تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : قرأت لكم من مقالات أ.د. خالد عبد القادر عودة النظام الإقتصادى الإسلامى


khaled88
02-08-2009, 08:59 PM
الأستاذ الدكتور/ خالد عودة يكتب لإخوان سوهاج

(الحلقة الأولى)

النظام الإقتصادى الإسلامى

البديل المطروح نحو الإصلاح الإقتصادى العالمى

ضوابط الموازنة والمواءمة الإجتماعية فى النظام الإسلامى

سوهاج : 5/ 2 / 2009

يهدف النظام الإقتصادى الإسلامى إلى تحقيق الموازنة بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة (مجموع أفراد المجتمع). وهو بذلك يختلف جذريا عن النظام الرأسمالى العالمى الذى يدعو إلى إطلاق حرية الأفراد فى التملك والتعامل والتصرف دون قيود من سلطة الجماعة، ومن ثم فهو ينطلق من فرضية أن مصلحة الفرد مقدمة عن مصلحة مجموع الأفراد .

فالأفراد لهم حق الانتفاع بما فى أيديهم من مال . والانتفاع بالمال قد يكون باستهلاكه فى الطعام والكساء والعلاج والتعليم والسكن والانتقال إلى أخر أوجه الاستهلاك . وقد يكون باستغلال المال أو استثماره فى المشروعات الإنتاجية أو المبادلات التجارية . وقد يكون بالتصرف فى المال تصرفا شرعيا ناقلا للملكية كالبيع والوصية والهبة والصدقة.

والشريعة الإسلامية لم تجعل حق الأفراد فى إستهلاك المال حقا مطلقا ، وإنما قيدته بحدود الإعتدال دون إسراف أو تقتير . فليس للأفراد أن يسرفوا فى أمور معيشتهم ، وما يجوز لهم أن يقتروا على أنفسهم ، وعليهم أن يتوسطوا بين الأمرين ، وأن لا يتجاوزوا حد الاعتدال . كما حرمت الشريعة الاكتناز حتى لا تتعطل دورة المال ومن ثم مسيرة المجتمع ، وألزمت الأفراد الذين يدخرون جزء من الثروة المنتجة بأن يستثمروا مدخراتهم فيما يعود بالنفع عليهم وعلى غيرهم من أعضاء المجتمع . لأنه إذا تجاوز الأفراد حدود الاعتدال فى الاستهلاك فإن ذلك سوف يؤدى إلى تقليص الثروات المنتجة ، ومن ثم نقص الإنتاج وتدهور الحالة الاقتصادية . كذلك لو عطل المنتفعون الثروة المدخرة فلم ينتفعوا بها فقد عطلوا رؤوس الأموال ، وبالتالى عطلوا انتفاع الجماعة بدورة المال .

ونفس النتيجة تظهر لو أن أصحاب الثروات تكالبوا على استثمارها فى المشروعات التى لا تنتج سوى مواد للاستهلاك ، لأن ذلك سوف يؤدى تدريجيا إلى اختفاء رؤوس الأموال الإنتاجية التى تتمثل فى أدوات الإنتاج وآلاته والمواد الأولية والخامات المعدنية والزراعية ومصادر الطاقة ،مما يهدد الأمة بفقدان أهم عناصر الإنتاج فى المجتمع . لهذه الأسباب كان لازما على الدولة وهى سلطة الجماعة أن تتدخل لحماية الجماعة من أهواء الأفراد، وأن تضع الضوابط التى تحد من الاستهلاك وتنظم إستغلال المال وطرق تثميره بما يعود بالنفع المباشر على المالك ولتنتفع به الجماعة من طريــق غير مباشر .

وباختصار ، كما أن لكل فرد الحق فى الانتفاع بما فى يده من مال فإن للجماعــة حق التدخل فى تنظيم حدود الانتفاع ووضع الضوابط التى تضمن الموازنة والملائمة بــين مصلحة الفرد من جهة ومصلحة الجماعة من جهة أخرى وبما يحقق الاتزان الإجتماعى بين الأفراد.

