يسرا إبراهيم
09-08-2009, 01:32 AM
إياكم وجلد الذات
د/ محمد حبيب
فأحياناً ما يحدث للفرد والجماعة إذا فاتها نصر أو فشلت فى تحقيق إنجاز أو لم تستطع إحراز تقدم فى معركة ما، سرعان ما يقع بعض الأفراد فريسة للأحزان والأوجاع ونهباً للوساوس والأوهام، وقد يذهب بعضهم بعيداً فيجلدون ذواتهم بقسوة وعنف ومنهم من ينتابه شك فى فكرته أو منهاجه أو وسائله، ولو أنهم عادوا إلى مصدر عزتهم وهدايتهم ونهضتهم، أقصد بذلك القرآن والسنة النبوية المطهرة والسيرة العطرة، لوجدوا ما يزيل الالتباس ويكشف الغموض ويضع القواعد الصحيحة للتعامل مع الحدث بما يرأب الصدع ويلملم الجراح ويعيد للفرد والجماعة المؤمنة تماسكها وترابطها وقوتها وعافيتها، وبالتالى قدرتها على استعادة نشاطها واستئناف مسيرتها.
إننا كثيراً ما نقع أسرى لهمومنا وجراحنا، وننسى أن لخصومنا وأعدائنا هموماً وجراحاً ربما تكون أشد وطأة عليهم من همومنا وأكثر إيلاماً لنفوسهم من جراحنا .. هذا هو المعنى الذى أراد المولى سبحانه وتعالى – وهو أعلم بمراده – أن يلفت أنظارنا إليه فى قوله : { وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } (النساء:104)، لكن الفارق بينكم – أيها المؤمنون – وبينهم أنكم موصولون بالله، تحيون فى معيته، تجاهدون فى سبيله، تعملون من أجل عقيدتكم وأمتكم وابتغاء مرضاة ربكم ورجاءً فيما عنده من ثواب، لا من أجل مغنم أرضى أو مأرب ذاتى أو مصلحة شخصية.
إن تصور الإنسان أن الهموم قد لحقت به وحده والجراح قد ألمت به هو دون خصمه أو عدوه يُزيد – بلا شك – من شدة همومه وجراحه وآلامه على نفسه. وقد يُقعده ذلك عن التفكير واستجماع شتات النفس لمواجهة الموقف وآثاره وتداعياته، فضلاً عن الاستمرار فى التصدى للتحديات الأخرى.
الإسلام – إذن – يريد أن يحدث لدينا هذا التوازن النفسى الذى يجعلنا قادرين، ليس فقط على الثبات والصمود، ولكن على مواصلة تحمل أعباء الدعوة، وإذا كان الإنسان مطالباً بألا يتوقف عن السعى المستمر والدائم لتحقيق رسالته وبلوغ أهدافه، فمن الضرورى له أن يستعيد سريعاً قوته النفسية وبناءه العصبى والوجدانى.
فى أُحد بعد أن وقعت الهزيمة بالمسلمين – على إثر معصية الرماة لأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وما حدث بعد ذلك من تلاوم، نزل القرآن الكريم لكى يعيد المسلمين إلى صوابهم ورشدهم وإلى القاعدة الإيمانية التى تربوا عليها والتى تميزهم عن غيرهم حتى لا تختل الموازين أمام أعينهم أو تؤثر الهزيمة فى نفوسهم أو تنال من عزيمتهم: { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران:139)، جاءت الآيات تذكرهم بالحقائق الكبرى والسنن الإلهية التى لا تتبدل ولا تتغير، وهى أن للنصر أسبابه التى يتعين الأخذ بها وللهزيمة أيضاً أسبابها التى يجب تداركها وعدم الوقوع فيها وأن المعارك سجال بين أهل الإيمان والكفر، بين أهل الحق والضلال، وأن الهزيمة حين تقع لا تمثل نهاية المطاف، وإذا كنتم قد هُزمتم اليوم فقد هَزم الله تعالى عدوكم من قبل، وهذا وذاك إنما يحدث للتمحيص والفرز للصف المؤمن، فضلاً عن إصطفاء المولى تعالى لصنف من المؤمنين بالشهادة، وهذا واضح وجلى على مدار التاريخ، القديم والحديث.. يقول الحق جل وعلا: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (آل عمران:140-141).
لا يجب أن يتصور الإنسان إذا ما فاته مغنم، أو وقع عليه ظلم، أو أصابته مصيبة، أو حلّت به كارثة أن ذلك خارج عن قضاء الله وقدره، أو أنه جرى بمنأى عن إرادة الله ومشيئته .. يقول المولى تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحديد:22)، حتى لا يأكلنا الغم، ويفترسنا الهم، أو يدمرنا الكرب .
