المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دروس عظيمة في الإدارة من مملكة النحل و من العنكبوت


ايمان حسن
05-16-2009, 09:19 PM
دروس عظيمة في الإدارة من العنكبوت: منظمة الصراع والدمار
دروس عظيمة في الإدارة من العنكبوت:
منظمة الصراع والدمار
أ. د. محمد المحمدي الماضي
www.almohamady.com
لاشك أن أهم ما يمكن أن يميز أية منظمة هو مقدار ما تتمتع به من توافق تنظيمي واستقرار، وتوجه نحو هدف واضح يدعم هذا الاستقرار والنمو، بما يساعد أفرادها على أداء هدف واضح ونافع للمجتمع الذي تعيش فيه، ودرس اليوم نتلمسه من سورة عظيمة من سور القرآن سميت سورة العنكبوت؛ تلك الحشرة التي لا يكاد يعلم بها أحد أو يأبه لها، وإن حدث فمن باب النفور والاشمئزاز والعمل على إزالتها والتخلص منها أو من آثارها التي تبدو كئيبة، لكن حينما يفرد القرآن سورة باسمها ويوردها في عداد الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون، فإن ذلك يحتاج منا، ولو إلى وقفة متأنية للغوص في مياهها العميقة والبحث عن اللؤلؤ والجواهر من دروس الإدارة العظيمة عسي أن نخرج منها بما يدعم بالفائدة العاملين في حقل الإدارة سواء كانوا ممارسين أو أكاديميين.

1- السياق الذي وردت فيه:
بداية حينما نريد تفهم تلك الدروس علينا أن نضع الأمر في نصابه وسياقه الطبيعي كما ورد في القرآن حيث جاءت الآية الوحيدة في السورة والتي ذكر فيها اسم العنكبوت، بعد سرد مركز لقصص بعض الأقوام السابقة كعاد وثمود، وفرعون ولوط... وما أصابهم نتيجة لكفرهم.
وتمرد هم على خالقهم، واتخاذهم أولياء من دون الله، وكيف كانت نهايتهم المؤلمة من الدمار والهلاك الذي لم يتخلف عنه أحد حيث تلخص السورة كل ذلك في قوله:
"فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من أغرقنا ، وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " العنكبوت:40

ثم اقرأ بعد ذلك مثلهم في الآية التالية:
"مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت، لو كاونوا يعلمون" العنكبوت:41

"إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء، وهو العزيز الحكيم" العنكبوت:42
"وتلك الأمثال مضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" العنكبوت:43

2- جوانب من الإعجاز العلمي:
انظر إلى الآية الأخيرة ؛ كيف يلفت المولى عز وجل نظرنا أن تلك الأمثال ليست هينة، بل تحتاج إلى تفكر وتدبر وتعقل، ولا يستطيع تدبرها ولا تعقلها إلا العالمون.
وكلمة عالمين هنا من الكلمات المعجزة في القرآن، حيث لا يمكن إدراك مغزي المثال المضروب من جميع جوانبه إلا لمن أحاط علماً بحياة وسلوك تلك الحشرة وقام على دراستها، ولاشك أن ذلك يحتاج إلى دراسة متخصصة لها أدواتها ومعاملها وعلمائها، وهو ما لم يتوافر إلا في زمن قريب لا يتعدى القرن العشرين، حيث ظهرت في كليات العلوم أقسام علمية متخصصة في علم الحشرات أخذت تهتم وتدرس عن قريب حياة وسلوك الحشرات مستعينة بالتقنية الحديثة، ومنها حشرة العنكبوت التي نحن بصددها الآن ومن نتائج هذه الدراسة المفيدة أن تكشفت أمور لم تكن معروفة من قبل للسابقين تفيد جداً في فهم المثال المضروب وتكمل مراميه إلى درجة مذهلة، منها:
• الإشارة إلى تاء التأنيث هنا في اتخذت بيتاً حيث لم يعرف إلا حديثاً أن الأنثى هى التي تقوم ببناء البيت وتستدعي ذكر العنكبوت.
• أنها بعد أن تنسج خيوط البيت وتستدعي الذكر ليقوم باستكمال متطلبات عملية التناسل وينهي مهمته تقوم بقتله.
وتنتهي العلاقة بهذا الشكل الدموي المؤلم.
ولعل اكتشاف هذين الأمرين من سلوك العنكبوت يوضح إلى درجة بعيدة أوجه عظيمة للإعجاز العلمي المتجدد للقرآن الكريم ومدى دقته وأنه من لدن الخلاق العليم، ويبقى أن نتأمل إلى مزيد من الإعجاز والدروس العظيمة في جوانب أخرى كالإدارة...

