| فهرس الجزء الأول | |
|
الوحدة
الخامسة:98 - 109 آياتها:104 - 123 موضوعها:كشف
دسائس اليهود للإسلام والمسلمين والرد
على شبهاتهم |
|
|
الدرس
الأول:104 - 110 إيقاظ وعي الجماعة المسلمة
وتركيزه على مصدر الخطر |
|
|
الدرس
الثاني 111 - 113 تفنيد دعاوي أهل الكتاب في
أنهم المهتدون وحدهم |
|
|
الدرس
الثالث:114 - 115 سعي الكفار للتشكيك في صحة
الأوامر النبوية |
|
|
الدرس
الرابع:116 - 118:بيان كفر أهل الكتاب
والمشركين وضلال تصورهم لحقيقة الألوهية |
|
يمضي هذا الدرس في كشف دسائس اليهود
وكيدهم للإسلام والمسلمين ؛ وتحذير الجماعة
المسلمة من ألاعيبهم وحيلهم ، وما تكنه
نفوسهم للمسلمين من الحقد والشر ، وما يبيتون
لهم من الكيد والضر ؛ ونهى الجماعة المسلمة عن
التشبه بهؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب في
قول أو فعل ؛ ويكشف للمسلمين عن الأسباب
الحقيقية الدفينة التي تكمن وراء أقوال
اليهود وأفعالهم ، وكيدهم ودسهم ، وألاعيبهم
وفتنهم ، التي يطلقونها في الصف الإسلامي
.
ويبدو
أن اليهود كانوا يتخذون من نسخ بعض الأوامر
والتكاليف ، وتغييرها وفق مقتضيات النشأة
الإسلامية الجديدة ، والظروف والملابسات
التي تحيط بالجماعة المسلمة . . يبدو أنهم
كانوا يتخذون من هذا ذريعة للتشكيك في مصدر
هذه الأوامر والتكاليف ؛ ويقولون للمسلمين:لو
كانت من عند الله ما نسخت ولا صدر أمر جديد
يلغي أو يعدل أمرا سابقا
. .
واشتدت
هذه الحملة عند تحويل القبلة من بيت المقدس
إلى الكعبة بعد ستة عشر شهرا من الهجرة . وكان
النبي [ ص ] قد اتجه بالصلاة - عقب الهجرة - إلى
بيت المقدس - قبلة اليهود ومصلاهم - فاتخذ
اليهود من هذا التوجه حجة على أن دينهم هو
الدين ، وقبلتهم هي القبلة ؛ مما جعل الرسول
[ ص ] يرغب ولا
يصرح في التحول عن بيت المقدس إلى الكعبة ،
بيت الله المحرم . وظلت هذه الرغبة تعتمل في
نفسه حتى استجاب له ربه فوجهه إلى القبلة التي
يرضاها - كما سيجيء في سياق السورة - ونظرا لما
يحمله هذا التحول من دحض لحجة بني إسرائيل فقد
عز عليهم أن يفقدوا مثل هذه الحجة ، فشنوها
حملة دعاية ماكره في وسط المسلمين ، بالتشكيك
في مصدر الأوامر التي يكلفهم بها رسول الله
[ ص ] وفي صحة
تلقيه عن الوحي . . أي إنهم وجهوا المعول إلى
أساس العقيدة في نفوس المسلمين ! ثم قالوا لهم:إن
كان التوجه إلى بيت المقدس
باطلا
فقد ضاعت صلاتكم وعبادتكم طوال هذه الفترة .
وإن كان صحيحا . ففيم التحول عنه ؟ أي أنهم
وجهوا المعول إلى أساس الثقة في نفوس
المسلمين برصيدهم من ثواب الله ، وقبل كل شيء
في حكمة القيادة النبوية
!
ويبدو
أن هذه الحملة الخبيثة الماكرة آتت ثمرتها
الكريهة في بعض نفوس المسلمين . فأخذوا يسألون
الرسول [ ص ] في قلق وزعزعة ؛ ويطلبون البراهين
والأدلة ، الأمر الذي لا يتفق مع الطمأنينة
المطلقة إلى القيادة ، والثقة المطلقة بمصدر
العقيدة . فنزل القرآن يبين لهم أن
نسخ بعض الأوامر والآيات يتبع حكمة الله الذي
يختار الأحسن لعباده ؛ ويعلم ما يصلح لهم في
كل موقف . وينبههم في الوقت ذاته إلى أن هدف
اليهود هو ردهم كفارا بعد إيمانهم ؛ حسدا من
عند أنفسهم على اختيار الله لهم ، واختصاصهم
برحمته وفضله ، بتنزيل الكتاب الأخير عليهم ،
وانتدابهم لهذا الأمر العظيم . ويكشف لهم ما
وراء أضاليل اليهود من غرض دفين ! ويفند
دعواهم الكاذبة في أن الجنة من حقهم وحدهم .
ويقص عليهم التهم المتبادلة بين فريقي أهل
الكتاب إذ يقول اليهود:ليست النصارى على شيء ،
وتقول النصارى ليست اليهود على شيء ؛ وكذلك
يقول المشركون عن الجميع
!
ثم
يفظع نيتهم التي يخفونها من وراء قصة القبلة ؛
وهي منع الاتجاه إلى الكعبة بيت الله ومسجده
الأول ، ويعده منعا لمساجد الله أن يذكر فيها
اسمه وسعيا في خرابها
.