وعلى المؤمن ألا ينفك أبداً عن الارتباط بالآخرة، والاستعداد ليوم الحساب، يرجو رحمة الله ويخشى عذابه، يتذكر ما أعده الله تعالى للمؤمنين الطائعين من نعيم مقيم، وللعصاة والمذنبين ما يستحقونه من عقاب، وماينتظر الكافرين من عذاب عظيم، كما يجب عليه ألا ينفك فى الوقت ذاته عن أن الحياة الدنيا متاع الغرور، وأنها لعب ولهو، وأنها دار ممر سرعان ما تفنى وتزول، وبالتالى لا يجب أن تنال منا من اهتمام إلا على قدر ما وصفها الله تعالى به .. لماذا ؟ {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (الحديد:23).
جاء فى صفوة التفاسير: قال المفسرون : والمراد بالحزن الحزنُ الذى يوجب القنوط، وبالفرح الفرحُ الذى يورث الأشر والبطر، ولهذا قال ابن عباس: "ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً وغنيمته شكراً"، وقال عمر (رضى الله عنه) " ما أصابتنى مصيبة إلا وجدت فيها ثلاثة نعم: الأولى؛ أنها لم تكن فى دينى، الثانية: أنها لم تكن أعظم مما كانت، الثالثة: أن الله يعطى عليها الثواب العظيم والأجر الكبير".
غنى عن البيان أن الناس يتفاوتون تفاوتاً عظيماً فى طاقاتهم وقدراتهم ومدى تحملهم للمصائب التى تحل بهم، كما أن الأمر يتوقف فى جانب منه على طبيعة المصائب وشدتها، بل وعلى الظروف والسياق والمناخ الذى يمر به الإنسان .. وفى الصدارة يتبوأ الأنبياء والرسل الكرام المكانة العليا فى تحمل أعباء الدعوة والقدرة الفذة على تجاوز الأزمات واستيعاب المشكلات مهماكانت حدتها وصعوبتها وتعقدها وتشابكها، ولذا كان اصطفاء الله تعالى لهم. ونظرة - على سبيل المثال – إلى ما وقع لأبى الأنبياء إبراهيم الخليل - عليه وعلى نبينا أفضل الصلوات وأزكى التسليمات – على يد قومه من إلقائه فى النار، ووحى الله له بذبح ابنه إسماعيل - عليه السلام – وشروعه فى ذلك يعطيك إحساساً فورياً بالطاقة الإيمانية المعجزة التى تحلى بها الخليل عليه السلام، بل والقوة النفسية المبهرة التى تعامل بها مع الأحداث . ولا أكون متجاوزاً إذا قلت إن المرء منا حين يتوقف ويتدبر ويتأمل تلك المشاهد يتزلزل كيانه ويصيبه الهلع والفزع، ويتأكد له أن الطريق طويل وشاق والمرتقى صعب ووعر، ويحتاج إلى همم عالية وإرادة فولاذية صلبة، وهو ما يتطلب إلى إعادة بناء وصياغة وتشكيل للإيمان.
أحياناً كثيرة أقف مشدوها ومذهولاً أمام حادثة الإفك التى واجهها الحبيب المصطفى – صلى الله عليه وسلم – وابتُلى بها المجتمع المسلم آنذاك،وكيف تحمل الرسول (صلى الله عليه وسلم) هذه الظروف العصيبة بكل ثبات وجلد وصلابة وصمود ورباطة جأش. إن الحادثة بتفاصيلها والآلام التى سببتها للحبيب المصطفى ولأم المؤمنين عائشة وللصديق رضى الله عنهما،و للصحابة رضوان الله عليهم توجع القلب، ولمجرد أن يمر عليها الإنسان يصيبه الأسى والحزن والألم.. لكنه حين يصل إلى قوله تعالى : { .. لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ .. } (النور: من الآية11) يثوب إلى رشده ويعود إلى صوابه، ويُفهم من هذا الخطاب أنه موجّه لعموم المؤمنين، وليس للنبى صلى الله عليه وسلم فقط، أو لأم المؤمنين عائشة أو للصديق رضى الله عنهما وحدهما، وفى ذلك إشارة واضحة إلى أن الأذى قد طال الجميع، فضلاً عن أن القضية جاءت بهدف تشريع يضع القواعد الصلبة لصيانة المجتمع المسلم من أى زيغ أو انحراف .
إن حادثة الإفك أُثيرت حول شخصية هى من أحب الناس إلى قلب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وفى بيئة تعرف للشرف مكانته العليا ومنزلته الكبرى .. فى بيئة يتردد فيها قول القائل :
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى .. حتى يراق على جوانبه الدم
ثم هى بالأساس استهدفت الحبيب المصطفى .. النبوة والرسالة .. الزعامة والقيادة .. استهدفت حاضر الأمة ومستقبلها، بل استهدفت البشرية كلها وإلى أن تقوم الساعة، وهو ما يعنى أن المصاب كان فادحا والخطب كان جللا .