والواقع أن حاجات الإنسان كثيرة ومتعددة ، وليس هناك حدودا ثابتة لمدى احتياج الإنسان فالإنسان بطبيعته الفطرية لا يقنع بالقليل ، وكلما تمكن من إشباع حاجـــة تطلع إلى حاجة جديدة وحاول أن يشبعها أيضا . وتختلف حاجات الإنسان مــن مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان . ففى المجتمعات الفقيرة تكون متطلبات الإنسان قليلة ومحدودة لأن الموارد فى هذه المجتمعات شحيحة ومحدودة لا تصلح إلا لإشباع الحاجات الضرورية . أما فى المجتمعات الغنية فإن الحاجات كثيرة ومتنوعة ، ليس فقط لكثرة الموارد فى هذه المجتمعات ، وإنما يرجع إلى حسن استغلالها واستثمارها لصالح الإنسان . وقد أدى تقدم العلوم والوسائل التكنولوجية فى هذا الزمان إلى إنتاج سلع جديدة وابتكار منافع متطورة يسعى الإنسان إلى اقتناءها فتزيد الحاجة إليها من قبل الأفراد .

ولأن السلع التى تعد فى حد ذاتها وسائل للإشباع قليلة ، ومتطلبات الإنسان لا حد لها ، والموارد الطبيعية قليلة وغير متوفرة بالشكل الذى يجعلها قابلة لإشباع حاجات الناس مباشرة ، كما أن مصادر الطاقة الكامنة فى الطبيعة محدودة ـ كل ذلك يستوجب تدخل الدولة ( سلطة الجماعة ) لترتيب الاحتياجات وتعيين الأولويات بما يوفر المتطلبات الأساسية للأفراد . فالأرض الزراعية المحدودة مثلا يمكن توجيهها لزراعة المحاصيل الضرورية لمعيشة الإنسان كالقمح والشعير والذرة والأرز والقطن وقصب السكر ، بدلا من زراعة التفاح والكنتالوب أو المنبهات أو اللوز والفستق ، كذلك الأراضى المعدة للبناء فى المدن محدودة المساحة يمكن توجيهها لبناء العمارات بدلا من الفيلات أو القصور . كذلك مواد البيئة من معادن وأخشاب يمكن توجيهها لتلبية الضروريات أولا قبل التحسينات فالخشب مثلا يكرس لبناء القوارب والبواخر والأثاث الضرورى بدلا من استخدامه فى تكسيه الجدران أو الأرض أو أعمال الديكور .

وتحديد الضروريات الأولى بالإشباع من غيرها ، لا يغنى عن معرفة الحد الــذى يتحقق به الإشباع من جنس المنفعة . فالقمح مثلا من الضروريات اللازمة لإشــباع حاجة الفرد للغذاء ، لذا وجب على الدولة إعداد الدراسات اللازمة لمعرفة كم من القمح يكفى الفرد سنويا دون إسراف أو تقتير ، وحجم المساحة المطلوبة لزراعة ما يكفى احتياجات الإفراد ، وتكاليف إنتاج هذه السلعة ، ومدى توفر الظروف الطبيعية والمناخية ومياه الرى والأسمدة اللازمة للإنتاج. أى أن الأمر يتوقف على دراسة موسعة ودقيقة على الدولة أن تقوم بإجرائها لمعرفة احتياجات السكان الحالية والمستقبلية بما يتناسب مع طبيعة وحجم الموارد المتاحة وتكاليف الإنتاج وقواعد التوزيع وكمية الموزع والفاقد والعائد والمدخر ـ حتى يمكنها توجيه الإنتاج والزام الأفراد بتنويع استثماراتهم بم يضمن سد المتطلبات الأساسية للأفراد .