3- معنى المنظمة:
بداية وحتى نتفهم الانعكاسات الإدارية للموضوع علينا أن نتفق على المعنى الذي نقصده للمنظمة طبقاً لما هو متعارف عليه في العلوم الإدارية حيث يقصد به بإيجاز: "فردان فأكثر، يعملون معاً لتحقيق هدف واحد مشترك"
ومن هنا فإن المنظمة أياً كان نوعها تبدأ من فردين حتى وإن كان ذكر وأنثى، ونحن نعتبر أن آدم وحواء عليهما السلام يمثلان أول منظمة ظهرت على ظهر الأرض.
وطالما ظهرت مثل هذه المنظمة فإن ممارسة الإدارة بوظائفها المختلفة تقترن بها. فهل يمكن لنا اعتبار بيت العنكبوت منظمة، كمنظمة النحل مثلاً أو النمل أو حتى الإنسانية منها؟
4- منظمة ولكن:
من حيث كونها فردان فأكثر فإن بيت العنكبوت حتى يتكامل ويطلق عليه بيت كأي بيت آخر لابد له من ذكر وأنثى وأبناء وهذا هو الوضع الطبيعي، ثم يكون له مهمة وغاية يعمل من أجل تحقيقهما بشكل مشترك ومتكامل، ويمكن أن يكون هناك نوع من تقسيم الأدوار لكن بشكل متكامل ومتناسق والمشكلة في بيت العنكبوت ليس في العدد، ولا في طبيعة المهمة لكن في طبيعة العلاقات والتكاملية التي تقوم عليها.
فإن أهم ما يمكن أن يميز أي علاقة زوجية تنظيمية سليمة هو ما تبني عليه من سكن و مودة ورحمة.
ولعل من الإشارات العظيمة في القرآن ما ورد في السورة التالية لسورة العنكبوت مباشرة وهي سورة الروم لمثل هذا البيت المثالي الذي يوضح بشكل جلي طبيعة الفرق بين بيتين وزوجين.
5- بيت العنكبوت وبين المودة والرحمة:
حيث قال تعالى في سورة الروم مذكراً بآياته:
"ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، وإن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" 21
فهنا ورد توضيح للأركان الحقيقية للبيت الإنساني المثالي وطبيعة العلاقة التي تربط بين الذكر والأنثى في أعظم رباط في ظل الغاية الأساسية التي خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان من أجلها وخلق له من نفسه زوجاً يشاركه ويعاونه في القيام بهذه الغاية وتحقيق المهمة التي خلق من أجلها، وتقوم هذه العلاقة التنظيمية العظيمة على ثلاثة أركان هي:
- السكن
- الرحمة
- المودة
وكما هو واضح فإنها إنما تمثل أركاناً معنوية لا مادية تحقق أعلى درجات الأمن النفسي والراحة المتبادلة التي توفر مناخاً وأرضية مناسبة لقيام أفراد تلك المنظمة أو هذه البيت بواجباتهم على خير وجه سواء كانت هذه الواجبات في الحياة عمومياً أو تجاه كل منهما للآخر. وبدون هذه الأركان سوف تتحول إلى منظمة كئيبة هي منظمة الصراع والشقاق والأزمة بدلاً من السكن والمودة والرحمة.
ولعل هذا هو أهم ما يفرق بين بيت العنكبوت وبيت السكن والمودة والرحمة.
ولو تأملت وتدبرت بعمق في طبيعة العلاقة التي تربط بين أفراد كل منظمة فسوف نجد أنها تقع بين هاتين الحالتين وبدرجات مختلفة، منظمة العنكبوت ومنظمة السكن والمودة والرحمة.
ولعل هذا هو أهم ما يجب أن نهتم به الإدارة وتعمل على إدارته والذي قد يسميه البعض بالمناخ التنظيمي لما له من أعظم الأثر على طبيعة وإنتاجية الأفراد في المنظمة.
6- وهن العلاقات:
إذن مناط الدرس العظيم الذي نحن بصدده من بيت العنكبوت، ليس كما كنا نتحيل حينما نقرأ هذه الآية من أن الوهن بقصد به مجرد وهن خيوط البيت التي يمكن لأي طفل ولو كان صغيراً ونجهود بسيط أن يهدمه ليس هذا فقط المقصود بل لعل المقصود أبعد عن ذلك بكثير، فهذا هو الجانب السطحي الظاهر الذي قد يفهمه غير المتعمق أو المتخصص أو العالم بطبائع سلوك الحشرة نفسها، وهو جانب قد يفي بالغرض الشكلي للموضوع، ولكنه لا يفي بأية حال من الأحوال بأركان التشبيه والتمثيل القرآني العظيم بين من اتخذ من دون الله أولياء، وبين العنكبوت اتخذت بيت، فإن أهم ما يمكن أن يميز الولاية ليست الجانب المادي لها وإنما جانب العلاقات النفسية والروابط القلبية والروحية التي تربط بين أطرافها.
ولذلك فإن ما أظهرته اكتشافات علماء الحشرات من طبيعة العلاقة الدموية التي تربط بين الذكر وأنثى العنكبوت التي تبني بيتاً ثم تعاشر فيه ذكراً ثم تقوم بذلك بقتله وهدم أركانه الأساسية، هو مناط العبرة والتمثيل الذي يقصد به وهن العلاقة لا مجرد وهن الحجارة أو الخيوط.
بل إن ما أثبتته الأبحاث أيضاً عن خيوط العنكبوت أنها من حيث العلاقة يعتبر أقوى خيوط على ظهر الأرض، في ضوء سمكها مقارنة بأي خيوط أخرى من أي شيء حتى المعدن بنفس السمك.
ومن هنا فإن أسوأ وضع إداري وتنظيمي هو الذي يكون فيه حال المنظمة بهذا الوضع المأسوى الذي تبني فيه العلاقة على منافع شخصية ذاتية دون مراعاة لمنفعة أو مصلحة الآخرين، بل يتحول الأمر إلى كيد ومؤامرات ودسائس وصراعات ومكائد للتخلص من هذا أو ذاك أو تدميره أو توريطه... إلخ.
مثل هذه الأوضاع التنظيمية لا شك قالها الفشل والندم، وكل علاقة قامت على أساس مادي دنئ ومنافع شخصية غير سوية لابد وأن تنتهي إلى الصراع والخلاف والعداء فالفشل الذريع ومن هنا كانت أسوأ علاقة هي تلك التي تشبه علاقات بيت العنكبوت، وكل من اتخذ من دون الله أولياء مآله ونهايته لابد سوف تكون نفس النهاية ونفس المصير المؤلم مهما بدا من وجود مصالح أو توافق في المدى القصير، فإنها لا تعدو علاقة شهواتية يشبع الإنسان فيها مطامعه أو شهواته تماماً كما يفعل ذكر وأنثى العنكبوت ثم تكون فيها أو معها أو بعدها الصراع فالقتل أو الدمار.