د/ محمد حبيب
فأحياناً ما يحدث للفرد والجماعة إذا فاتها نصر أو فشلت فى تحقيق إنجاز أو لم تستطع إحراز تقدم فى معركة ما، سرعان ما يقع بعض الأفراد فريسة للأحزان والأوجاع ونهباً للوساوس والأوهام، وقد يذهب بعضهم بعيداً فيجلدون ذواتهم بقسوة وعنف ومنهم من ينتابه شك فى فكرته أو منهاجه أو وسائله، ولو أنهم عادوا إلى مصدر عزتهم وهدايتهم ونهضتهم، أقصد بذلك القرآن والسنة النبوية المطهرة والسيرة العطرة، لوجدوا ما يزيل الالتباس ويكشف الغموض ويضع القواعد الصحيحة للتعامل مع الحدث بما يرأب الصدع ويلملم الجراح ويعيد للفرد والجماعة المؤمنة تماسكها وترابطها وقوتها وعافيتها، وبالتالى قدرتها على استعادة نشاطها واستئناف مسيرتها.
إننا كثيراً ما نقع أسرى لهمومنا وجراحنا، وننسى أن لخصومنا وأعدائنا هموماً وجراحاً ربما تكون أشد وطأة عليهم من همومنا وأكثر إيلاماً لنفوسهم من جراحنا .. هذا هو المعنى الذى أراد المولى سبحانه وتعالى – وهو أعلم بمراده – أن يلفت أنظارنا إليه فى قوله : { وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } (النساء:104)، لكن الفارق بينكم – أيها المؤمنون – وبينهم أنكم موصولون بالله، تحيون فى معيته، تجاهدون فى سبيله، تعملون من أجل عقيدتكم وأمتكم وابتغاء مرضاة ربكم ورجاءً فيما عنده من ثواب، لا من أجل مغنم أرضى أو مأرب ذاتى أو مصلحة شخصية.
إن تصور الإنسان أن الهموم قد لحقت به وحده والجراح قد ألمت به هو دون خصمه أو عدوه يُزيد – بلا شك – من شدة همومه وجراحه وآلامه على نفسه. وقد يُقعده ذلك عن التفكير واستجماع شتات النفس لمواجهة الموقف وآثاره وتداعياته، فضلاً عن الاستمرار فى التصدى للتحديات الأخرى.
الإسلام – إذن – يريد أن يحدث لدينا هذا التوازن النفسى الذى يجعلنا قادرين، ليس فقط على الثبات والصمود، ولكن على مواصلة تحمل أعباء الدعوة، وإذا كان الإنسان مطالباً بألا يتوقف عن السعى المستمر والدائم لتحقيق رسالته وبلوغ أهدافه، فمن الضرورى له أن يستعيد سريعاً قوته النفسية وبناءه العصبى والوجدانى.
فى أُحد بعد أن وقعت الهزيمة بالمسلمين – على إثر معصية الرماة لأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وما حدث بعد ذلك من تلاوم، نزل القرآن الكريم لكى يعيد المسلمين إلى صوابهم ورشدهم وإلى القاعدة الإيمانية التى تربوا عليها والتى تميزهم عن غيرهم حتى لا تختل الموازين أمام أعينهم أو تؤثر الهزيمة فى نفوسهم أو تنال من عزيمتهم: { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران:139)، جاءت الآيات تذكرهم بالحقائق الكبرى والسنن الإلهية التى لا تتبدل ولا تتغير، وهى أن للنصر أسبابه التى يتعين الأخذ بها وللهزيمة أيضاً أسبابها التى يجب تداركها وعدم الوقوع فيها وأن المعارك سجال بين أهل الإيمان والكفر، بين أهل الحق والضلال، وأن الهزيمة حين تقع لا تمثل نهاية المطاف، وإذا كنتم قد هُزمتم اليوم فقد هَزم الله تعالى عدوكم من قبل، وهذا وذاك إنما يحدث للتمحيص والفرز للصف المؤمن، فضلاً عن إصطفاء المولى تعالى لصنف من المؤمنين بالشهادة، وهذا واضح وجلى على مدار التاريخ، القديم والحديث.. يقول الحق جل وعلا: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (آل عمران:140-141).
لا يجب أن يتصور الإنسان إذا ما فاته مغنم، أو وقع عليه ظلم، أو أصابته مصيبة، أو حلّت به كارثة أن ذلك خارج عن قضاء الله وقدره، أو أنه جرى بمنأى عن إرادة الله ومشيئته .. يقول المولى تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحديد:22)، حتى لا يأكلنا الغم، ويفترسنا الهم، أو يدمرنا الكرب .