ويمضي
السياق في هذا الدرس على هذا النحو ، حتى
ينتهي إلى أن يضع المسلمين وجها لوجه أمام
الهدف الحقيقي لأهل الكتاب من اليهود
والنصارى . . إنه تحويل المسلمين من دينهم إلى
دين أهل الكتاب ولن يرضوا عن النبي
[ ص ] حتى يتبع
ملتهم ، وإلا فهي الحرب والكيد والدس إلى
النهاية ! وهذه هي حقيقة المعركة التي تكمن
وراء الأباطيل والأضاليل ، وتتخفى خلف الحجج
والأسباب المقنعة
!!!
الدرس
الأول:104 - 110 إيقاظ وعي الجماعة المسلمة
وتركيزه على مصدر الخطر
يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا:راعنا .
وقولوا:انظرنا ، واسمعوا ، وللكافرين عذاب
أليم . ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا
المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ،
والله يختص برحمته
من
يشاء ، والله ذو الفضل العظيم . ما ننسخ من آية
أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن
الله على كل شيء قدير ؟ ألم تعلم أن الله له
ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من
ولي ولا نصير . أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما
سئل موسى من قبل ؟ ومن يتبدل الكفر بالإيمان
فقد ضل سواء السبيل . ود كثير من أهل الكتاب لو
يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند
أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ، فاعفوا
واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ، إن الله على كل
شيء قدير وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وما
تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ، إن
الله بما تعملون بصير
. .
يتجه
الخطاب في مطلع هذا الدرس إلى
الذين آمنوا يناديهم
بالصفة التي تميزهم ، والتي تربطهم بربهم
ونبيهم ، والتي تستجيش في نفوسهم الاستجابة
والتلبية .
وبهذه
الصفة ينهاهم أن يقولوا للنبي
[ ص ] :
راعنا - من
الرعاية والنظر - وأن يقولوا بدلا منها
مرادفها في اللغة العربية:
أنظرنا . .
ويأمرهم بالسمع بمعنى الطاعة ، ويحذرهم من
مصير الكافرين وهو العذاب الأليم:
يا
أيها الذين آمنوا لا تقولوا:راعنا وقولوا
انظرنا . واسمعوا . وللكافرين عذاب أليم
.
وتذكر
الروايات أن السبب في ذلك النهي عن كلمة
راعنا . . أن
سفهاء اليهود كانوا يميلون ألسنتهم في نطق
هذا اللفظ ، وهم يوجهونه للنبي
[ ص ] حتى يؤدي
معنى آخر مشتقا من الرعونة . فقد كانوا يخشون
أن يشتموا النبي [ ص ]
مواجهة ، فيحتالون على سبه - صلوات الله
وسلامه عليه - عن هذا الطريق الملتوي ، الذي لا
يسلكه إلا صغار السفهاء ! ومن ثم جاء النهي
للمؤمنين عن اللفظ الذي يتخذه اليهود ذريعة ،
وأمروا أن يستبدلوا به مرادفه في المعنى ،
الذي لا يملك السفهاء تحريفه وإمالته . كي
يفوتوا على اليهود غرضهم الصغير السفيه
!
واستخدام
مثل هذه الوسيلة من اليهود يشي بمدى غيظهم
وحقدهم ، كما يشي بسوء الأدب ، وخسة الوسيلة ،
وانحطاط السلوك . والنهي الوارد بهذه
المناسبة يوحي برعاية الله لنبيه وللجماعة
المسلمة ، ودفاعه - سبحانه - عن أوليائه ،
بإزاء كل كيد وكل قصد شرير من أعدائهم
الماكرين .
ثم
يكشف للمسلمين عما تكنه لهم صدور اليهود
حولهم من الشر والعداء ، وعما تنغل به قلوبهم
من الحقد والحسد ، بسبب ما اختصهم به الله من
الفضل . ليحذروا أعداءهم ، ويستمسكوا بما
يحسدهم هؤلاء الأعداء عليه من الإيمان ،
ويشكروا فضل الله عليهم ويحفظوه:
ما
يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين
أن ينزل عليكم من خير من ربكم . والله يختص
برحمته من يشاء . والله ذو الفضل العظيم
. .
ويجمع
القرآن بين أهل الكتاب والمشركين في الكفر . .
وكلاهما كافر بالرسالة الأخيرة فهما على قدم
سواء من هذه الناحية ؛ وكلاهما يضمر للمؤمنين
الحقد والضغن ، ولا يود لهم الخير . وأعظم ما
يكرهونه للمؤمنين هو هذا الدين . هو أن
يختارهم الله لهذا الخير وينزل عليهم
هذا
القرآن ، ويحبوهم بهذه النعمة ، ويعهد إليهم
بأمانة العقيدة في الأرض ، وهي الأمانة
الكبرى في الوجود
.
ولقد
سبق الحديث عن حقدهم وغيظهم من أن ينزل الله
من فضله على من يشاء من عباده ، حتى لقد بلغ
بهم الغيظ أن يعلنوا عداءهم لجبريل - عليه
السلام - إذ كان ينزل بالوحي على الرسول
[ ص ]
:
والله
يختص برحمته من يشاء
. .
فالله
أعلم حيث يجعل رسالته ؛ فإذا اختص بها محمدا
[ ص ] والمؤمنين
به ، فقد علم - سبحانه - أنه وأنهم أهل لهذا
الاختصاص .
والله
ذو الفضل العظيم
. .
