على غضب ؛ وهناك ينتظرهم عذاب مهين ،
جزاء الاستكبار والحسد والبغي الذميم
.
وهذه
الطبيعة التي تبدو هنا في يهود هي الطبيعة
الكنود ، طبيعة الأثرة الضيقة التي تحيا في
نطاق من التعصب شديد ؛ وتحس أن كل خير يصيب
سواها كأنما هو مقتطع منها ؛ ولا تشعر
بالوشيجة الإنسانية الكبرى ، التي تربط
البشرية جميعا . . وهكذا عاش اليهود في عزلة ،
يحسون أنهم
فرع مقطوع من شجرة الحياة ؛ ويتربصون
بالبشرية الدوائر ؛ ويكنون للناس البغضاء ،
ويعانون عذاب الأحقاد والضغائن ، ويذيقون
البشرية رجع هذه الأحقاد فتنا يوقدونها بين
بعض الشعوب وبعض ، وحروبا يثيرونها ليجروا من
ورائها المغانم ، ويروون بها أحقادهم التي لا
تنطفىء ، وهلاكا يسلطونه على الناس ، ويسلطه
عليهم الناس . . وهذا الشر كله إنما نشأ من تلك
الأثرة البغيضة: بغيا
. . أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده
. .
وإذا
قيل لهم:آمنوا بما أنزل الله قالوا:نؤمن بما
أنزل علينا ، ويكفرون بما وراءه وهو الحق
مصدقا لما معهم
. .
وكان
هذا هو الذي يقولونه إذا دعوا إلى الإيمان
بالقرآن وبالإسلام . كانوا يقولون نؤمن بما أنزل علينا
. . ففيه الكفاية ، وهو وحده الحق ، ثم
يكفرون بما وراءه . سواء ما جاءهم به عيسى عليه
السلام ، وما جاءهم به محمد خاتم النبيين
.
والقرآن
يعجب من موقفهم هذا ، ومن كفرهم بما وراء الذي
معهم وهو الحق مصدقا
لما معهم
. .
وما
لهم وللحق ؟ وما لهم أن يكون مصدقا لما معهم !
ما داموا لم يستأثروا هم به ؟ إنهم يعبدون
أنفسهم ، ويتعبدون لعصبيتهم . لا بل إنهم
ليعبدون هواهم ، فلقد كفروا من قبل بما جاءهم
أنبياؤهم به . . ويلقن الله نبيه
[ ص ] أن يجبههم
بهذه الحقيقة ، كشفا لموقفهم وفضحا لدعواهم:
قل:فلم
تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ؟
. .
لم
تقتلون أنبياء الله من قبل ، إن كنتم حقا
تؤمنون بما أنزل إليكم ؟ وهؤلاء الأنبياء هم
الذي جاؤوكم بما تدعون أنكم تؤمنون به ؟
لا
بل إنكم كفرتم بما جاءكم به موسى - نبيكم الأول
ومنقذكم الأكبر
-:
ولقد
جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده
وأنتم ظالمون
. .
فهل
اتخاذكم العجل من بعدما جاءكم موسى بالبينات
، وفي حياة موسى نفسه ، كان من وحي الإيمان ؟
وهل يتفق هذا مع دعواكم أنكم تؤمنون بما أنزل
إليكم ؟
ولم
تكن هذه هي المرة الوحيدة . بل كان هنالك
الميثاق تحت الصخرة ، وكان هناك التمرد
والمعصية:
وإذ
أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور:خذوا ما
آتيناكم بقوة واسمعوا . قالوا:سمعنا وعصينا ،
وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم
. .
والسياق
هنا يلتفت من الخطاب إلى الحكاية . . يخاطب بني
إسرائيل بما كان منهم ، ويلتفت إلى المؤمنين -
وإلى الناس جميعا - فيطلعهم على ما كان منهم . .
ثم يلقن الرسول [ ص ]
أن يجبههم بالترذيل والتبشيع لهذا اللون
من الإيمان العجيب الذي يدعونه إن كان يأمرهم
بكل هذا
الكفر الصريح:
قل:بئسما
يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين
! . .