7- بين بيت العنكبوت وبيت النحل:
لقد سبق لنا أن تكلمنا عن مثال آخر لبيت آخر أو منظمة أخرى في عدة مقالات هي النحل ومملكته، والتي ذكرها القرآن أيضاً في محكم آياته وأفرد لها سورة باسمها ، وكذلك النمل.
وأريد من كل فرد يقرأ ويتدبر ويتأمل أن يقارن بين هذين البيتين ليعرف الفروق بين كل منهما وخاصة بيت العنكبوت وبيت النحل، من حيث:
-اعوامل المقارنة العنكبوت النحل

المناخ العام سلبي إجابي
الثقة بين الأفراد منخفضة أو منعدم كبيرة

التعاون منخفضة أو منعدم كبيرة

الشك والتربص كبير قليل منخفض

المهمة أو الهدف الإيقاع بالآخرين انتاج نافع وجيد بأعلى درجات الاتقان.

العلاقة الداخلية صراع ينتهي بالقتل حب وإيثار وتضحية في سبيل الآخرين.

الأنا درجة عالية من الأنانية والتنكر درجة عالية من التضحية وإنكار الذات

علاقة الآخرين بها النفور والحرص على تدميرها قبولها والحرص على اقتنائها،

أو التوازن والمصالحة والتخلص منها ورعايتها والإفادة منها.

الاستمرارية سريعة التلاشي والزوال النمو والتكاثر المستمر

الصورة الذهنية - الاشمئزاز منها الراحة لها، وحبها والحرص عليها.
- ارتباطها بالخراب


فانظروا وتدبروا ياأولي الألباب وتعقلوا تلك الأمثال العظيمة التي تفيض حكمة ودروساً عظيمة لأنها من لدجن الخالق العظيم.
واحرص على أن تبني علاقاتك على أسس سليمة وأواصر متينة، وأمتن وأوثق العلاقات هي ما كانت في الله ولله، حباً لله، وحباً في الله ، وأسوأها ما كانت من دون الله، فإنها من أوهن العلاقات وأضعفها، بل أكثرها استعداد للانقلاب إلى العداء والصراع والدمار، فالندم "مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون" العنكبوت:41
فانظر أي علاقة تبني، وأي منظمة تعمل؟ واحرص على أن تكون علاقاتك ومنظمتك أبعد عن بيت العنكبوت وأقرب إلى النحل والنمل إلفها السكن والمودة والرحمة، وتسودها روح التفاهم والتعاون والتناغم المستمر، تلك هي المنظمة المثالية التي تحقق أعلى إنتاجية وأرقى إنتاج بأعلى درجات التميز التنافسي والفلاح التنظيمي.
أ. د. محمد المحمدي الماضي
www. almohamady.com

ايمان حسن
05-16-2009, 09:22 PM
دروس عظيمة في الإدارة من مملكة النحل

للأستاذ الدكتور/ محمد المحمدي الماضي
أستاذ إدارة الاستراتيجية
كلية التجارة - جامعة القاهرة


