على أحمد على
03-13-2010, 09:18 AM
جوانب اقتصادية من بيت عمر بن عبد العزيز
كان عمر بن عبد العزيز رجلا جميلاً، محبًّا للنعيم والترف، وقد عرف في شبابه بالمدينة المنورة بكثرة التطيب، حتى كانت رائحتة تعصف في طرق المدينة، ويشمها القاصى والداني، وكان الناس ينتظرون ثيابه بباب الغسال ويعطونه دراهم كثيرة حتى يغسل ثيابهم في أثر ثيابه من كثرة ماحملت وماتتركه في الماء من عنبر وطيب.
وكان يتصنع مشية بين الكبر والتبختر كأنها مشية الجارية إذا كعبت، وقد صارت مشيته حديث جواري المدينة وكواعبها فأخذن يقلدن تلك المشية العمرية ويسرن على خطتها وموازينها حتى يرشقن إذا سرن وتحمل رشاقته في العيون.
وكان يرتدى أغلى الثياب، ويصير الثوب عنده باليا إذا لبسه ووقعت عليه أنظار الناس، وليس إذا بلى فعلا أو مر عليه زمن طويل، وقد غالى في ذلك وتمادى حتى كاد أن يجعل ماله كله في زينة الأثواب، حتى قال ذات مرة : "لقد خفت أن يعجز رزقي عن كسوتي! ومالبست ثوبا قط فرآه الناس على إلا خيل أنه قد بلى".
وقد بدت على عمر مظاهر التكبر والترف الأموي الصارخ، وانعكس ذلك على زوجته فاطمة بنت عبد الملك بن مروان التى كانت في بيت أبيها تعيش في رغد وترف، وانتقلت إلى بيت الزوجية على نفس ما كانت، فقد كان عمر يغدق على أهله ويكرمهم.
وبعد أن تولى عمر الخلافة تبدل حاله، فبعد أن كان بهى الوجه طري البشرة رغد العيش، نحل جسمه واخشوشن جلده، واصفر وجهه، وخبا ومض عيناه، زهدا في الدنيا وطمعا فيما عند ربه.
فما إن تولى الخلافة حتى أقبل عليه ابنه عبد الملك ذي السبعة عشر ربيعا طالبا منه رد المظالم التي أخذها أمراء بنى أمية من قبله إلى أهلها، وإلا صار شريكا للذين أخذوها ظلما، فانبسطت أسارير عمر واطمئنت نفسه، ودنا من ابنه وضمه إليه وقال : الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني، وأمر أن ينادي في الناس : ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، ورد المظالم إلى أهلها.
كما استوقف عمر زوجته فاطمة بنت عبد الملك التي عاشت عيشة الثراء وكانت مدللة في بيت أبيها، ويحيط بها العز من كل جانب، وخيرها بين البقاء معه مع تحمل تبعات الخلافة، أو الطلاق، فبكت وأبت إلا أن تكون معه على أية حال.
وأودع ما تملكه من ذهب ببيت المال، وكان يدخل عليها، فيسألها أن تقرضه من مالها، وذات مرة استقرضها درهمًا ليشتري عنبًا لها، فلم يجد عندها شيئًا، فقالت له: أنت أمير المؤمنين، وليس في خزانتك ما تشترى به عنبًا؟ فقال: هذا أيسر من معالجة الأغلال والأنكال غدًا في نار جهنم.
ودخلت عليه زوجته فاطمة يومًا، وهو جالس في مصلاه، واضعًا يده على وجهه، ودموعه تسيل على خديه، فقالت له: مالكَ؟ قال: ويحك يا فاطمة! قد وليتُ من أمر هذه الأمة ما وليت، ففكرتُ في الفقير الجائع، والمريض الضائع، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب، والأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثيرة، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض، وأطراف البلاد، فعلمتُ أن ربي -عز وجل- سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيتُ ألا يثبت لي حجة عند خصومته، فرحمتُ نفسي فبكيت.
ولما حضرت الوفاة عمر دخل عليه مسلمة بن عبد الملك بن مروان –أحد كبار أمراء بن أمية وعقلائهم وقادة جيشهم- وقال : إنك يأمير المؤمنين قد فطمت أولادك عن هذا المال. فحبذا لو أوصيت بهم إلي أو إلى من تفضلهم من أهل بيتك...فلما انتهى من كلامه قال عمر : أجلسوني.. فأجلسوه، فقال :قد سمعت مقالتك يا مسلمة، أما قولك إني قد فطمت أولادي عن هذا المال...فإني والله ما منعتهم حقا هو لهم، ولم أكن لأعطيهم شيئا ليس لهم.
وأما قولك : لو أوصيت بهم إلي أو إلى من تفضلهم من أهل بيتك... فإنما وصيى وولي فيهم الله الذي نزل الكتاب بالحق، وهو يتولى الصالحين.