وليس
أعظم من نعمة النبوة والرسالة ؛ وليس أعظم من
نعمة الإيمان والدعوة إليه . وفي هذا التلميح
ما يستجيش في قلوب الذين آمنوا الشعور بضخامة
العطاء وجزالة الفضل ، وفي التقرير الذي سبقه
عما يضمره الذين كفروا للذين آمنوا ما يستجيش
الشعور بالحذر والحرص الشديد . .
وهذا الشعور وذاك
ضروريان للوقوف في وجه حملة البلبلة والتشكيك
التي قادها - ويقودها - اليهود ، لتوهين
العقيدة في نفوس المؤمنين ، وهي الخير الضخم
الذي ينفسونه على المسلمين
!
وكانت
الحملة - كما أسلفنا - تتعلق بنسخ بعض الأوامر
والتكاليف . وبخاصة عند تحويل القبلة إلى
الكعبة . الأمر الذي أبطل حجتهم على المسلمين:
ما
ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها
. .
وسواء
كانت المناسبة هي مناسبة تحويل القبلة - كما
يدل سياق هذه الآيات وما بعدها - أم كانت
مناسبة أخرى من تعديل بعض الأوامر والتشريعات
والتكاليف ، التي كانت تتابع نمو الجماعة
المسلمة ، وأحوالها المتطورة . أم كانت خاصة
بتعديل بعض الأحكام التي وردت في التوراة مع
تصديق القرآن في عمومه للتوراة . . سواء كانت
هذه أم هذه أم هذه ، أم هي جميعا المناسبة التي
اتخذها اليهود ذريعة للتشكيك في صلب العقيدة .
. فإن القرآن يبين هنا بيانا حاسما في شأن
النسخ والتعديل ؛ وفي القضاء على تلك الشبهات
التي أثارتها يهود ، على عادتها وخطتها في
محاربة هذه العقيدة بشتى الأساليب
.
فالتعديل
الجزئي وفق مقتضيات الأحوال - في فترة الرسالة
- هو لصالح البشرية ، ولتحقيق خير أكبر تقتضيه
أطوار حياتها . والله خالق الناس ، ومرسل
الرسل ، ومنزل الآيات ، هو الذي يقدر هذا .
فإذا نسخ آية القاها في عالم النسيان - سواء
كانت آية مقروءة تشتمل حكما من الأحكام ، أو
آية بمعنى علامة وخارقة تجيء لمناسبة حاضرة
وتطوى كالمعجزات المادية التي جاء بها الرسل -
فإنه يأتي بخير منها أو مثلها ! ولا يعجزه شيء
، وهو مالك كل شيء ، وصاحب الأمر كله في
السماوات وفي الأرض . . ومن ثم تجيء هذه
التعقيبات:
ألم
تعلم أن الله على كل شيء قدير ؟ ألم تعلم أن
الله له ملك السماوات والأرض ؟ وما لكم من دون
الله من ولي ولا نصير
. .
والخطاب
هنا للمؤمنين يحمل رائحة التحذير ، ورائحة
التذكير بأن الله هو وليهم وناصرهم وليس لهم
من دونه ولي ولا نصير . . ولعل هذا كان بسبب
انخداع بعضهم بحملة اليهود التضليلية ؛
وبلبلة أفكارهم بحججهم الخادعة ؛ وإقدامهم
على توجيه أسئلة للرسول [
ص ] لا تتفق مع
الثقة
واليقين . يدل على هذا ما جاء في الآية التالية
من صريح التحذير والاستنكار:
أم
تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل
؟ ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء
السبيل . . فهو
استنكار لتشبه بعض المؤمنين بقوم موسى في
تعنتهم وطلبهم للبراهين والخوارق وإعناتهم
لرسولهم أمرهم بأمر أو أبلغهم بتكليف ، على
نحو ما حكى السياق عنهم في مواضع كثيرة
. .
وهو
تحذير لهم من نهاية هذا الطريق ، وهي الضلال ،
واستبدال الكفر بالإيمان ، وهي النهاية التي
صار إليها بنو إسرائيل . كما أنها هي النهاية
التي يتمنى اليهود لو قادوا إليها المسلمين
!
ود
كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم
كفارا ، حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم
الحق
. .
وذلك
ما يفعله الحقد اللئيم بالنفوس . . الرغبة في
سلب الخير الذي يهتدي إليه الآخرون . . لماذا ؟
لا لأن هذه النفوس الشريرة لا تعلم . ولكنها
لأنها تعلم !
حسدا
من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق . .
والحسد
هو ذلك الانفعال الأسود الخسيس الذي فاضت به
نفوس اليهود تجاه الإسلام والمسلمين ، وما
زالت تفيض ، وهو الذي انبعثت منه دسائسهم
وتدبيراتهم كلها وما تزال . وهو الذي يكشفه
القرآن للمسلمين ليعرفوه ، ويعرفوا أنه السبب
الكامن وراء كل جهود اليهود لزعزعة العقيدة
في نفوسهم ؛ وردهم بعد ذلك إلى الكفر الذي
كانوا فيه ، والذي أنقدهم الله منه بالإيمان ،
وخصهم بهذا بأعظم الفضل وأجل النعمة التي
تحسدهم عليها يهود
!