(1) درس في التنظيم

مقدمة :
ولم لا نتعلم من النحل، وقد أفرد الله سبحانه وتعالى سورة باسمه في القرآن، ولا يكون ذلك إلا لشأن عظيم ودروس عظيمة يجب أن ينتبه إليها كل من يعظم القرآن، وها نحن نحاول في هذه العجالة أن نواصل معاً محاولاتنا للوقوف ولو على بعض تلك الدروس العظيمة التي أشرنا إلى بعض منها في كل من وقفاتنا مع الهدهد والنمل، والتي كان لها عظيم الأثر لدى كل من قرأها.
وقفة تأمل:
لا شك أن المرء قد يتعجب- كما سبق أن تعجب حين وقفتنا مع نملة سليمان- وذلك حينما يجد سورة من السور الطوال سميت بسورة النحل أو النمل ولم يرد ذكر أي منهما فيهما إلا في جزء من آية أو بضع آيات، لكن هذا يدعونا إلى أمرين:
الأول:
أن نمعن النظر في كل كلمة من كلمات القرآن التي وردت في هذا الشأن.
الثاني:
أن نبحث وندرس في سلوك تلك الحشرات من خلال العلوم المتخصصة لنتعرف على المزيد من التفاصيل التي تبصرنا بالمزيد من الدروس والعبر، فالنظر في مخلوقات الله للتدبر والدراسة والعبرة يعتبر مما دعانا الله سبحانه وتعالى إليه في كتابه الكريم، ولقد نص القرآن على أولئك الذين لا يلتفتون إلى مثل تلك الآيات العظيمة التي تملأ الكون في سمائه وأرضه.
" وكأي من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون" يوسف: 105
فكلاً من آيات القرآن المقروءة وآيات الكون المشاهدة تتضافر معاً في شكل متجانس ورائع للدلالة على روعة الخلق وعظمة الخالق.
وسوف نحاول قدر الإمكان إتباع هذا المنهج في هذه التأملات وإن كان الأمر- ولا شك- يحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة في كلاً الاتجاهين.

الدرس الأول: في التنظيم :
في الحقيقة لا يمكن لأحد يريد التحدث عن التنظيم كأحد وظائف الإدارة، بشكل واضح وجلي وفي أنصع صوره ؛ إلا ووجد في تنظيم خلية النحل ضالته وبغيته ، وهذا مايدفعنا دفعا للوقوف علي تلك الدروس العظيمة فهيا بنا .
1 ) جوهر التنظيم

2) التخصص وتقسيم العمل ثورة في تاريخ البشرية

3 ) التكامل (integration)

4 ) المرونة والتكيف مع الأوضاع الخارجية المحيطة

5 ) النمو الاستراتيجي المتوازن

6 ) مبادئ مهمة وعظيمة في التنظيم

أ ) مبدأ وحدة الأمر (unity of command)
ب) مبدأ تكافؤ السلطة والمسئولية
ج ) مبدأ تفويض السلطة

7 ) الحق والواجب بين الإحسان والتطفيف

وسوف نتناول معاً درساً درساً:

الدرس الأول) جوهر التنظيم

فإن كان التنظيم في جوهره ينطوي على ركنين هما:
التقسيم والتنسيق، أو التفاضل والتكامل (Differentiation & Integration)
كما يقولون، فإن آيات الله في خلية النحل تتجلى بأعظم ما يكون في إثبات ذلك، وما هو أكثر منه، ولعلنا نحاول في هذه المقالة الغوص في أعماق بحار عميقة واصطياد بعض درره ولؤلؤه.


الدرس الثاني) التخصص وتقسيم العمل ثورة في تاريخ البشرية:
يعتبر التخصص بصفة عامة أحد أهم الثورات التكنولوجية في تاريخ البشرية، والتي انتقلت بها من طور إلى طور آخر أكثر تقدماً.
حيث كان لظهور عصر التخصص وتقسيم العمل الفضل الأكبر لتوفير الوقت والتركيز على حرفة واحدة ومن ثم ظهر الفائض الذي تبعه بالضرورة ظهور الحاجة للتبادل وهو ما عرف بالتجارة ؛ ابتداء من المقايضة ؛ فيما عرف بالاقتصاد السلعي وانتهاء بظهور النقود كوسيط للقيمة، ومقياس لها، ووسيط للتبادل فيما عرف بالاقتصاد النقدي.
ولعل القارئ يدرك كيف كان للتخصص وتقسيم العمل أكبر الأثر في تحقيق ذلك التقدم الرهيب في سير البشرية الاقتصادي نحو التقدم الحضاري.
ولا شك أن التخصص وتقسيم العمل ظل بعد ذلك وإلى الآن وفي كل وقت هو الجوهر الأول والأساسي لأي تنظيم إنساني بمعناه الشامل، والذي يقصد به فردان فأكثر يعملون معاً لتحقيق هدف واحد مشترك.
لكن الأمر لا يقتصر فقط على التنظيمات الإنسانية، فها نحن نجد قمة التقسيم للأدوار والمهام والتخصصات في منظمة النحل،
فالشغالات مهمتها البحث عن الزهور وارتشاف رحيقها لإنتاج العسل، وحبوب اللقاح، وغذاء الملكات- كما يتم تقسيم الشغالات أيضاً تقسيماً داخلياً آخر يشتمل عدة تخصصات أخرى عرف منها الحراسة، وتحديد أماكن الزهور وتوجيه أسراب النحل إليها، وتكوين الشمع في الخلية..الخ.
ثم هناك الذكور التي تتركز مهمتهم في تلقيح الملكة.
ثم الملكة التي تعني أساساً بوضع البيض لإنتاج المزيد من اليرقات التي تضاعف قوة النحل بإضافة أسراب أخرى إليه لتحقيق المزيد من الإنتاج والنمو وضمان الاستمرارية.
بالإضافة إلى وظيفتها باعتبارها الملكة ولا شك أن هذا التنظيم لا ينحصر فيما يعرف بالتخصص الدقيق لأفراده ، ولكن هناك الكثير من المرونة ؛ حيث يمكن لكل منها المشاركة في أكثر من دور وخاصة الشغالات.
كما أود الإشارة إلى نقطة مهمة جداً هنا وهي أن هذا التنظيم يقوم على أفضل وأحدث ما يمكن أن تبدعه العقلية الإدارية وهو ما يعرف بالتنظيم من خلال فرق العمل، حيث إنك لا تجد نحلة واحدة فقط تسير وتعمل في تخصص واحد، وإنما فرق عمل متكاملة ومتفاهمة ومتناسقة لتؤدي عملها أيا كان بأعلى درجات الكفاءة والفعالية.
إن أصعب ما تعاني منه كثير من المنظمات البشرية الآن هو أن إدارتها تقوم على أسلوب الإدارة بالأفراد وليس إدارة فرق العمل ولعلك تدرك معي كم هو البون شاسعاً بين الأسلوبين.
ومن هنا فإننا ندرك أن التقسيم موجود ولكنه يقوم على أساس فرق عمل يتخصص كل منها في أداء مهمة معينة مع وجود درجة عالية من المرونة للمشاركة في مهام أخرى دون أدني تنطع أو بيروقراطية عقيمة.