ونقف
هنا لحظة أمام التعبيرين المصورين العجيبين:
قالوا:سمعنا وعصينا .
. وأشربوا في قلوبهم
العجل بكفرهم
. .
إنهم
قالوا:سمعنا . ولم يقولوا عصينا . ففيم إذن
حكاية هذا القول عنهم هنا ؟ إنه التصوير الحي
للواقع الصامت كأنه واقع ناطق . لقد قالوا
بأفواههم:سمعنا . وقالوا بأعمالهم:عصينا .
والواقع العملي هو الذي يمنح القول الشفوي
دلالته . وهذه الدلالة أقوى من القول المنطوق .
. وهذا التصوير الحي للواقع يومىء إلى مبدأ
كلي من مباديء الإسلام:إنه لا قيمة لقول بلا
عمل . إن العمل هو المعتبر . أو هي الوحدة بين
الكلمة المنطوقة والحركة الواقعة ، وهي مناط
الحكم والتقدير
.
فأما
الصورة الغليظة التي ترسمها:
وأشربوا في قلوبهم العجل
فهي صورة فريدة . لقد أشربوا . أشربوا بفعل
فاعل سواهم . أشربوا ماذا ؟ أشربوا العجل !
وأين أشربوه ؟ أشربوه في قلوبهم ! ويظل الخيال
يتمثل تلك المحاولة العنيفة الغليظة ، وتلك
الصورة الساخرة الهازئة:صورة العجل يدخل في
القلوب إدخالا ، ويحشر فيها حشرا ، حتى ليكاد
ينسى المعنى الذهني الذي جاءت هذه الصورة
المجسمة لتؤديه ، وهو حبهم الشديد لعبادة
العجل ، حتى لكأنهم أشربوه إشرابا في القلوب !
هنا تبدو قيمة التعبير القرآني المصور ،
بالقياس . إن التعبير الذهي المفسر . . إنه
التصوير . . السمة البارزة في التعبير القرآني
الجميل .
الدرس الثامن:94 - 96 عدم
تمنيهم الموت وحرصهم على الحياة
ثم لقد كانوا يطلقونها دعوى عريضة . . إنهم
شعب الله المختار . إنهم وحدهم المهتدون . إنهم
وحدهم الفائزون في الآخرة . إنه ليس لغيرهم من
الأمم في الآخرة عند الله نصيب
.
وهذه
الدعوى تتضمن أن المؤمنين بمحمد
[ ص ] لا نصيب لهم
في الآخرة . والهدف الأول هو زعزعة ثقتهم
بدينهم وبوعود رسولهم ووعود القرآن لهم . .
فأمر الله نبيه [ ص ]
أن يدعو اليهود إلى مباهلة . أي بأن يقف
الفريقان ويدعوا الله بهلاك الكاذب منهما:
قل:إن
كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون
الناس ، فتمنوا الموت إن كنتم صادقين
.
ويعقب
على هذا التحدي بتقرير أنهم لن يقبلوا
المباهلة ، ولن يطلبوا الموت . لأنهم يعلمون
أنهم كاذبون ؛ ويخشون أن يستجيب الله فيأخذهم
. وهم يعلمون أن ما قدموه من عمل لا يجعل لهم
نصيبا في الآخرة . وعندئذ يكونون قد خسروا
الدنيا بالموت الذي طلبوه ، وخسروا الآخرة
بالعمل
السيىء الذي قدموه . . ومن ثم فإنهم لن يقبلوا
التحدي . فهم أحرص الناس على حياة . وهم
والمشركون في هذا سواء:
ولن
يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم . والله عليم
بالظالمين . ولتجدنهم أحرص الناس على حياة .
ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة .
وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ، والله
بصير بما يعملون
.
لن
يتمنوه . لأن ما قدمته أيديهم للآخرة لا
يطمعهم في ثواب ، ولا يؤمنهم من عقاب . إنه
مدخر لهم هناك ، والله عليم بالظالمين وما
كانوا يعملون .