ولا يقصد بسد المتطلبات الأساسية للأفراد أن يقتصر الإنتاج فى المجتمع على السلع الاستهلاكية التى تكرس للاستهلاك مباشرة . كما لا يعنى إشباع الحاجات الشخصية أن يستهلك الناس كل ما ينتجون . لان استهلاك الإنتاج كله لن يؤدى إلى وجود فائض فى المنتجات الذى يمكن استغلاله كرأس مال . وبمعنى أخر لن يدخر جزء من الثروات المنتجة ومن ثم لن يبقى لرأس المال وجود . ومثال ذلك لو أن فلاحا يستهلك كافة إنتاجه السنوى من القمح فى إشباع حاجته إلى الطعام ، هذا الفلاح لن يجد فى يده فائضا يستغله كرأس مال فى إنتاج ثروة جديدة تمكنه من استكمال باقى متطلبات حياته من كساء ومأوى ، كما أنه لن يجد ما يستطيع به إستغلال الأرض مرة ثانية لاستمرار الإنتاج . كذلك لو استهلك الناس كل ما ينتجون من غاز طبيعى وبنزين أو كهرباء فى تسير السيارات الخاصة ، أو التدفئة والتكييف ، وإدارة السخانات والغسالات والثلاجات المنزلية ـ فلن يجد هؤلاء الناس ما يمكنهم به تسير الآلات الصناعية ووسائل النقل العامة بما يحقق لهم استمرار الإنتاج. كما أن رؤوس الأموال لو اقتصر دورها على إنتاج السلع الاستهلاكية كالمشروبات الغازية والمأكولات والحلويات ومناديل الورق فإن النتيجة المتوقعة هى تقلص السلع الإنتاجية التى تمثل فى ذاتها رأس مالا كأدوات العمل والآلات والخامات والزراعية والصناعية والكيماويات والسماد ووسائل النقل والاتصال ، وبذلك يتدهور الإنتاج، وتتوقف عجلة التنمية فى المجتمع.

والأمم الواعية هى التى تعمل على أن تكون هناك ثمة زائد فى الثروات المنتجة ( رؤوس الأموال ) على الثروات الإستهلاكية (ثروات الانتفاع والاستهلاك)، ويكون ذلك فى اتجاهين : الأول منها تشجيع الأفراد على الإقتصاد فى الإستهلاك حتى يتحقق فائض فى الثروة التى يمكن إستغلالها كرأس مال ، والثانى هو تنظيم عملية إستثمار هذا الفائض بما يضمن استمرار دوران رأس المال من ناحية وسد الحد الأدنى من متطلبات الأفراد الشخصية من ناحية أخرى .

وقد أرست الشريعة الإسلامية قواعد تكوين رؤوس الأموال فى المجتمع من قبل أن تعرفها النظم الوضعية بنحو ثلاثة عشر قرنا . حين أقرت قاعدة التحريم المزدوج التى تنص على تحريم الإسراف من ناحية ، والاكتناز من ناحية أخرى . وهى قاعدة جامعة ، شاملة ، يؤدى تطبيقها فى أى زمان أو مكان إلى نتيجة واحدة حاسمة هى خلق رؤوس الأموال وتنميتها .

فالنهى عن الإسراف والتبذير يقصد به إدخار جزء من الثروة بدلا من استهلاكها كلها فى إشباع الحاجات الشخصية ، وهو ما يمكن استنباطه مباشرة من مفهوم العبارات القرآنية الآتية:
" وكلوا واشربوا ولا تسرفوا أنه لا يجب المسرفين " (الأعراف : 31)

" كلوا من ثمره إذا أثمر وآتو حقه يوم حصاده ولا تسرفوا أنه لا يحب المسرفين" (الأنعام: 141)

" والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكانوا بين ذلك قواما " (الفرقان : 67)

" ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا " (الإسراء : 29)

والنهى عن الإكتناز المصحوب بالتشجيع على الإنفاق ما قصد به سوى النهى عن تكديس الثروة وتعطيلها مما يحول دون نشاط تداول رأس المال . وهو أمر ضرورى لانتعاش الحياة الإقتصادية وتوفير فرص العمل وموارد الرزق للغير . وفى ذلك يقول الله جل شأنه :

" والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم" (التوبة: 34)
" ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " (آل عمران : 180)

" يا أيها الذين أمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون " (البقرة :254)

والحث على إنفاق الثروات المدخرة لا يقصد به الإنفاق الإستهلاكى لأن ذلك يتعارض مع مفهوم الادخار والاقتصاد ، وإنما قصد به الإنفاق الإنتاجى أى استغلال الأموال وتثميرها فيما ينفع الناس . وبهذا تميز الادخار فى الشريعة الإسلامية عن الإكتناز بأنه حفظ جزء من الثروات من الاستهلاك بقصد إعادة تثميرها فى الإنتاج حتى يبقى لرأس المال وجود فى المجتمع . بينما الاكتناز هو مجرد تكديس للثروة بغير نية تثميرها أو إعادة إنفاقها مما يعطل دورة رأس المال . وبذلك تكون القاعدة الفقهية للتحريم المزدوج عدم الإسراف ـ عدم الإكتناز ، هى الأساس للقاعدة الاقتصادية الحالية : ادخار الثروات ـ تثمير الثروات .