الدرس الثالث) التكامل (integration)
يعتبر التكامل أو التنسيق هو الركن الثاني للتنظيم. فبدونه لن يكون للتقسيم أو التخصص معنى ولن يتحقق أصلاً معنى المنظمة أو التنظيم.
فبدونه سوف تجد كثرة التضارب والازدواج والتكرار، وتشتت الجهد بلا جدوى أو طائل أو تركيز نحو الأهداف.
وكل تلك السلبيات قد نجدها واضحة في كثير المنظمات البشرية ابتداء من أصغر منظمة كالأسرة وانتهاء بالوزارات على مستوى أي دولة.
لكن لا يمكن لأحد أن يلحظ أياً من الظواهر السلبية على خلية أو منظمة النحل.
فهي تتسم بعدة خصائص تنظيمية مهمة تعمل كآليات لتحقيق التنسيق التلقائي الفطري المستمر أهمها:
- وحدة الهدف.
- وتحديد الإجراءات والأدوار.
- وتنميط المهارات.
- والتفاهم المشترك في الأزمات والطوارئ.
- والقيادة الضابطة والموجهة.
وهذه هي أهم أساسيات تحقيق التنسيق بأية منظمة وهي جميعاً متحققة بشكل فطري ومستمر في تنظيم مملكة النحل.
مما يحقق جانباً أساسياً لفعالية وكفاءة التنظيم، ويمثل درساً عظيماً ومفيداً لكل من يريد بناء منظمة سليمة.

الدرس الرابع) المرونة والتكيف مع الأوضاع الخارجية المحيطة(integration)
إن أخطر ما يصيب أي منظمة بالفشل والانهيار هو الجمود على وضع معين وكأنه أصبح أبدياً. ولقد رأينا كثيراً من المنظمات العملاقة التي نجحت ردحاً من الزمان قد أصابها النجاح بنوع من الجمود الذي تحول مع الوقت إلى وحش كاسر يتصدى لأي عملية تكيف مع الأوضاع البيئية المحيطة دائمة التغير، والذي أطلق عليه البعض الجمود النشط (ِActive Inertia) ولعل أفضل مثال على ذلك ما يحدث لشركة فورد و GE و IBM وغيرهامن الشركات الأمريكية في السبعينات والثمانينات ثم تغلبت عليه إلى حد كبير بعد ذلك، وما حدث لشركة فاير ستون لإطارات السيارات أمام شركة ميشلان حيث لم تستطع التخلص مما تعودت عليه من أساليب أيام نجاحها، رغم تغير البيئة والظروف مما أودى بها تماماً، فتم بيعها بثمن بخس لشركة يابانية منافسة ثم تلاشت تماماً من الوجود.

ولا ننس أمثلة كثير من شركاتنا التي لا تلقى بالاً ولا اعتباراً للتغيرات البيئية الخارجية، فثبتت هياكلها وأساليبها ووسائلها وجعلتها بمثابة غاية في حد ذاتها مما أصابها بالفشل الذريع وأدى إلى اختفاء الكثير منها..،
هذه عجالة شديدة تؤكد على أهمية الإدراك الصحيح للظروف البيئية المحيطة والاستجابة الإدارية المناسبة لها بما يفرض على الإدارة ضرورة اتباع هياكل إدارية مرنة تتوافق مع الظروف المحيطة وتحافظ على درجة معقولة من النجاح المستمر، والتي تغيب للأسف عن كثير من إدارتنا البشرية، فماذا عن مملكة النحل؟
لقد أشار القرآن إلى هذه النقطة بشكل يدل على الإعجاز في مراعاة هذا الجانب حيث قال تعالى: "أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر، ومما يعرشون..."