وعلى المؤمن ألا ينفك أبداً عن الارتباط بالآخرة، والاستعداد ليوم الحساب، يرجو رحمة الله ويخشى عذابه، يتذكر ما أعده الله تعالى للمؤمنين الطائعين من نعيم مقيم، وللعصاة والمذنبين ما يستحقونه من عقاب، وماينتظر الكافرين من عذاب عظيم، كما يجب عليه ألا ينفك فى الوقت ذاته عن أن الحياة الدنيا متاع الغرور، وأنها لعب ولهو، وأنها دار ممر سرعان ما تفنى وتزول، وبالتالى لا يجب أن تنال منا من اهتمام إلا على قدر ما وصفها الله تعالى به .. لماذا ؟ {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (الحديد:23).
جاء فى صفوة التفاسير: قال المفسرون : والمراد بالحزن الحزنُ الذى يوجب القنوط، وبالفرح الفرحُ الذى يورث الأشر والبطر، ولهذا قال ابن عباس: "ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً وغنيمته شكراً"، وقال عمر (رضى الله عنه) " ما أصابتنى مصيبة إلا وجدت فيها ثلاثة نعم: الأولى؛ أنها لم تكن فى دينى، الثانية: أنها لم تكن أعظم مما كانت، الثالثة: أن الله يعطى عليها الثواب العظيم والأجر الكبير".
غنى عن البيان أن الناس يتفاوتون تفاوتاً عظيماً فى طاقاتهم وقدراتهم ومدى تحملهم للمصائب التى تحل بهم، كما أن الأمر يتوقف فى جانب منه على طبيعة المصائب وشدتها، بل وعلى الظروف والسياق والمناخ الذى يمر به الإنسان .. وفى الصدارة يتبوأ الأنبياء والرسل الكرام المكانة العليا فى تحمل أعباء الدعوة والقدرة الفذة على تجاوز الأزمات واستيعاب المشكلات مهماكانت حدتها وصعوبتها وتعقدها وتشابكها، ولذا كان اصطفاء الله تعالى لهم. ونظرة - على سبيل المثال – إلى ما وقع لأبى الأنبياء إبراهيم الخليل - عليه وعلى نبينا أفضل الصلوات وأزكى التسليمات – على يد قومه من إلقائه فى النار، ووحى الله له بذبح ابنه إسماعيل - عليه السلام – وشروعه فى ذلك يعطيك إحساساً فورياً بالطاقة الإيمانية المعجزة التى تحلى بها الخليل عليه السلام، بل والقوة النفسية المبهرة التى تعامل بها مع الأحداث . ولا أكون متجاوزاً إذا قلت إن المرء منا حين يتوقف ويتدبر ويتأمل تلك المشاهد يتزلزل كيانه ويصيبه الهلع والفزع، ويتأكد له أن الطريق طويل وشاق والمرتقى صعب ووعر، ويحتاج إلى همم عالية وإرادة فولاذية صلبة، وهو ما يتطلب إلى إعادة بناء وصياغة وتشكيل للإيمان.
أحياناً كثيرة أقف مشدوها ومذهولاً أمام حادثة الإفك التى واجهها الحبيب المصطفى – صلى الله عليه وسلم – وابتُلى بها المجتمع المسلم آنذاك،وكيف تحمل الرسول (صلى الله عليه وسلم) هذه الظروف العصيبة بكل ثبات وجلد وصلابة وصمود ورباطة جأش. إن الحادثة بتفاصيلها والآلام التى سببتها للحبيب المصطفى ولأم المؤمنين عائشة وللصديق رضى الله عنهما،و للصحابة رضوان الله عليهم توجع القلب، ولمجرد أن يمر عليها الإنسان يصيبه الأسى والحزن والألم.. لكنه حين يصل إلى قوله تعالى : { .. لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ .. } (النور: من الآية11) يثوب إلى رشده ويعود إلى صوابه، ويُفهم من هذا الخطاب أنه موجّه لعموم المؤمنين، وليس للنبى صلى الله عليه وسلم فقط، أو لأم المؤمنين عائشة أو للصديق رضى الله عنهما وحدهما، وفى ذلك إشارة واضحة إلى أن الأذى قد طال الجميع، فضلاً عن أن القضية جاءت بهدف تشريع يضع القواعد الصلبة لصيانة المجتمع المسلم من أى زيغ أو انحراف .
إن حادثة الإفك أُثيرت حول شخصية هى من أحب الناس إلى قلب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وفى بيئة تعرف للشرف مكانته العليا ومنزلته الكبرى .. فى بيئة يتردد فيها قول القائل :
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى .. حتى يراق على جوانبه الدم
ثم هى بالأساس استهدفت الحبيب المصطفى .. النبوة والرسالة .. الزعامة والقيادة .. استهدفت حاضر الأمة ومستقبلها، بل استهدفت البشرية كلها وإلى أن تقوم الساعة، وهو ما يعنى أن المصاب كان فادحا والخطب كان جللا .