واعلم يا مسلمة أن أبنائي أحد رجلين : إما رجل صالح متق، فسيغنيه الله من فضله، ويجعل له من أمره مخرجا... وإما رجل طالح مكب على المعاصي، فلن أكون أول من يعينه بالمال على معصية الله تعالى... ثم قال: ادعوا لي بنى .. فدعوهم، وهم بضعة عشر ولدا، فلما رآهم ترقرت عيناه وقال: بنفسي فتية تركتهم عالة لاشئ لهم.. وبكى بكاء صامتا .. ثم التفت إليهم وقال : أي بنى .. إني قد تركت لكم خيرا كثيرا.. فإنكم لاتمرون بأحد من المسلمين أو أهل ذمتهم إلا رأوا أن لكم عليهم حقا..يابنى إن أمامكم خيارا بين أمرين : فإما أن تستغنوا، ويدخل أبوكم النار، وإما أن تفتقروا، ويدخل الجنة.. ولاأحسب إلا أنكم تؤثرون إنقاذ أبيكم من النار على الغنى.. ثم نظر إليهم في رفق وقال : قوموا عصمكم الله..قوموا رزقكم الله..
فالتفت إليه مسلمة وقال : عندى ما هو خير من ذلك يا أمير المؤمنين.. فقال : وما هو؟..قال: لدى ثلاثمائة ألف دينار، وإني أهبها لك ففرقها فيهم، أو تصدق بها إن شئت.
فقال له عمر: أو خير من ذلك يا مسلمة؟.. فقال: وما هو ياأمير المؤمنين؟ قال: تردها إلى من أخذت منه، فإنها ليست لك بحق... فترقرقت عينا مسلمة وقال: رحمك الله يا أمير المؤمنين حيا وميتا..فقد ألنت منا قلوبا قاسية، وذكرتها وقد كانت ناسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكرا.
وقد تتبع الناس أخبار أبناء عمر من بعده فما عرف أبناءه للحاجة سبيلا، وما عرف لهم الفقر طريقا، وصدق الله العظيم إذ يقرر حقيقة الضمان الاجتماعي الرباني في قوله تعالى: ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا ) النساء، 9.
رحم الله عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين ورضي عنه وأرضاه فقد كان أمة وحده، ورحم الله فاطمة زوجته فقد كانت مثالا يحتذي به لإيثار ماعند الله على متاع الدنيا الزائل.
مقال للدكتور / أشرف دوابه
رئيس قسم العلوم الإدارية والمالية بكلية المجتمع جامعة الشارقة .
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
عضو جبهة علماء الأزهر
عضو الهيئة الإسلامية العالمية للاقتصاد والتمويل
عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع
هذه المشاركة قام بنشرها زميلنا المشرف الأستاذ/الأسكندرانى
كان عمر بن عبد العزيز رجلا جميلاً، محبًّا للنعيم والترف، وقد عرف في شبابه بالمدينة المنورة بكثرة التطيب، حتى كانت رائحتة تعصف في طرق المدينة، ويشمها القاصى والداني، وكان الناس ينتظرون ثيابه بباب الغسال ويعطونه دراهم كثيرة حتى يغسل ثيابهم في أثر ثيابه من كثرة ماحملت وماتتركه في الماء من عنبر وطيب.
وكان يتصنع مشية بين الكبر والتبختر كأنها مشية الجارية إذا كعبت، وقد صارت مشيته حديث جواري المدينة وكواعبها فأخذن يقلدن تلك المشية العمرية ويسرن على خطتها وموازينها حتى يرشقن إذا سرن وتحمل رشاقته في العيون.
وكان يرتدى أغلى الثياب، ويصير الثوب عنده باليا إذا لبسه ووقعت عليه أنظار الناس، وليس إذا بلى فعلا أو مر عليه زمن طويل، وقد غالى في ذلك وتمادى حتى كاد أن يجعل ماله كله في زينة الأثواب، حتى قال ذات مرة : "لقد خفت أن يعجز رزقي عن كسوتي! ومالبست ثوبا قط فرآه الناس على إلا خيل أنه قد بلى".
وقد بدت على عمر مظاهر التكبر والترف الأموي الصارخ، وانعكس ذلك على زوجته فاطمة بنت عبد الملك بن مروان التى كانت في بيت أبيها تعيش في رغد وترف، وانتقلت إلى بيت الزوجية على نفس ما كانت، فقد كان عمر يغدق على أهله ويكرمهم.
وبعد أن تولى عمر الخلافة تبدل حاله، فبعد أن كان بهى الوجه طري البشرة رغد العيش، نحل جسمه واخشوشن جلده، واصفر وجهه، وخبا ومض عيناه، زهدا في الدنيا وطمعا فيما عند ربه.
فما إن تولى الخلافة حتى أقبل عليه ابنه عبد الملك ذي السبعة عشر ربيعا طالبا منه رد المظالم التي أخذها أمراء بنى أمية من قبله إلى أهلها، وإلا صار شريكا للذين أخذوها ظلما، فانبسطت أسارير عمر واطمئنت نفسه، ودنا من ابنه وضمه إليه وقال : الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني، وأمر أن ينادي في الناس : ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، ورد المظالم إلى أهلها.