وهنا
- في اللحظة التي تتجلى فيها هذه الحقيقة ،
وتنكشف فيها النية السيئة والحسد اللئيم - هنا
يدعو القرآن المؤمنين إلى الارتفاع عن مقابلة
الحقد بالحقد ، والشر بالشر ، ويدعوهم إلى
الصفح والعفو حتى يأتي الله بأمره ، وقتما
يريد:
فاعفوا
واصفحوا حتى يأتي الله بأمره . إن الله على كل
شيء قدير
. .
وامضوا
في طريقكم التي اختارها الله لكم ، واعبدوا
ربكم وادخروا عنده حسناتكم:
وأقيموا
الصلاة وآتوا الزكاة ، وما تقدموا لأنفسكم من
خير تجدوه عند الله . إن الله بما تعملون بصير
. .
وهكذا
. . يوقظ السياق القرآني وعي الجماعة المسلمة
ويركزه على مصدر الخطر ، ومكمن الدسيسة ؛
ويعبىء مشاعر المسليمن تجاه النوايا السيئة
والكيد اللئيم والحسد الذميم . . ثم يأخذهم
بهذه الطاقة المعبأة المشحونة كلها إلى جناب
الله ؛ ينتظرون أمره ، ويعلقون تصرفهم بإذنه .
. وإلى أن يحين هذا الأمر يدعوهم إلى العفو
والسماحة ، لينقذ قلوبهم من نتن الحقد
والضغينة . ويدعها طيبة في انتظار الأمر من
صاحب الأمر والمشيئة
. .
الدرس
الثاني 111 - 113 تفنيد دعاوي أهل الكتاب في أنهم
المهتدون وحدهم
ثم يمضي في تفنيد دعاوى أهل الكتاب عامة:اليهود
والنصارى ، وقولهم:إنهم هم المهتدون وحدهم !
وإن الجنة وقف عليهم لا يدخلها سواهم ! على حين
يجبه كل فريق منهم الآخر بأنهم ليسوا على شيء !
ويقرر في ثنايا عرض هذه الدعاوى العريضة
حقيقة الأمر ، ويقول كلمة الفصل في العمل
والجزاء:
وقالوا:لن
يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى . تلك
أمانيهم . قل:هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين .
بلى ! من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند
ربه ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون . وقالت
اليهود:ليست النصارى على شيء ، وقالت النصارى:ليست
اليهود على شيء - وهم يتلون الكتاب - كذلك قال
الذين لا يعلمون مثل قولهم . فالله يحكم بينهم
يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون
. .
والذين
كانوا يواجهون المسلمين في المدينة كانوا هم
اليهود ؛ إذ لم تكن هناك كتلة من النصارى تقف
مواقف اليهود . ولكن النص هنا عام يواجه
مقولات هؤلاء وهؤلاء . ثم يجبه هؤلاء بهؤلاء !
ويحكي رأي المشركين في الطائفتين جميعا
!
وقالوا:لن
يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى
. .
وهذه
حكاية قوليهم مزدوجة . وإلا فقد كانت اليهود
تقول:لن يدخل الجنة إلا من كان هودا - أي من
يهود - وكانت النصارى تقول:لن يدخل الجنة إلا
من كان من النصارى
. .
وهذه
القولة كتلك ، لا تستند إلى دليل ، سوى
الادعاء العريض ! ومن ثم يلقن الله رسوله
[ ص ] أن يجبههم
بالتحدي وأن يطالبهم بالدليل:
قل:هاتوا
برهانكم إن كنتم صادقين
. .
وهنا
يقرر قاعدة من قواعد التصور الإسلامي في
ترتيب الجزاء على العمل بلا محاباة لأمة ولا
لطائفة ولا لفرد . إنما هو الإسلام والإحسان ،
لا الاسم والعنوان:
بلى
من أسلم وجهه لله وهو محسن ، فله أجره عند ربه
، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
. .
ومن
قبل قرر هذه القاعدة في العقاب ردا على قولهم:
لن تمسنا النار إلا أياما معدودة
. . فقال: بلى !
من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب
النار هم فيها خالدون
. .
إنها
قاعدة واحدة بطرفيها في العقوبة والمثوبة .
طرفيها المتقابلين: من
كسب سيئة وأحاطت به خطيئته
. . فهو حبيس هذه الخطيئة المحيطة ، في معزل
عن كل شيء وعن كل شعور وعن كل وجهة إلا وجهة
الخطيئة . . . و من
أسلم وجهه لله وهو محسن .
. فأخلص ذاته كلها لله ، ووجه مشاعره كلها إليه
، وخلص لله في مقابل خلوص الآخر للخطيئة . .
من أسلم وجهه لله . . هنا تبرز سمة الإسلام الأولى:إسلام
الوجه - والوجه رمز على الكل - ولفظ أسلم يعني
الاستسلام والتسليم . الاستسلام المعنوي
والتسليم العملي . ومع هذا فلا بد من الدليل
الظاهر على هذا الاستسلام:
وهو محسن . . فسمة
الإسلام هي الوحدة بين الشعور والسلوك ، بين
العقيدة والعمل ، بين الإيمان القلبي
والإحسان العملي . . بذلك تستحيل العقيدة
منهجا للحياة كلها ؛ وبذلك تتوحد الشخصية
الإنسانية بكل نشاطها واتجاهاتها ؛ وبذلك
يستحق المؤمن هذا العطاء كله:
فله
أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
. .
الأجر
المضمون لا يضيع عند ربهم . . والأمن الموفور
لا يساوره خوف ، والسرور الفائض لا يمسه حزن . .