فإذا أضفنا إلى هذا القاعدة الفقهية الأخرى " وأحل الله البيع وحرم الربا " (البقرة: 275) وهى قاعدة اقتصادية تقوم صياغتها على نص ظاهر دلت صيغته على معناه دلالة واضحة لا تحتاج إلى قرينة خارجية لفهم معناه ، وهو نص على نفى المماثلة بين البيع والربا فإننا نكون بذلك قد أضفنا إلى الثروة المدخرة عنصر العمل كشرط للتثمير ، وبهذا يتحقق العنصران الأساسيان اللازمان للإنتاج وهما رأس المال والعمل . إذ أن المقصود بتحليل البيع المقرون مباشرة بتحريم الربا هو الاجتهاد بالعمل من أجل التثمير ، أى التربح من الثروة والعمل من خلال الإنتاج ، لا بالكسب من خلال إقراض الثروة إلى الغير . وتأكيدا لذلك فقد دعا الله عز وجل الناس إلى العمل وحثهم عليه ، ورتب على العمل درجاتهم ، وفى ذلك قول الله تعالى :
" وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" (التوبة : 105)

" ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون" (الأنعام :133)

فإذا أضيف أيضا إلى رأس المال والعمل ، عنصر استغلال الموارد الطبيعية الذى أرسته مبادئ الشريعة الإسلامية فى قول الله تعالى : " هو الذى جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور" (الملك : 15)

يكون الإنتاج بذلك قد حقق كافة عناصره اللازمة لنمو المجتمع ورخاء الناس وهى : رأس المال ، والعمل ، والطبيعة .

أ.د. خالد عبد القادر عودة
http://www.ikhwansohag.com/modules.php?name=News&file=article&sid=798

khaled88
02-10-2009, 07:25 AM
النظام الإقتصادى الإسلامى

الحلقة الثانية

البديل المطروح نحو الإصلاح الإقتصادى العالمى

التوازن الإجتماعى بين الأفراد

بقلم: أ.د. خالد عبد القادر عودة

سوهاج : 6 / 2 / 2009

سبق الإشارة إلى أن حاجات الإنسان ليس لها حدود ، وأن وسائل إشباع هذه الحاجات نادرة ، ولا يمكن لكل فرد أن يحصل على كل ما يرغب فيه . فالموارد الطبيعية قليلة ، وغير متوفرة بالشكل الذى يجعلها قابلة لإشباع حاجة الإنسان مباشرة. ولإستغلال هذه الموارد وتسخير الطاقة الكامنة فى الطبيعة فإن ذلك يلزم تهيئتها أو معالجتها أو إستخراجها أو تحويلها أو تحويرها حتى تتحول إلى معدات وآلات وغذاء وكساء من خلال العملية الإنتاجية . إلا أن ذلك يتطلب بدوره جهدا ووقتا وخبرة ومالا . والخبرة فى حاجة إلى تدريب وتعليم لفترة طويلة ، والتعليم فى حاجة إلى قدرة ذهنية للتحصيل ، والجهد فى حاجة إلى طاقة بدنية عالية ، والعمل فى حاجة إلى تنظيم دقيق ، والإنتاج فى حاجة إلى تخطيط جيد. ونظرا لأن الأفراد يتفاوتون فى قدراتهم الذهنية والبدنية وتختلف ميولهم فى النزوع إلى الحرف والمهن التى تتفق وإستعدادهم، ومن ثم تتفاوت دخولهم ـ لذا فإن النتيجة الحتمية هى ظهور طبقة من الأفراد قادرة على إشباع ما تصبوا إليه من الضروريات والحاجيات والتحسينات، بينما تظل طبقة أخرى غير قادرة على إشباع حاجاتها الضرورية اللازمة للمعيشة . وهى نتيجة متوقعة لندرة وسائل الإشباع وتعدد الحاجات من ناحية ، وتفاوت قدرات الأفراد ودخولهم من ناحية أخرى . بالاضافة إلى ذلك فإن هناك مشكلة العاجزين عن العمل الذين لا يقدرون على كسب معيشتهم بأنفسهم من المرضى والشيوخ والأطفال والنساء . وإذا كان العمل هو سبب الرزق ، والرزق هو أساس الملكية فإن الذين لا يقدرون على العمل لن يقدروا على كسب أرزاقهم . ومن ثم سوف تزداد مشقة الحياة بالنسبة لهم وتزداد الهوة اتساعا بينهم وبين غيرهم ممن يقدرون على إستثمار قدراتهم وأموالهم .