كما استوقف عمر زوجته فاطمة بنت عبد الملك التي عاشت عيشة الثراء وكانت مدللة في بيت أبيها، ويحيط بها العز من كل جانب، وخيرها بين البقاء معه مع تحمل تبعات الخلافة، أو الطلاق، فبكت وأبت إلا أن تكون معه على أية حال.
وأودع ما تملكه من ذهب ببيت المال، وكان يدخل عليها، فيسألها أن تقرضه من مالها، وذات مرة استقرضها درهمًا ليشتري عنبًا لها، فلم يجد عندها شيئًا، فقالت له: أنت أمير المؤمنين، وليس في خزانتك ما تشترى به عنبًا؟ فقال: هذا أيسر من معالجة الأغلال والأنكال غدًا في نار جهنم.
ودخلت عليه زوجته فاطمة يومًا، وهو جالس في مصلاه، واضعًا يده على وجهه، ودموعه تسيل على خديه، فقالت له: مالكَ؟ قال: ويحك يا فاطمة! قد وليتُ من أمر هذه الأمة ما وليت، ففكرتُ في الفقير الجائع، والمريض الضائع، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب، والأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثيرة، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض، وأطراف البلاد، فعلمتُ أن ربي -عز وجل- سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيتُ ألا يثبت لي حجة عند خصومته، فرحمتُ نفسي فبكيت.
ولما حضرت الوفاة عمر دخل عليه مسلمة بن عبد الملك بن مروان –أحد كبار أمراء بن أمية وعقلائهم وقادة جيشهم- وقال : إنك يأمير المؤمنين قد فطمت أولادك عن هذا المال. فحبذا لو أوصيت بهم إلي أو إلى من تفضلهم من أهل بيتك...فلما انتهى من كلامه قال عمر : أجلسوني.. فأجلسوه، فقال :قد سمعت مقالتك يا مسلمة، أما قولك إني قد فطمت أولادي عن هذا المال...فإني والله ما منعتهم حقا هو لهم، ولم أكن لأعطيهم شيئا ليس لهم.
وأما قولك : لو أوصيت بهم إلي أو إلى من تفضلهم من أهل بيتك... فإنما وصيى وولي فيهم الله الذي نزل الكتاب بالحق، وهو يتولى الصالحين.
واعلم يا مسلمة أن أبنائي أحد رجلين : إما رجل صالح متق، فسيغنيه الله من فضله، ويجعل له من أمره مخرجا... وإما رجل طالح مكب على المعاصي، فلن أكون أول من يعينه بالمال على معصية الله تعالى... ثم قال: ادعوا لي بنى .. فدعوهم، وهم بضعة عشر ولدا، فلما رآهم ترقرت عيناه وقال: بنفسي فتية تركتهم عالة لاشئ لهم.. وبكى بكاء صامتا .. ثم التفت إليهم وقال : أي بنى .. إني قد تركت لكم خيرا كثيرا.. فإنكم لاتمرون بأحد من المسلمين أو أهل ذمتهم إلا رأوا أن لكم عليهم حقا..يابنى إن أمامكم خيارا بين أمرين : فإما أن تستغنوا، ويدخل أبوكم النار، وإما أن تفتقروا، ويدخل الجنة.. ولاأحسب إلا أنكم تؤثرون إنقاذ أبيكم من النار على الغنى.. ثم نظر إليهم في رفق وقال : قوموا عصمكم الله..قوموا رزقكم الله..
فالتفت إليه مسلمة وقال : عندى ما هو خير من ذلك يا أمير المؤمنين.. فقال : وما هو؟..قال: لدى ثلاثمائة ألف دينار، وإني أهبها لك ففرقها فيهم، أو تصدق بها إن شئت.
فقال له عمر: أو خير من ذلك يا مسلمة؟.. فقال: وما هو ياأمير المؤمنين؟ قال: تردها إلى من أخذت منه، فإنها ليست لك بحق... فترقرقت عينا مسلمة وقال: رحمك الله يا أمير المؤمنين حيا وميتا..فقد ألنت منا قلوبا قاسية، وذكرتها وقد كانت ناسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكرا.
وقد تتبع الناس أخبار أبناء عمر من بعده فما عرف أبناءه للحاجة سبيلا، وما عرف لهم الفقر طريقا، وصدق الله العظيم إذ يقرر حقيقة الضمان الاجتماعي الرباني في قوله تعالى: ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا ) النساء، 9.
رحم الله عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين ورضي عنه وأرضاه فقد كان أمة وحده، ورحم الله فاطمة زوجته فقد كانت مثالا يحتذي به لإيثار ماعند الله على متاع الدنيا الزائل.
مقال للدكتور / أشرف دوابه
رئيس قسم العلوم الإدارية والمالية بكلية المجتمع جامعة الشارقة .
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
عضو جبهة علماء الأزهر
عضو الهيئة الإسلامية العالمية للاقتصاد والتمويل
عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع
هذه المشاركة قام بنشرها زميلنا المشرف الأستاذ/الأسكندرانى