وليس
هذا فحسب . ولكنها خصلة أخرى في يهود ، خصلة
يصورها القرآن صورة تفيض بالزراية وتنضح
بالتحقير والمهانة: ولتجدنهم
أحرص الناس على حياة .
. أية حياة ، لا يهم أن تكون حياة كريمة ولا
حياة مميزة على الإطلاق ! حياة فقط ! حياة بهذا
التنكير والتحقير ! حياة ديدان أو حشرات ! حياة
والسلام ! إنها يهود ، في ماضيها وحاضرها
ومستقبلها سواء . وما ترفع رأسها إلا حين تغيب
المطرقة . فإذا وجدت المطرقة نكست الرؤوس ،
وعنت الجباه جبنا وحرصا على الحياة . . أي حياة
!
ومن
الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ، وما
هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ، والله بصير
بما يعملون
. .
يود
أحدهم لو يعمر ألف سنة . ذلك أنهم لا يرجون
لقاء الله ، ولا يحسون أن لهم حياة غير هذه
الحياة . وما أقصر الحياة الدنيا وما أضيقها
حين تحس النفس الإنسانية أنها لا تتصل بحياة
سواها ، ولا تطمع في غير أنفاس وساعات على
الأرض معدودة . . إن الإيمان بالحياة الآخرة
نعمة . نعمة يفيضها الإيمان على القلب . نعمة
يهبها الله للفرد الفاني العاني . المحدود
الأجل الواسع الأمل وما يغلق أحد على نفسه هذا
المنفذ إلى الخلود ، إلا وحقيقة الحياة في
روحه ناقصة أو مطموسة . فالإيمان بالآخرة - فوق
أنه إيمان بعدل الله المطلق ، وجزائه الأوفى -
هو ذاته دلالة على فيض النفس بالحيوية ، وعلى
امتلاء بالحياة لا يقف عند حدود الأرض ؛ إنما
يتجاوزها إلى البقاء الطليق ، الذي لا يعلم
إلا الله مداه ، وإلى المرتقى السامي الذي
يتجه صعدا إلى جوار الله
.
الدرس التاسع:97 - 98 كفرهم
لتفريقهم بين الملائكة والرسل
ويمضي السياق بتلقين جديد من الله لرسوله
[ ص ] يتحداهم به ، ويعلن الحقيقة التي
يتضمنها على رؤوس الأشهاد:
قل:من
كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله
، مصدقا لما بين يديه ، وهدى وبشرى للمؤمنين .
من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل
وميكال ، فإن الله عدو للكافرين
. .
وفي
قصة هذا التحدي نطلع على سمة أخرى من سمات
يهود . سمة عجيبة حقا . . لقد بلغ هؤلاء القوم من
الحنق والغيظ من أن ينزل الله من فضله على من
يشاء من عباده مبلغا يتجاوز كل حد ، وقادهم
هذا إلى تناقض لا يستقيم في عقل . . لقد سمعوا
أن جبريل ينزل بالوحي من عند الله على محمد
[ ص ] ولما كان
عداؤهم لمحمد قد بلغ مرتبة الحقد والحنق فقد
لج بهم الضغن أن يخترعوا قصة واهية وحجة فارغة
، فيزعموا أن جبريل عدوهم ، لأنه ينزل بالهلاك
والدمار والعذاب ؛ وأن هذا هو الذي يمنعهم من
الإيمان بمحمد من جراء صاحبه جبريل ! ولو كان
الذي ينزل إليه بالوحي هو ميكائيل لآمنوا ،
فميكائيل يتنزل بالرخاء والمطر والخصب
!
إنها
الحماقة المضحكة ، ولكن الغيظ والحقد يسوقان
إلى كل حماقة . وإلا فما بالهم يعادون جبريل ؟
وجبريل لم يكن بشرا يعمل معهم أو ضدهم ، ولم
يكن يعمل بتصميم من عنده وتدبير ؟ إنما هو عبد
الله يفعل ما يأمره ولا يعصى الله ما أمره
!