ونظرا لما قد يؤدى إليه التفاوت الشديد فى مستوى معيشة الأفراد من نشر الفتن ، واضطراب الأمن ، وتفشى الفساد فإن الشريعة الإسلامية قد عملت على علاج الخلل الناشئ من ندرة الموارد وتعدد الحاجات من جهة ، وتفاوت قدرات الأفراد ودخولهم من جهة أخرى بما يحقق تضييق الفوارق التى تفصل فى المعيشة بين الأفراد فى المجتمع الواحد ، ومن ثم تحقيق نوع من التوازن المعيشى داخل المجتمع . وقد سلكت الشريعة الإسلامية من أجل تحقيق هذا الاتزان مسلكين : أحدهما يعمل على كبح جماح ذوى القدرات ويحد من تطلعاتهم فى الإستحواذ والإقتناء والإستهلاك حتى يمكن توفير جزء من الثروة المنتجة (رأس المال) الذى يضمن استمرار عملية التنمية والإنتاج فى المجتمع ، فحرمت الإسراف والإكتناز والإحتكار، وحرمت حبس المال وتعطيل رؤوس الأموال المنتجة وشجعت على الإدخار بقصد إعادة تثمير المال ( انظر ما سبق).

أما المسلك الثانى فيعمل على حل مشكلة العاجزين عن العمل والذين لا يقدرون على كسب معيشتهم بأنفسهم من الفقراء والمساكين والغارمين ، وهؤلاء جميعا كفلت لهم الشريعة الإسلامية الحد الادنى من المعيشة وهو حد كفاية الحاجة الضرورية التى لا غنى عنها لحفظ النفس والبدن والعقل والنسل ، كالطعام والمأوى والتعليم والعلاج والانتقال والدفاع إلى آخر ذلك من الضروريات ـ فجعلت لهؤلاء فى أموال الأغنياء والقادرين حقا معلوما يؤدونه إلى الدولة التى تتولى بدورها ضمان هذه الكفالة . وهذا الحق المعلوم هو الزكاة، فإن لم تف بالغرض المطلوب كان للدولة الحق فى أن تتدخل فى أموال الأغنياء بما يكفل تحقيق التوازن الإجتماعى، إلا أن تدخل الدولة مقيد فى الشريعة الإسلامية بالحقائق الفطرية التالية:

1- أن أفراد البشر متفاوتون فى مختلف الخصائص النفسية والفكرية والجسدية ، وبالتالى فهم متفاوتون فى القدرة على التحصيل أو العمل أو الإنتاج أو الابتكار . ومن ثم فإنه لا يمكن تحقيق توازن بين الناس فى كمية الجهد المبذول ، أو القدرة على العطاء ، أو الطاقة على التفكير أو التحصيل . وكلما إرتقى المجتمع، كلما برز التباعد فى القدرات والتفاوت فى الأعمال التى يؤديها الأفراد نتيجة اتجاههم المتزايد إلى التخصص . وفى ذلك يقول الله سبحانه وتعالى :

" وهو الذى جعلكم خلائف الأرضورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم " (الأنعام : 165)

" نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا ، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون" (الزخرف : 32)

2- أن العمل هو سبب الرزق ، ومن ثم لا يستوى الذين يعملون والذين لا يعملون. وإذا كان من غير الممكن تحقيق التوازن بين الناس فى الجهد المبذول فإنه بالتالى لا يمكن تحقيق التوازن بينهم فى الناتج من المجهود.

" ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون " (الأنعام : 133)

" فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله " (الأنفال : 69)

" إنا لا نضيع اجر من أحسن عملا " (الكهف : 70)

" ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون " (الأحقاف : 19)

" كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون " (الطور : 19)

3 - أن التوازن بين الأفراد لا يعنى تجريد المجتهدين من أموالهم وتوزيعها على القاعدين . فالشريعة الإسلامية لا تجيز الغصب ، ولا تحل أخذ المال من صاحبه بغير طيب نفس صاحبه ، كما لا تحل أخذه بالباطل ، طالما أن المنتفع بالمال ملكه بالحق دون تعدى أو إغتصاب أو سرقة أو رشوة أو إختلاس أو تدليس أو ربا إلى آخر ما نهى عنه الشرع .

وهكذا فإن مفهوم التوازن فى المجتمع الإسلامى لا يقصد به تجريد الأغنياء من أموالهم وتوزيعها على الفقراء ليتساوى المجتمع فى الدخل . وإنما المقصود هو تحقيق حد أدنى معقول لمستوى المعيشة بين كافة الأفراد وهو حد كفاية الحاجة الضرورية التى لا غنى للمرء عنها واللازمة لاستقامة حياة الناس والتى إذا ما فقدت اختل نظام حياة الأفراد ، وعمت الفوضى ، وانتشر الفساد . فلا يكون هناك فقير معدوم أو محروم لا يجد قوت يومه أو يقاسى البرد والعرى . وبهذا تقترب الفوأصل ، وتضيق الهوة بين الأفراد وتصبح معيشة الغالبية بين الناس فى المستوى الذى يصون لكل منهم عقله وبدنه وعرضه ونسله.

والمشكلة التى تعانى منها المجتمعات الإسلامية فى هذا الزمان هى التفاوت الشديد فى مستوى معيشة الأفراد . فبينما أن هناك أفراد قد تخطوا حدود إشباع الضروريات والتيسيرات ويتمتعون بالتحسينات والكماليات ، فإن هناك أفرادا لا يستطيعون سد متطلبات حياتهم الضرورية من قوت أو كساء أو مأوى . لقد باتت الحياة بالنسبة لهؤلاء الذين لا يجدون ما يشبع حاجاتهم الأصلية ، حياة شاقة صعبة ، يسودها الحقد والحسد ، ويظلها مناخ من الجهل والمرض . فقل إقبالهم على العمل ، وانعدمت قدرتهم على اكتساب الرزق ، فزادهم ذلك فقرا على فقر . وفى ظل هذا المناخ انتشرت الفتن وعم الفساد واضطرب الأمن.

ولقد حرص النظام الإسلامى على حماية المجتمع من هذه الفتن والإضطرابات التى قد تنشأ نتيجة التفاوت الشديد فى مستوى المعيشة ، ففرض الزكاة وأوجب على سلطة الجماعة أن تتولى تحصيلها وإنفاقها فيما يوفر لذوى الحاجات حاجاتهم الضرورية . وأباح للجماعة أن تضع الضوابط التى تحد من الإستهلاك التيسيرى والتحسينى، وأن تفرض القيود التى تحول دون إكتناز الثروات أو حبس رؤوس الأموال عن وظيفتها الرئيسية وهى الإنتاج ، وأن ترسم الحدود والأبعاد التى تؤدى إلى إنشاء مجتمع قوى منتج ، يسعى أفراده جميعا نحو العمل بجدية وإتقان من أجل زيادة الإنتاج وكفاية المتطلبات الفردية بما لا يقل عن حد إشباع الضروريات ، وبما لا يبلغ حد السرف والتبذير ، كما أجاز للجماعة فرض ضرائب الإنفاق فى سبيل الله وما تراه كافيا لرفع شأن الإسلام ومستوى المسلمين علميا وإقتصاديا وعسكريا ، حتى لا يكون هناك فقير معدوم أو ضعيف محروم ، ويتفرغ الجميع لبناء المجتمع المسلم القوى