وتلك هي القاعدة العامة التي يستوي عندها
الناس جميعا . فلا محسوبية عند الله سبحانه
ولا محاباة !
ولقد
كانوا - يهودا ونصارى - يطلقون تلك الدعوى
العريضة ، بينما يقول كل منهما عن الفريق
الآخر إنه ليس على شيء ؛ وبينما كان المشركون
يجبهون الفريقين بالقولة ذاتها:
وقالت
اليهود ليست النصارى على شيء ، وقالت النصارى
ليست اليهود على شيء - وهم يتلون الكتاب - كذلك
قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ، فالله يحكم
بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون
. .
والذين
لا يعلمون هم الأميون العرب الذين لم يكن لهم
كتاب ؛ وكانوا يرون ما عليه اليهود والنصارى
من الفرقة ومن التقاذف بالإتهام ، ومن التمسك
بخرافات وأساطير لا ترتفع كثيرا على خرافات
العرب وأساطيرهم في الشرك ونسبة الأبناء - أو
البنات - لله سبحانه ؛ فكانوا يزهدون في دين
اليهود ودين النصارى ويقولون:إنهم ليسوا على
شيء !
والقرآن
يسجل على الجميع ما يقوله بعضهم في بعض ؛ عقب
تفنيد دعوى اليهود والنصارى في ملكية الجنة !
ثم يدع أمر الخلاف بينهم إلى الله:
فالله
يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه
يختلفون
.
فهو
الحكم العدل ، وإليه تصير الأمور . . وهذه
الإحالة إلى حكم الله هي وحدها المجدية في
مواجهة قوم لا يستمدون من منطق ، ولا يعتمدون
على دليل ، بعد دحض دعواهم العريضة في أنهم
وحدهم أهل الجنة ، وأنهم وحدهم المهديون
!
الدرس
الثالث:114 - 115 سعي الكفار للتشكيك في صحة
الأوامر النبوية
ثم يعود إلى ترذيل محاولتهم تشكيك
المسلمين في صحة الأوامر والتبليغات النبوية
- وبخاصة ما يتعلق منها بتحويل القبلة - ويعدها
سعيا في منع ذكر الله في مساجده ، وعملا على
خرابها:
ومن
أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه
وسعى في خرابها ؟ أولئك ما كان لهم أن يدخلوها
إلا خائفين . لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة
عذاب عظيم . ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا
فثم وجه الله ، إن الله واسع عليم
. .
وأقرب
ما يتوارد إلى الخاطر أن هاتين الآيتين
تتعلقان بمسألة تحويل القبلة ؛ وسعي اليهود
لصد المسلمين عن التوجه إلى الكعبة . . أول بيت
وضع للناس وأول قبلة . . وهناك روايات متعددة
عن أسباب نزولهما غير هذا الوجه
. . وعلى أية حال فإن
إطلاق النص يوحي بأنه حكم عام في منع مساجد
الله أن يذكر فيها اسمه ، والسعي في خرابها .
كذلك الحكم الذي يرتبه على هذه الفعلة ، ويقرر
أنه هو وحده الذي يليق أن يكون جزاء لفاعليها .
وهو قوله:
أولئك
ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين
. .
أي
أنهم يستحقون الدفع والمطاردة والحرمان من
الأمن ، إلا أن يلجأوا إلى بيوت الله مستجيرين
محتمين بحرمتها مستأمنين وذلك كالذي ]
حدث في عام الفتح بعد ذلك إذ نادى منادي
رسول الله [ ص ]
يوم الفتح:من دخل المسجد الحرام فهو آمن
. . فلجأ إليها المستأمنون من جبابرة قريش
، بعد أن كانوا هم الذي يصدون رسول الله
[ ص ] ومن معه
ويمنعونهم زيارة المسجد الحرام !
[ . ويزيد على هذا الحكم ما يتوعدهم به من
خزي في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة:
لهم
في الدنيا خزي ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم
. .
وهناك
تفسير آخر لقوله: أولئك
ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين
. . أي أنه ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا
مساجد الله إلا في خوف من الله وخشوع لجلالته
في بيوته . فهذا هو الأدب اللائق ببيوت الله ،
المناسب لمهابته وجلاله العظيم . . وهو وجه من
التأويل جائز في هذا
المقام
.
والذي
يجعلنا نرجح أن الآيتين نزلتا في مناسبة
تحويل القبلة ، هو الآية الثانية منهما:
ولله
المشرق والمغرب ، فأينما تولوا فثم وجه الله ،
إن الله واسع عليم
.
فهي
توحي بأنها جاءت ردا على تضليل اليهود في
ادعائهم إن صلاة المسلمين إذن إلى بيت المقدس
كانت باطلة ، وضائعة ولا حساب لها عند الله !
والآية ترد عليهم هذا الزعم ، وهي تقرر أن كل
اتجاه قبلة ، فثم وجه الله حيثما توجه إليه
عابد . وإنما تخصيص قبلة معينة هو توجيه من عند
الله فيه طاعة ، لا أن وجه الله - سبحانه - في
جهة دون جهة . والله لا يضيق على عباده ، ولا
ينقصهم ثوابهم ، وهو عليم بقلوبهم ونياتهم
ودوافع اتجاهاتهم . وفي الأمر سعة . والنية لله
إن الله واسع عليم
.
. .