قل:من
كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله
. .
فما
كان له من هوى شخصي ، ولا إرادة ذاتية ، في أن
ينزله على قلبك ، إنما هو منفذ لإرادة الله
وإذنه في تنزيل هذا القرآن على قلبك . . والقلب
هو موضع التلقي ، وهو الذي يفقه بعد التلقي ،
ويستقر هذا الكتاب فيه ويحفظ . . والقلب يعبر
به في القرآن عن قوة الإدراك جملة وليس هو هذه
العضلة المعروفة بطبيعة الحال
.
نزله
على قلبك . . مصدقا
لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين
. .
والقرآن
يصدق في عمومه ما سبقه من الكتب السماوية ،
فأساس دين الله واحد في جميع الكتب السماوية
وجميع الديانات الإلهية . . وهو هدى وبشرى
للقلوب المؤمنة ، التي تتفتح له وتستجيب . .
وهذه حقيقة ينبغي إبرازها . . إن نصوص القرآن
لتسكب في قلب المؤمن من الإيناس ، وتفتح له من
أبواب المعرفة ، وتفيض فيه من الإيحاءات
والمشاعر ما لا يكون بغير الإيمان . ومن ثم يجد
فيه الهدى ، كما يستروح فيه البشرى . وكذلك نجد
القرآن يكرر هذه الحقيقة في مناسبات شتى . .
هدى للمتقين . . هدى لقوم يؤمنون
. . هدى لقوم
يوقنون . . شفاء
ورحمة للمؤمنين .
فالهدى ثمرة الإيمان والتقوى واليقين
. .
وبنو
إسرائيل لم يكونوا يؤمنون أو يتقون أو يوقنون
!
وكانوا
- كعادتهم في تفريق الدين وتفريق الرسل - قد
فرقوا بين ملائكة الله الذين يسمعون أسماءهم
وأعمالهم ، فقالوا:إنهم على صداقة مع ميكائيل
أما مع جبريل فلا ! لذلك جمعت الآية التالية
جبريل وميكال وملائكة الله ورسله ، لبيان
وحدة الجميع ، ولإعلان أن من عادى أحدا منهم
فقد عاداهم جميعا ، وعادى الله سبحانه ،
فعاداه الله . فهو من الكافرين
. .
من
كان عدوا لله وملائكته ورسله ، وجبريل وميكال
فإن الله عدو للكافرين
.
الدرس العاشر:99 - 101 فسق
اليهود ونقضهم العهد
ثم يتجه بالخطاب إلى الرسول
[ ص ] يثبته على
ما أنزل عليه من الحق ، وما آتاه من الآيات
البينات ، مقررا أنه لا يكفر بهذه الآيات إلا
الفاسقون المنحرفون . ويندد ببني إسرائيل
الذين لا يستقيمون على عهد . سواء عهودهم مع
ربهم وأنبيائهم من قبل ، أو عهودهم مع رسول
الله [ ص ] كمايندد بنبذهم لكتاب الله الأخير
الذي جاء مصدقا لما معهم:
ولقد
أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا
الفاسقون ، أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق
منهم ؟ بل أكثرهم لا يؤمنون . ولما جاءهم رسول
من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين
أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم ، كأنهم
لا يعلمون . . .
. .
لقد
كشف القرآن هنا عن علة كفر بني إسرائيل بتلك
الآيات البينات التي أنزلها الله . . إنه
الفسوق وانحراف الفطرة . فالطبيعة المستقيمة
لا يسعها إلا الإيمان بتلك الآيات . وهي تفرض
نفسها فرضا على القلب المستقيم . فإذا كفر بها
اليهود - أو غيرهم - فليس هذا لأنه لا
مقنع
فيها ولا حجة ، ولكن لأنهم هم فاسدو الفطرة
فاسقون .