فنحن نرى هنا أن النحل غير مقيد بهيكل واحد محدد، وإنما يكيف نفسه ويؤدي واجبه، ويمارس عمله وينجز مهمته ويحقق هدفه على خير وجه في كافة الأوضاع التي تتاح له، فهو يبني بيئة او خليته في الجبال، أو على الأشجار، أو فيما يهيئه له الإنسان مما يعرشه من مناحل، حيث يستقر فيها ويعمل دون أدنى مشكلة أو أزمة.
كما أنه ينطلق في البيئة المحيطة ويبحث عما فيها من ثمار فيرتشف من رحيقها، سواءاً كان نباتاً جبلياً فقيراً وقليلاً وصعباً، أو زهوراً، أو نباتاً محصولياً، أو غير ذلك، فإنه يرتشفه ويحوله إلى منتج نافع ومفيد ومتعدد الأغراضفي أعلى درجة من الجودة والاتقان.

الدرس الخامس) النمو الاستراتيجي المتوازن:
لعل من أعظم الدروس من وجهة نظري فيما يتعلق بتنظيم مملكة النحل، هو ذلك المتعلق بالنمو والاستمرارية الفعالة الكفء، وكيف ينمو الهيكل الإداري ليتوافق بشكل فطري مبسط مع استمرارية نمو المملكة.
ولعل هذا الأمر قد يبدو عادياً أو بسيطاً لأول وهلة، ولكن لن يعرف قدره إلا من عايش واقع كثير من المنظمات سواء منها ما كان حكومياً عاماً، أو ما كان خاصاًً، حيث قد لاحظت حالات واقعية كثيرة قد اصابها اضطراب وصل لدرجة التعرض للفشل الذريع بسبب النمو غير المتوازن، حيث شاهدنا كثير من الشركات ينمو حجمها ولا ينمو هيكلها التنظيمي ليتوافق مع هذا النمو في الحجم.
ويترتب على ذلك إصرار كثير من المديرين أو أصحاب مثل هذه المنظمات على إدارتها بنفس الهيكل ونفس أسلوب الإدارة، بيروقراطية، مركزية، تسلط فردي وكثيراً ما كان الفشل هو النتيجة الطبيعية إلا إذا تم تدارك الأمر وإصلاحه في الوقت المناسب، وخاصة في مجال الشركات العائلية..
ويذكرني ذلك برجل كبير يصر على ارتداء زيه أيام كان طفلاً صغيراً في الحضانة..!
ولقد اعتبر كثير من دعاة الهندسة الإدارية أن الاتجاه إلى تقسيم المنظمة الكبيرة إلى أقسام صغيرة شبه مستقلة فيما عرف بDown Sizing طفرة وثورة حقيقية في مجال الهيكلة الإدارية والذي سماه أيضاً رجال الاستراتيجية (SBU) أي التنظيم من خلال وحدات أعمال استراتيجية لكل منها شخصيتها وإدارتها ومركز تكلفتها وربحيتها بل وتنافس في السوق وتتنافس ؛ ومدير كل منها له صلاحيات حقيقية في ظل سياسات وضوابظ واضحة، ولعل شركة جنرال اليكتريك وما أحدثته في هذا الصدد قد أدى ثورة حقيقية وانتشلها من عثرتها حينما تضخم حجمها بشكل جعلها أقرب إلى المؤسسات الحكومية البيروقراطية الديناصورية مما عرضها لخطر التلاشي والانهيار.
لقد تعجبت كثيراً من الأسلوب الفطري شديد البساطة في مملكة النحل، حيث يظل النمر مستمراً، ليس فقط بإنتاج المزيد من العسل، والشمع، وحبوب اللقاح ، وإنما أيضا – وهذا هو الأهم - بإنتاج المزيد من أسراب النحل بكل ما يحتويه كل سرب من تخصصات متكاملة، ثم ينشئ كل منها خلية جديدة في المكان الذي يجده مهيأ لذلك ويمارس إنتاجه بنفس الدرجة من الكفاءة والفعالية بحيث إنك تجد أن المنحل الذي يتكون من 60 خلية مثلاً سوف تبلغ بعد سنة ما لا يقل عن حوالي 100 خلية بما فيها من شغالات وذكور وملكة..!
فأي منظمة في الدنيا في عالم البشر هي تلك التي تنمو بمثل هذا المعدل!! ليس هذا فحسب بل الأعجب بمثل هذا الأسلوب المعجز الذي لا يجعل من النمو مشكلة كما يحدث في كثير من المنظمات البشرية، ولعل كثير من المديرين في كافة أنواع الشركات وخاصة القطاع العائلي يحتاج إلى تفهم مثل تلك الدروس العظيمة والتي لم نكتشف أهميتها إلا منذ سنوات قلائل ونتيجة للتعرض لأزمات قاتلة والتي تعتبر من أساسيات الابتكار الاستراتيجي العبقري.