الدرس
الرابع:116 - 118:بيان كفر أهل الكتاب والمشركين
وضلال تصورهم لحقيقة الألوهية
بعد ذلك يستعرض السياق ضلال تصورهم
لحقيقة الألوهية ، وانحرافهم عن التوحيد الذي
هو قاعدة دين الله ، وأساس التصور الصحيح في
كل رسالة . ويقرن تصورهم المنحرف إلى تصورات
الجاهلية عن ذات الله - سبحانه - وصفاته . ويقرر
التشابه بين قلوب المشركين من العرب وقلوب
المشركين من أهل الكتاب ، ويصحح للجميع
انحرافهم إلى الشرك ، ويوضح لهم قاعدة التصور
الإيماني الصحيح:
وقالوا:اتخذ
الله ولدا . سبحانه ! بل له ما في السماوات
والأرض ، كل له قانتون . بديع السماوات والأرض
، وإذا قضى أمرا فإنما يقول له:كن . فيكون .
وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو
تأتينا آية . كذلك قال الذين من قبلهم مثل
قولهم . تشابهت قلوبهم . قد بينا الآيات لقوم
يوقنون
. .
وهذه
المقولة الفاسدة: اتخذ
الله ولدا . . ليست
مقولة النصارى وحدهم في المسيح ، فهي كذلك
مقولة اليهود في العزير . كما كانت مقولة
المشركين في الملائكة . ولم تفصل الآية هنا
هذه المقولات ، لأن السياق سياق إجمال للفرق
الثلاث التي كانت تناهض الإسلام يومئذ في
الجزيرة - ومن عجب أنها لا تزال هي التي تناهضه
اليوم تماما ، ممثلة في الصهيونية العالمية
والصليبية العالمية ، والشيوعية العالمية ،
وهي أشد كفرا من المشركين في ذلك الحين ! - ومن
هذا الإدماج تسقط دعوى اليهود والنصارى في
أنهم وحدهم المهتدون ؛ وها هم أولاء يستوون مع
المشركين !
وقبل
أن يمضي إلى الجوانب الفاسدة الأخرى من
تصورهم لشأن الله - سبحانه - يبادر بتنزيه الله
عن هذا التصور ، وبيان حقيقة الصلة بينه وبين
خلقه جميعا:
سبحانه
! بل له ما في السماوات والأرض ، كل له قانتون .
بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما
يقول له كن . فيكون . .
هنا
نصل إلى فكرة الإسلام التجريدية الكاملة عن
الله سبحانه ، وعن نوع العلاقة بين الخالق
وخلقه ، وعن طريقة صدور الخلق عن الخالق ، وهي
أرفع وأوضح تصور عن هذه الحقائق جميعا . . لقد
صدر الكون عن خالقه ، عن طريق توجه الإرادة
المطلقة القادرة: كن
، فيكون . . فتوجه
الإرادة إلى خلق كائن ما كفيل وحده بوجود هذا
الكائن ، على الصورة المقدرة له ، بدون وسيط
من قوة أو مادة . . أما كيف تتصل هذه الإرادة
التي لا نعرف كنهها ، بذلك الكائن المراد
صدوره عنها ، فذلك هو السر الذي لم يكشف
للإدراك البشري عنه ، لأن الطاقة البشرية غير
مهيأة لإدراكه . وهي غير مهيأة لإدراكه لأنه
لا يلزمها في وظيفتها التي خلقت لها وهي خلافة
الأرض وعمارتها . . وبقدر ما وهب الله للإنسان
من القدرة على كشف قوانين الكون التي تفيده في
مهمته ، وسخر له الانتفاع بها ، بقدر ما زوى
عنه الأسرار الأخرى التي لا علاقة لها
بخلافته الكبرى . . ولقد ضربت الفلسفات في تيه
لا منارة فيه ، وهي تحاول كشف هذه الأسرار ؛
وتفترض فروضا تنبع من الإدراك البشري الذي لم
يهيأ لهذا المجال ، ولم يزود أصلا بأدوات
المعرفة فيه والارتياد . فتجيء هذه الفروض
مضحكة في أرفع مستوياتها . مضحكة إلى حد يحير
الإنسان:كيف يصدر هذا عن "فيلسوف" ! وما
ذلك إلا لأن أصحاب هذه الفلسفات حاولوا أن
يخرجوا بالإدراك البشري عن طبيعة خلقته ، وأن
يتجاوزوا به نطاقه المقدور له ! فلم ينتهوا
إلى شيء يطمأن إليه ؛ بل لم يصلوا إلى شيء يمكن
أن يحترمه من يرى التصور الإسلامي ويعيش في
ظله . وعصم الإسلام أهله المؤمنين بحقيقته أن
يضربوا في هذا التيه بلا دليل ، وأن يحاولوا
هذه المحاولة الفاشلة ، الخاطئة المنهج
ابتداء . فلما أن أراد بعض متفلسفتهم متأثرين
بأصداء الفلسفة الإغريقية - على وجه خاص - أن
يتطاولوا إلى ذلك المرتقى ، باءوا بالتعقيد
والتخليط ، كما باء أساتذتهم الإغريق ! ودسوا
في التفكير الإسلامي ما ليس من طبيعته ، وفي
التصور الإسلامي ما ليس من حقيقته . . وذلك هو
المصير المحتوم لكل محاولة العقل البشري وراء
مجاله ، وفوق طبيعة خلقته وتكوينه
. .