ثم
يلتفت إلى المسلمين - وإلى الناس عامة - منددا
بهؤلاء اليهود ، كاشفا عن سمة من سماتهم
الوبيئة . . إنهم جماعة مفككة الأهواء - رغم
تعصبها الذميم - فهم لا يجتمعون على رأي ، ولا
يثبتون على عهد ، ولا يستمسكون بعروة . ومع
أنهم متعصبون لأنفسهم وجنسهم ، يكرهون أن
يمنح الله شيئا من فضله لسواهم ، إلا أنهم - مع
هذا - لا يستمسكون بوحدة ، ولا يحفظ بعضهم عهد
بعض ، وما من عهد يقطعونه على أنفسهم حتى تند
منهم فرقة فتنقض ما أبرموا ، وتخرج على ما
أجمعوا:
أو
كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ؟ بل أكثرهم
لا يؤمنون
. .
وقد
أخلفوا ميثاقهم مع الله تحت الجبل ، ونبذوا
عهودهم مع أنبيائهم من بعد ، وأخيرا نبذ فريق
منهم عهدهم الذي أبرموه مع النبي
[ ص ] أول مقدمه
إلى المدينة ؛ وهو العهد الذي وادعهم فيه
بشروط معينة ، بينما كانوا هم أول من أعان
عليه أعداءه ؛ وأول من عاب دينة ، وحاول بث
الفرقة والفتنة في الصف المسلم ، مخالفين ما
عاهدوا المسلمين عليه
. .
وبئس
هي من خلة في اليهود ! تقابلها في المسلمين خلة
أخرى على النقيض ، يعلنها رسول الله
[ ص ] في قوله
المسلمون تتكافأ دماؤهم ، وهم يد على من
سواهم يسعى بذمتهم أدناهم
. . يسعى بذمتهم أدناهم ، فلا يخيس أحد
بعهده إذا عاهد ، ولا ينقض أحد عقده إذا أبرم ،
ولقد كتب أبو عبيدة - رضي الله عنه - وهو قائد
لجيش عمر - رضي الله عنه - وهو الخليفة يقول:إن
عبدا أمن أهل بلد بالعراق . وسأله رأيه . فكتب
إليه عمر:إن الله عظم الوفاء ، فلا تكونون
أوفياء حتى تفوا . . فوفوا لهم وانصرفوا عنهم . .
وهذه سمة الجماعة الكريمة المتماسكة
المستقيمة . وذلك فرق ما بين أخلاق اليهود
الفاسقين وأخلاق المسلمين الصادقين
.
ولما
جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم ، نبذ
فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء
ظهورهم كأنهم لا يعلمون
. .
وكان
هذا مظهرا من مظاهر نقض فريق لكل عهد يعاهدونه
. فلقد كان ضمن الميثاق الذي أخذه الله عليهم ،
أن يؤمنوا بكل رسول يبعثه ، وأن ينصروه
ويحترموه . فلما جاءهم كتاب من عند الله مصدق
لما معهم ، خاسوا بذلك العهد ، ونبذ فريق من
الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم ،
يستوي في هذا النبذ كتاب الله الذي معهم ،
والذي يتضمن البشرى بهذا النبي وقد نبذوه ،
والكتاب الجديد مع النبي الجديد وقدنبذوه
أيضا !
وفي
الآية ما فيها من سخرية خفية ، يحملها ذلك
النص على أن الذين أوتوا الكتاب هم الذين
نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم . فلو كانوا هم
المشركين الأميين لكان نبذهم لكتاب الله وراء
ظهورهم مفهوما ! ولكنهم هم الذين أوتوا الكتاب
. هم الذين عرفوا الرسالات والرسل . هم الذين
اتصلوا بالهدى ورأوا النور . . وماذا صنعوا ؟
إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ! والمقصود
طبعا أنهم جحدوه وتركوا العمل به ، وأنهم
أبعدوه عن مجال تفكيرهم وحياتهم . ولكن
التعبير المصور ينقل المعنى من دائرة الذهن
إلى دائرة الحس ؛ ويمثل عملهم بحركة مادية
متخيلة ، تصور هذا التصرف تصويرا بشعا زريا ،
ينضح بالكنود والجحود ، ويتسم بالغلظة
والحماقة ، ويفيض بسوء الأدب والقحة ؛ ويدع
الخيال يتملى هذه الحركة العنيفة . حركة
الأيدي تنبذ كتاب الله وراء الظهور
. .