الدرس السادس) مبادئ مهمة وعظيمة في التنظيم:
إذا كان أي تنظيم يقوم أساساً على ركنين أساسيتين كما سبق أن ذكرنا وهما: التقسيم والتنسيق، وما ينطوي عليه كل منهما من أدوات فإن سلامة العلاقات في هذا التنظيم تقوم أيضاً من وجهة نظري علي ركنين وهما: "السلطة والمسئولية"
ويقصد بالسلطة: " حق إصدار أمر، أو اتخاذ قرار"
ويقصد بالمسئولية: "الالتزام بأداء واجب "
وجوهر العلاقات في أي تنظيم تنبثق هذين الأمرين فإن صلح صلح التنظيم وإن فسد فسد التنظيم، فبناء عليهما ينشأ مبادئ عدة للتنظيم أهمها ثلاث مبادئ:

أ ) مبدأ وحدة الأمر (unity of command)
من مبادئ التنظيم المهمة مبدأ وحدة الأمر، والذي يقصد به ألا يتلقى المرؤوس أوامره إلا من رئيس واحد فقط، وكما يقول المثل العامي: "المركب التي بها رئيسين تغرق"
ومما يؤكد على سلامة هذا المبدأ وجوده بشكل فطري في خلية النحل، فلا تجد لخلية أكثر من ملكة، وإن كان هناك أكثر من ملكة مرشحة فإنه يتم سباق تنافسي بينهما لتقضي أحداهما على الأخرى أو تطردها وتظل الرئاسة لواحدة فقط، فإن كان ولا بد من وجود ملكة قوية أخرى فإنها حينئذ يمكن أن تقود سرباً جديداً من النحل الصغير الناشئ وتنطلق به لبناء خلية جديدة وهكذا.
بل إنني علمت من علماء متخصصين في علم الحشرات وخاصة النحل، أن الشغالات تعمل على تغذية أكثر من نحلة ناشئة لتكون ملكة فإذا بدأت تظهر علامات النمو بوضوح عليها، انتخبت أقواها وقتلت الأخريات..!!
ولعلنا نختم هذا الدرس العظيم في التنظيم بقول الله عز وجل:
" لو كان فيهما ألهة إلا الله لفسدتا ، فسبحان الله رب العرش عما يصفون " الأنبياء : 22

ب) مبدأ تكافؤ السلطة والمسئولية :

والذي ينطلق من قاعدة شرعية عريضة مؤداها أن يكون التكليف على قدر الوسع، "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" وذلك بألا يتم تحميل أحد الأفراد مسؤلية دون منحه سلطة مكافئة تمكنه من أدائها .
ولعل ما نلاحظه من لسعي كل نحلة وحركتها في أداء المهمة المنوطة بها على خير وجه ، ينم عن توافر قدر كبير من السلطة والصلاحية المكافئة الممنوحة لكل نحلة للتصرف بحرية في ضوء المصلحة العليا للمملكة والرسالة التي نشأت وفطرت من أجلها والتحمل الواضح للمسؤولية .

ج ) مبدأ تفويض السلطة :
ومؤداه بإيجاز :
أن السلطة تفوض والمسئولية لا تفوض .
ومنه تنشأ سلسلة مستمرة ومتدرجة من تفويض السلطة دون أن يفقد أي مستوى، قام بالتفويض مسئوليته أمام المستوى الأعلى الذي قام بتفويضه، ولعل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يحدد في إيجاز بليغ جوهر هذه المبادئ حينما يقرر "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ..." ثم عدد أنواعاً متنوعة من المسئوليات التي لا تتم إلا بناء على تفويض السلطة .

وبشيء بسيط من التأمل نجد أن كثيرا من أسباب الخلل التنظيمي في منظماتنا البشرية ترجع لغياب واحد أو أكثر من هذه المبادئ.
أما في مملكة النحل فإننا نلاحظ تحقق هذه الدروس والمبادئ بشكل فطري وتلقائي ولا نكاد نجد غياب أو انتهاك لأي منها .
فمبدأ وحدة الأمر واضح ومحدد ومحترم تماماً على مستوى كل خلية.
ومبدأ تكافؤ السلطة والمسئولية أيضاً واضح تماماً فهناك شيوع كامل للسلطة مع قمة التحمل والشعور بالمسئولية ليس فقط أمام المستوى الأعلى، وإنما أيضا - وهذا هو المهم- على المستوى الشخصي فيما يعرف بالإحساس بالمسئولية الذاتية أو الشخصية والتي يحلم كبار علماء الإدارة بوجودها في التنظيمات المثالية مثال "بيتر دراكر" الذي اعتبر الشعور بالمسئولية في كافة أرجاء التنظيم بحيث يكون أدنى مستوى تنظيمي مستشعر للمسئولية تماماً كأعلى مستوى، هو واحد من بين ستة مقومات أساسية للتغلب على تحدى إحداث ثورة في تحسين إنتاجية الخدمات والمعلومات.