والنظرية
الإسلامية:أن الخلق غير الخالق . وأن الخالق
ليس كمثله شيء . . ومن هنا تنتفي من التصور
الإسلامي فكرة:"وحدة الوجود" على ما
يفهمه غير المسلم من هذا الاصطلاح - أي بمعنى
أن الوجود وخالقه وحدة واحدة - أو أن الوجود
إشعاع ذاتي للخالق ، أو أن الوجود هو الصورة
المرئية لموجده . . أو على أي نحو من أنحاء
التصور على هذا الأساس . . والوجود وحدة في نظر
المسلم على معنى آخر:وحدة صدوره عن الإرادة
الواحدة الخالقة ، ووحدة ناموسه الذي يسير به
، ووحدة تكوينه وتناسقه واتجاهه إلى ربه في
عبادة وخشوع:
بل
له ما في السماوات والأرض كل له قانتون
. .
فلا
ضرورة لتصور أن له من بين ما في السماوات
والأرض ولدا . . فالكل من خلقه بدرجة واحدة ،
وبأداة واحدة:
بديع
السماوات والأرض . وإذا قضى أمرا فإنما يقول
له:كن فيكون
. .
وتوجه
الإرادة يتم بكيفية غير معلومة للإدراك
البشري ، لأنها فوق طاقة الإدراك البشري . فمن
العبث إنفاق الطاقة في اكتناه هذا السر ،
والخبط في التيه بلا دليل
!
وإذ
ينتهي من عرض مقولة أهل الكتاب في ادعاء الولد
لله - سبحانه - وتصحيح هذه المقولة وردها ،
يتبعها بمقولة للمشركين فيها من سوء التصور
ما يتسق مع سوء التصور عن أهل الكتاب:
وقال
الذين لا يعلمون:لولا يكلمنا الله أو تأتينا
آية ! كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم
.
والذين
لا يعلمون هم الأميون الذين كانوا مشركين ؛ إذ
لم يكن لديهم علم من كتاب . وكثيرا ما تحدوا
النبي [ ص ] أن يكلمهم الله أو أن تأتيهم خارقة
من الخوارق المادية . . وذكر هذه المقولة هنا
مقصود لبيان أن الذين من قبلهم - وهم اليهود
وغيرهم - طلبوا مثل هذا من أنبيائهم
. فلقد طلب قوم موسى أن يروا الله جهرة ،
وطلبوا وتعنتوا في طلب الخوارق المعجزة . فبين
هؤلاء وهؤلاء شبه في الطبيعة ، وشبه في التصور
، وشبه في الضلال:
تشابهت
قلوبهم
. .
فلا
فضل لليهود على المشركين . وهم متشابهو القلوب
في التصور والعنت والضلال:
قد
بينا الآيات لقوم يوقنون
. .
والذي
يجد راحة اليقين في قلبه يجد في الآيات مصداق
يقينه ، ويجد فيها طمأنينة ضميره . فالآيات لا
تنشىء اليقين ، إنما اليقين هو الذي يدرك
دلالتها ويطمئن إلى حقيقتها . ويهيء القلوب
للتلقي الواصل الصحيح
.
الدرس
الخامس:119 - 121 وظيفة الرسول وطبيعة خلافه مع
اليهود
وإذا انتهت مقولاتهم ، وفندت أباطيلهم ،
وكشفت الدوافع الكامنة وراء أضاليلهم ، يتجه
الخطاب إلى رسول الله [
ص ] يبين له وظيفته ،
ويحدد له تبعاته ، ويكشف له عن حقيقة المعركة
بينه وبين اليهود والنصارى ، وطبيعة الخلاف
الذي لا حل له إلا بثمن لا يملكه ولا يستطيعه !
ولو أداه لتعرض لغضب الله مولاه ؛ وحاشاه
!
إنا
أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ، ولا تسأل عن
أصحاب الجحيم . ولن ترضى عنك اليهود ولا
النصارى حتى تتبع ملتهم . قل:إن هدى الله هو
الهدى ، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من
العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير . الذين
آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته . أولئك
يؤمنون به . ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون
. .
إنا
أرسلناك بالحق . .
وهي كلمة فيها من التثبيت ما يقضي على شبهات
المضللين ، ومحاولات الكائدين ، وتلبيس
الملفقين . وفي جرسها صرامة توحي بالجزم
واليقين .
بشيرا
ونذيرا . . وظيفتك
البلاغ والأداء ، تبشر الطائعين وتنذر العصاة
، فينتهي دورك .
ولا
تسأل عن أصحاب الجحيم .
. الذي يدخلون الجحيم بمعصيتهم ، وتبعتهم على
أنفسهم .
وسيظل
اليهود والنصارى يحاربونك ، ويكيدون لك ، ولا
يسالمونك ولا يرضون عنك ، إلا أن تحيد عن هذا
الأمر ، وإلا أن تترك هذا الحق ، وإلا أن تتخلى
عن هذا اليقين ، تتخلى عنه إلى ما هم فيه من
ضلال وشرك وسوء تصور كالذي سبق بيانه منذ قليل:
ولن ترضى عنك اليهود
ولا النصارى حتى تتبع ملتهم
. .
فتلك
هي العلة الأصيلة . ليس الذي ينقصهم هو
البرهان ؛ وليس الذي ينقصهم هو الاقتناع بأنك
على الحق ، وأن الذي جاءك من ربك الحق . ولو
قدمت إليهم ما قدمت ، ولو توددت إليهم ما
توددت . . لن يرضيهم من هذا كله شيء ، إلا أن
تتبع ملتهم وتترك ما معك من الحق
.