الدرس الحادي عشر:102 - 103
اليهود والسحر وقصة هاروت وماروت
ثم ماذا ؟ ماذا بعد أن نبذوا كتاب الله
المصدق لما معهم ؟ ؟ ألعلهم قد لاذوا بما هو
خير منه ؟ ألعلهم قد لجأوا إلى حق لا شبهة فيه
؟ ألعلهم قد استمسكوا بكتابهم الذي جاء
القرآن يصدقه ؟ كلا . . لا شيء من هذا كله . إنهم
نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ليجروا خلف
أساطير غامضة لا تستند إلى حقيقة ثابتة
.
واتبعوا
ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ، وما كفر
سليمان ، ولكن الشياطين كفروا . يعلمون الناس
السحر ، وما أنزل على الملكين ببابل هاروت
وماروت . وما يعلمان من أحد حتى يقولا:إنما نحن
فتنة فلا تكفر . فيتعلمون منهما ما يفرقون به
بين المرء وزوجه - وما هم بضارين به من أحد إلا
بإذن الله - ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم .
ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من
خلاق ، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا
يعلمون . ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند
الله خير لو كانوا يعلمون
.
.
لقد
تركوا ما أنزل الله مصدقا لما معهم ؛ وراحوا
يتتبعون ما يقصه الشياطين عن عهد سليمان ، وما
يضللون به الناس من دعاوى مكذوبة عن سليمان ،
إذ يقولون:إنه كان ساحرا ، وإنه سخر ما سخر عن
طريق السحر الذي كان يعلمه ويستخدمه
.
والقرآن
ينفي عن سليمان - عليه السلام - أنه كان ساحرا ،
فيقول:
وما
كفر سليمان
.
فكأنه
يعد السحر واستخدامه كفرا ينفيه عن سليمان -
عليه السلام - ويثبته للشياطين:
ولكن
الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر
. .
ثم
ينفي أن السحر منزل من عند الله على الملكين:هاروت
وماروت . اللذين كان مقرهما بابل:
وما
أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت
. .
ويبدو
أنه كانت هناك قصة معروفة عنهما ، وكان اليهود
أو الشياطين يدعون أنهما كانا يعرفان السحر
ويعلمانه للناس ، ويزعمان أن هذا السحر أنزل
عليهما ! فنفى القرآن هذه الفرية أيضا . فرية
تنزيل السحر على الملكين
.
ثم
يبين الحقيقة ، وهي أن هذين الملكين كانا هناك
فتنة وابتلاء للناس لحكمة مغيبة . وأنهما كانا
يقولان لكل من يجيء اليهما ، طالبا منهما أن
يعلماه السحر:
وما
يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا
تكفر
. .
ومرة
أخرى نجد القرآن يعتبر السحر وتعلمه
واستخدامه كفرا ؛ ويذكر هذا على لسان الملكين:هاروتوماروت
.
وقد
كان بعض الناس يصر على تعلم السحر منهما ، على
الرغم من تحذيره وتبصيره . وعندئذ تحق الفتنة
على بعض المفتونين:
فيتعلمون
منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه
. .
وهو
الأذى والشر الذي حذرهم منه الملكان
. .
وهنا
يبادر القرآن فيقرر كلية التصور الإسلامي
الأساسية ، وهي أنه لا يقع شيء في هذا الوجود
إلا بإذن الله:
وما
هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله . .
فبإذن
الله تفعل الأسباب فعلها وتنشىء آثارها وتحقق
نتائجها . . وهذه قاعدة كلية في التصور لا بد من
وضوحها في ضمير المؤمن تماما . وأقرب ما يمثل
هذه القاعدة في مثل هذا المقام ، أنك إذا عرضت
يدك للنار فإنها تحترق . ولكن هذا الاحتراق لا
يكون إلا بإذن الله . فالله هو الذي أودع النار
خاصية الحرق وأودع يدك خاصية الاحتراق بها .
وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصية حين لا يأذن
لحكمة خاصة يريدها ؛ كما وقع لإبراهيم - عليه
السلام - وكذلك هذا السحر الذي يفرقون به بين
المرء وزوجه ، ينشىء هذا الأثر بإذن الله . وهو
قادر على أن يوقف هذه الخاصية فيه حين لا يأذن
لحكمة خاصة يريدها . . وهكذا بقية ما نتعارف
عليه بأنه مؤثرات وآثار . . كل مؤثر مودع خاصية
التأثير بإذن الله ، فهو يعمل بهذا الإذن ،
ويمكن أن يوقف مفعوله كما أعطاه هذا المفعول
حين يشاء . .
ثم
يقرر القرآن حقيقة ما يتعلمون ، وما يفرقون به
بين المرء وزوجه . . إنه شر عليهم هم أنفسهم لا
خير:
ويتعلمون
ما يضرهم ولا ينفعهم
. .
ويكفي
أن يكون هذا الشر هو الكفر ليكون ضرا خالصا لا
نفع فيه !
ولقد
علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق
. .
ولقد
علموا أن الذي يشتريه لا نصيب له في الآخرة ،
فهو حين يختاره ويشتريه يفقد كل رصيد له في
الآخرة وكل نصيب
. .
فما
أسوأ ما باعوا به أنفسهم لو كانوا يعلمون
حقيقة الصفقة:
ولبئس
ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون . .
ولو
أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو
كانوا يعلمون
. .
وينطبق
هذا القول على الذين كانوا يتعلمون السحر من
الملكين ببابل ، وعلى الذين يتبعون ما تقصه
الشياطين عن عهد سليمان وملكه ، وهم اليهود
الذين ينبذون كتاب الله وراءهم ظهريا ،
ويتبعون هذا الباطل وهذا الشر الذميم
.
تعقيب
على قصة هاروت وماروت
وبعد فلا بد من كلمة هنا عن السحر ، وعما
يفرق بين المرء وزوجه ، مما كان أولئك اليهود
يجرون خلفه ، ويتركون كتاب الله وراء ظهورهم
من أجله . .
إنه
ما يزال مشاهدا في كل وقت أن بعض الناس يملكون
خصائص لم يكشف العلم عن كنهها بعد . لقدسمي
بعضها بأسماء ولكنه لم يحدد كنهها ولا
طرائقها ! . . هذا "التيليبياثي" - التخاطر
عن بعد - ما هو ؟ وكيف يتم ؟ كيف يملك إنسان أن
يدعو إنسانا على أبعاد وفواصل لا يصل إليها
صوت الإنسان في العادة ولا بصره ، فيتلقى عنه
، دون أن تقف بينهما الفواصل والأبعاد ؟
وهذا
التنويم المغنطيسي ما هو وكيف يتم ؟ كيف يقع
أن تسيطر إرادة على إرادة ، وأن يتصل فكر بفكر
، فإذا أحدهما يوحي إلى الآخر ، وإذا أحدهما
يتلقى عن الآخر ، كأنما يقرأ من كتاب مفتوح ؟
إن
كل ما استطاع العلم أن يقوله إلى اليوم في هذه
القوى التي اعترف بها ، هو أن أعطاها أسماء !
ولكنه لم يقل قط:ما هي ؟ ولم يقل قط كيف تتم ؟
وثمة
أمور كثيرة أخرى يماري فيها العلم . إما لأنه
لم يجمع منها مشاهدات كافية للاعتراف بها ؛
وإما لأنه لم يهتد إلى وسيلة تدخلها في نطاق
تجاربه . هذه الأحلام التنبئية - وفرويد الذي
يحاول إنكار كل قوة روحية لم يستطع إنكار
وجودها - كيف أرى رؤيا عن مستقبل مجهول
، ثم إذا هذه النبوءة
تصدق في الواقع بعد حين ؟ وهذه الأحاسيس
الخفية التي ليس لها اسم بعد . كيف أحس أن أمرا
ما سيحدث بعد قليل أو أن شخصا ما قادم بعد قليل
؛ ثم يحدث ما توقعت على نحو من الأنحاء
!