وإذا كان البعض يتخيل ان التفويض الكبير للسلطة كما هو حادث في مملكة النحل قد يؤدي إلى فوضي، ومن ثم نجد معظم المديرين يميلون لتكريس وتركيز السلطة في أيديهم بشكل مركزي بغيض، فإن الدرس الذي نتعلمه من النحل يؤكد أن أعظم ضمانة لكليهما هو وجود الآخر، فالسلطة والمسئولية كوجهي عملة واحدة، وكلما زاد نضج افراد التنظيم وأصبحوا على درجة عالية من تحمل المسئولية واستشعارها فإنه يكون من الخطأ الجسيم بل والمدمر حينئذ حجب السلطة عنهم، وعدم تفويضها لهم، بل إن ذلك في حد ذاته - إن حدث - يؤدي إلى سريان روح في التنظيم ؛ من التسيب ، واللامبالاة ، وعدم تحمل المسئولية.

وإذا كان هذا الوضع المختل يحدث كثيراً في منظماتنا البشرية وخاصة من أنماط إدارية تفسد وتزعم أنها تصلح وتخرب وتزعم أنها تعمر، فإن ذلك لا يحدث مطلقاً في خلية أو منظمة النحل، التي لا تنتظر فيها نحلة أوامر أو تعليمات من نحلة أخرى لتؤدي واجبها. فأي قوة عبقرية ملهمة تلك التي حركتهم جميعاً لتنطلق كل منها مبكراً إلى عملها وتعود محملة بالرحيق لتواصل بعد ذلك تحويله إلى العسل أو غذاء الملكات في أعلى درجات التميز والاتقان.


الدرس السابع) الحق والواجب بين الإحسان والتطفيف :
لا شك أن الجوهر الأخلاقي لتلك العلاقة التنظيمية في الإسلام يقوم على أساس خلقي قيمي هو ما يسمى بالعلاقة بين الحق والواجب.
فلكل فرد في كل علاقة مع الآخرين في الحياة حق وعليه واجب.
والأصل أن يؤدي كل ما عليه قبل أن يطلب ما له، لأنه لو فعل كل فرد ذلك لن تكون هناك حاجة ليطلب أحد حقه، لأن الطبيعي كما سبق أن ذكرت أن كل علاقة لها وجه مقابل فالواجب الذي تؤديه هو حق لشخص آخر، والواجب الذي يؤديه الآخر هو حقك.
وإنما يحدث الخلل والشقاق حينما يجعل كل طرف همه أن يأخذ أولاً حقه قبل أن يفكر في أداء واجبه ؛ وهذا مالا نجده مطلقا في خلية النحل ؛ فالجميع يؤدي واجبه دون انتظار مقابل من أحد ولا حتى أوامر من أحد .
وهذا هو الفرد الذي صنعه الإسلام ورباه القرآن ؛ ذلك الفرد الذي يعطي ما عليه قبل أن يطلب ما له، بل ويعطي أكثر مما يأخذ، وهذا هو الخلق العظيم الذي أسماه الإسلام بخلق الإحسان، والذي يجسد أرقى درجات العبادة والتعامل والأخلاق.

ويقابلها في الطرف الآخر نوعية بغيضة حذر القرآن منها وتوعد أصحابها بالويل، وهم أولئك الذين أسماهم المطففين، وهم باختصار شديد الذين تختل موازين العلاقات لديهم فيريدون دائماً أن يأخذوا أكثر مما يعطوا في كل تعاملاتهم، فهم من أولئك الذين لا يستريح لهم بال إلا بأن يكسبوا ، ولو علي حساب الآخرين وخسارتهم .
تلك العلاقة المدمرة في الحياة عموماً وفي التنظيمات خصوصاً والتي توعد المولي عز وجل أصحابها بالويل في سورة سميت بسورة المطففين والتي منها قوله :
"ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون، ليوم عظيم...."

وأود الإشارة هنا إلى أن أمر التطفيف لايقتصر فقط علي مجرد الكيل والميزان بمفهومهما الضيق ؛ وإنما يتعداه إلى كل علاقة بشرية إجتماعية فى أي مجال من المجالات ؛ فإما أن تتم على أساس العدل وهذا هو الحد الأدني ، وإما أن تقوم على أساس الإحسان والإيثار .
فأين هؤلاء من قوله تعالى مصورا موقف الأنصار من المهاجرين : "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فألئك هم المفلحون " الحشر : 9
ومن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"
والآن نتوقف ليس لانتهاء الدروس ولكن لنكمل معا بإذن الله في مرة قادمة دروسا أخري عظيمة ليس فقط في التنظيم الذي طوفنا حوله في هذه المقالة ، وإنما في موضوعات إدارية أخرى متعددة لاتقل أهمية .