إنها
العقدة الدائمة التي نرى مصداقها في كل زمان
ومكان . . إنها هي العقيدة . هذه حقيقة المعركة
التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل
وقت ضد الجماعة المسلمة . . إنها معركة العقيدة
هي المشبوبة بين المعسكر الإسلامي وهذين
المعسكرين اللذين قد يتخاصمان فيما بينهما ؛
وقد تتخاصم شيع الملة الواحدة فيما بينها ،
ولكنها تلتقي دائما في المعركة ضد الإسلام
والمسلمين !
إنها
معركة العقيدة في صميمها وحقيقتها . ولكن
المعسكرين العريقين في العداوة للإسلام
والمسلمين يلونانها بألوان شتى ، ويرفعان
عليها اعلاما شتى ، في خبث ومكر وتورية . إنهم
قد جربوا حماسة المسلمين لدينهم وعقيدتهم حين
واجهوهم تحت راية العقيدة . ومن ثم استدار
الأعداء العريقون فغيروا اعلام المعركة . . لم
يعلنوها حربا باسم العقيدة - على حقيقتها -
خوفا من حماسة العقيدة وجيشانها . إنما
أعلنوها باسم الأرض ، والاقتصاد ، والسياسة ،
والمراكز العسكرية . . وما إليها . وألقوا في
روع المخدوعين الغافلين منا أن حكاية العقيدة
قد صارت حكاية قديمة لا معنى لها ! ولا يجوز
رفع رايتها ، وخوض المعركة باسمها . فهذه سمة
المتخلفين المتعصبين ! ذلك كي يأمنوا جيشان
العقيدة وحماستها . . بينما هم في قرارة نفوسهم:الصهيونية
العالمية والصليبية العالمية - بإضافة
الشيوعية العالمية - جميعا يخوضون المعركة
أولا وقبل كل شيء لتحطيم هذه الصخرة العاتية
التي نطحوها طويلا ، فأدمتهم جميعا
!!!
إنها
معركة العقيدة . إنها ليست معركة الأرض . ولا
الغلة . ولا المراكز العسكرية . ولا هذه
الرايات المزيفة كلها . إنهم يزيفونها علينا
لغرض في نفوسهم دفين . ليخدعونا عن حقيقة
المعركة وطبيعتها ، فإذا نحن خدعنا بخديعتهم
لنا فلا نلومن إلا أنفسنا . ونحن نبعد عن توجيه
الله لنبيه [ ص ]
ولأمته ، وهو - سبحانه - أصدق القائلين:
ولن
ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم
. .
فذلك
هو الثمن الوحيد الذي يرتضونه . وما سواه
فمرفوض ومردود !
ولكن
الأمر الحازم ، والتوجيه الصادق:
قل:إن
هدى الله هو الهدى
. .
على
سبيل القصر والحصر . هدى الله هو الهدى . وما
عداه ليس بهدى . فلا براح منه ، ولا فكاك عنه ،
ولا محاولة فيه ، ولا ترضية على حسابه ، ولا
مساومة في شيء منه قليل أو كثير ، ومن شاء
فليؤمن ، ومن شاء فليكفر . وحذار أن تميل بك
الرغبة في هدايتهم وإيمانهم ، أو صداقتهم
ومودتهم عن هذا الصراط الدقيق
.
ولئن
اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك
من الله من ولي ولا نصير
. .
بهذا
التهديد المفزع ، وبهذا القطع الجازم ، وبهذا
الوعيد الرعيب . . ولمن ؟ لنبي الله ورسوله
وحبيبه الكريم !
إنها
الأهواء . . إن أنت ملت عن الهدى . . هدى الله
الذي لا هدى سواه . . وهي الأهواء التي تقفهم
منك هذا الموقف ؛ وليس نقص الحجة ولا ضعف
الدليل . والذين يتجردون منهم
من الهوى يتلون كتابهم حق تلاوته ، ومن ثم
يؤمنون بالحق الذي معك ؛ فأما الذين يكفرون به
فهم الخاسرون ، لا أنت ولا المؤمنون
!
الذين
آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته . أولئك
يؤمنون به . ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون
. .
وأي
خسارة بعد خسارة الإيمان ، أعظم آلاء الله على
الناس في هذا الوجود ؟
الدرس
السادس:122 - 123 تحذير وتذكير ختامي لليهود
وبعد هذا التقرير الحاسم الجازم ينتقل
السياق بالخطاب إلى بني إسرائيل . كأنما ليهتف
بهم الهتاف الأخير ، بعد هذه المجابهة وهذ
الجدل الطويل ، وبعد استعراض تاريخهم مع ربهم
ومع أنبيائهم ، وبعد الالتفات عنهم إلى خطاب
النبي [ ص ]
وخطاب المؤمنين . . هنا يجيء الالتفات
إليهم كأنه الدعوة الأخيرة ، وهم على أبواب
الإهمال والإغفال والتجريد النهائي من شرف
الأمانة . . أمانة العقيدة . . التي نيطت بهم من
قديم . . وهنا يكرر لهم الدعوة ذاتها التي
وجهها إليهم في أول الجولة .
. يا بني إسرائيل
. .
يا
بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ،
وأني فضلتكم على العالمين . واتقوا يوما لا
تجزي نفس عن نفس شيئا ، ولا يقبل منها عدل ،
ولا تنفعها شفاعة ، ولا هم ينصرون
. .