إنه
من المكابرة في الواقع أن يقف إنسان لينفي
ببساطة مثل هذه القوى المجهولة في الكائن
البشري ، لمجرد أن العلم لم يهتد بعد إلى
وسيلة يجرب بها هذه القوى
.
وليس
معنى هذا هو التسليم بكل خرافة ، والجري وراء
كل أسطورة . . إنما الأسلم والأحوط أن يقف
العقل الإنساني أمام هذه المجاهيل موقفا مرنا
. . لا ينفي على الإطلاق ولا يثبت على الإطلاق ،
حتى يتمكن بوسائله المتاحة له بعد ارتقاء هذه
الوسائل من إدراك ما يعجز الآن عن إدراكه ؛ أو
يسلم بأن في الأمر شيئا فوق طاقته ، ويعرف
حدوده ، ويحسب للمجهول في هذا الكون حسابه
. .
السحر
من قبيل هذه الأمور . وتعليم الشياطين للناس
من قبيل هذه الأمور . وقد تكون صورة من صورة:القدرة
على الإيحاء والتأثير ، إما في الحواس
والأفكار ، وإما في الأشياء والأجسام . . وإن
كان السحر الذي ذكر القرآن وقوعه من سحرة
فرعون كان مجرد تخييل لا حقيقة له:
يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى
- ولا مانع أن يكون مثل هذا التأثير وسيلة
للتفريق بين المرء وزوجه ، وبين الصديق
وصديقه . فالانفعالات تنشأ من التأثرات . وإن
كانت الوسائل والآثار ، والأسباب والمسببات ،
لا تقع كلها إلا بإذن الله ، على النحو الذي
أسلفنا .
أما
من هما الملكان:هاروت وماروت ؟ ومتى كانا
ببابل ؟ فإن قصتهما كانت متعارفة بين اليهود .
بدليل أنهم لم يكذبوا هذه الإشارة ولم
يعترضوا عليها . وقد وردت في القرآن الكريم
إشارات مجملة لبعض الأحداث التي كانت معروفة
عند المخاطبين بها ؛ وكان في ذلك الإجمال
كفاية لأداء الغرض ، ولم يكن هنالك ما يدعو
إلى تفصيل أكثر . لأن هذا التفصيل ليس هو
المقصود .
ولا
أحب أن نجري نحن - في ظلال القرآن - خلف
الأساطير الكثيرة التي وردت حول قصة الملكين .
فليست هنالك رواية واحدة محققة يوثق بها
.
ولقد
مضى في تاريخ البشرية من الآيات والابتلاءات
ما يناسب حالتها وإدراكها في كل طور من
أطوارها . فإذا جاء الاختيار في صورة ملكين -
أو في صورة رجلين طيبين كالملائكة - فليس هذا
غريبا ولا شاذا بالقياس إلى شتى الصور وشتى
الابتلاءات الخارقة ، التي مرت بها البشرية
وهي تحبو ، وهي تخطو ، وهي تقفوأشعة الشعلة
الإلهية المنيرة في غياهب الليل البهيم
!
والمفهومات
الواضحة المحكمة في هذه الآيات تغني عن السعي
وراء المتشابه فيها بالقياس إلينا بعد ذلك
الزمن المديد . وحسبنا أن نعلم منها ضلال بني
إسرائيل في جريهم وراء الأساطير ، ونبذهم
كتاب الله المستيقن ، وأن نعرف أن السحر من
عمل الشيطان ؛ وأنه من ثم كفر يدان به
الإنسان ، ويفقد به في الآخرة كل نصيب وكل
رصيد .